التاريخ المنسي  العالم ادريس البدليسي

التاريخ المنسي العالم ادريس البدليسي

0 المراجعات

في زحمة أسماء كثيرة مرت في تاريخنا، هناك بعض الشخصيات التي لا تُنسى، لأنها لم تترك فقط كتبًا أو أقوالًا، بل تركت أثرًا حيًّا يلمسه كل من يقرأ لها. من بين هؤلاء يبرز اسم إدريس البدليسي، رجل علم وأدب عاش في القرن الخامس عشر، أحب المعرفة، وكتبها بأسلوب مختلف، صادق، وهادئ.

ولد إدريس في مدينة "بدليس"، شرق الأناضول، في أسرة مهتمة بالعلم والدين. ومنذ صغره، كان يميل إلى القراءة وحفظ الشعر والتأمل في الكلام. لم يكن من الأطفال العاديين، كان يسأل كثيرًا، ويفكر طويلًا، ويبحث عن المعاني خلف الكلمات.

كبر وتعلّم الفقه واللغة العربية والفارسية، وسافر من مدينة إلى أخرى ليطلب العلم. لكنه لم يكن مجرد متعلم، بل كان يحب أن يفهم، ويشرح، ويعلّم. جمع بين العلم والدين، وبين حب الكتب وفهم الحياة.

ما ميّز إدريس البدليسي هو طريقته في الكتابة. لم يكن يكتب كما يكتب أغلب المؤرخين، بل كان يروي الأحداث بأسلوب فيه ذوق وفن. كان يستخدم الكلمات كأنها نغمات، فيجعل القارئ ينسجم مع النص، ويتعلّم دون أن يشعر بالملل.

من أشهر كتبه كتاب اسمه "هشت بهشت"، أي "الجنات الثمان"، كتبه باللغة الفارسية، وفيه حكى عن سيرة ثمانية من سلاطين الدولة العثمانية. لكنه لم يكتب تاريخهم بالطريقة الجافة المعتادة، بل كتب بأسلوب إنساني، فيه دروس وعِبر، وفيه أيضًا لمسات أدبية تجذب القارئ وتجعله يتأمل لا فقط يقرأ.

كان إدريس أيضًا شاعرًا، يكتب بلغة بسيطة وعميقة في آنٍ واحد. لم يكن هدفه أن يصبح مشهورًا أو أن يمدح أحدًا، بل كان يكتب لأنه يحب التعبير، ويؤمن أن الكلمة لها قيمة. كان يرى أن وظيفة الكاتب أو المؤرخ ليست فقط نقل الأحداث، بل أيضًا تقديم معنى، وفهم، وتجربة.

عاش إدريس عمرًا هادئًا، مليئًا بالقراءة والتأمل والتعليم. وكان بيته مفتوحًا لمن أراد أن يتعلّم. أحبه الناس لعلمه وتواضعه، واحترموه لأنه لم يتكبّر بعلمه، ولم يستخدمه ليهاجم الآخرين، بل كان داعيًا للهدوء والفهم والتسامح.

في سنة 1520م، رحل إدريس البدليسي عن الدنيا، لكن كتبه وأفكاره ما زالت بيننا. ورغم أن القرون مضت، فإن اسمه لا يزال يُذكر في كتب التاريخ، وتُقرأ كلماته في الجامعات والمجالس العلمية.

ما يجعل إدريس مميزًا هو أنه لم يكن مجرد "كاتب تاريخ"، بل كان إنسانًا يكتب بروح، ويُفكّر بعقل، ويشعر بقلب. وكان يؤمن أن الكلمة الصادقة قد تُغيّر عقلًا، وقد تُنير طريقًا، وقد تُخلّد إنسانًا.

في عالم اليوم، حيث الكلام كثير والفائدة قليلة، تذكّرنا سيرة إدريس البدليسي أن البساطة ليست ضعفًا، وأن العمق لا يعني التعقيد، وأن العالم الحقيقي هو من يُحبّ المعرفة لذاتها، ويمنحها للناس كما يمنح النبع ماءه، بهدوء وصفاء.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

1

متابعهم

0

متابعهم

2

مقالات مشابة