
إنجلترا في القرن السادس عشر (عصر أسرة تيودور) 1485- 1603م
إنجلترا في القرن السادس عشر (عصر أسرة تيودور) 1485- 1603م
يبدأ تاريخ الشعب الإنجليزي كأمة حديثة منذ فتح النرمنديون بلادهم عام 1066م بقيادة وليم الفاتح دوق نرمندية، وقد استوطن النورمنديون البلاد وتناسلوا مع أهلها الإنجليز، ومن امتزاجهم نشأ الشعب الإنجليزي الحديث تحت حكم ملوك أقوياء لم يقتصر حكمهم على إنجلترا فقط بل أصبحت نرمندية تابعة للتاج الإنجليزي منذ أن اتخذ وليم الفاتح إنجلترا مقرا له، ثم اتسعت الأملاك الإنجليزية في فرنسا وأدى ذلك إلى ما يعرف باسم " حرب المائة سنة" وهي الحرب التي كان لها أبعد الآثار في تاريخ الدولتين، والتي يرجع اصلها إلى تصميم ملوك إنجلترا على البقاء في ممتلكاتهم الفرنسية، وإلى عزم ملوك فرنسا على إجلاء الإنجليز عن بلادهم، وأخيراً لم يستطع الإنجليز الاحتفاظ بالأراضي الفرنسية التي كانت تابعة لهم لأن الشعب الفرنسي نفسه أخذته العزة القومية وثار ضد الاحتلال الإنجليزي وتجلت قوته الوطنية فيما قامت به جان دارك من بطولة نادرة، إذ تألبت بفضل حماستها وتضحيتها جميع القوى التي طردت الإنجليز من الأراضي الفرنسية وبعد عامين فقط من جلاء الإنجليز عن فرنسا شبت بإنجلترا نفسها حرب أهلية وهي" حرب الوردتين" (1455-1485م) وهي الحروب التي سميت بهذا الاسم، إشارة إلى الوردة البيضاء التي كانت شعار آل يورك، والوردة الحمراء التي كانت شعار آل لانكستر، وهما أسرتان تنتميان إلى أصل واحد ولكنهما تنازعا على العرش.
وقد فاز آل يورك في حرب الوردتين عام 1471م، إلا أن ملكهم (ريتشارد الثالث) لم يكن موفقا في حكمه، وأغضب الشعب بارتكاب أفعال منكرة منها قتل ابني أخيه إدوارد الرابع، فاستطاع " هنري تيودور من أسرة لانكستر أن يكتسب تأييد الشعب وينتزع العرش من أسرة يورك ويؤسس أسرة تيودور القوية التي قدر لها أن تقود البلاد حقبة من الزمن كانت مليئة بالمصاعب الدينية والسياسية، وقد اعتلى هنري تيودور الحكم باسم هنري السابع.
هنري السابع (1485-1509م):
يعتبر إعتلاء هذا الملك الجديد عرش البلاد أهم حدث في تاريخ إنجلترا في ختام القرن الخامس عشر فقد أنهى عهداً طويلاً من الحروب الإقطاعية التي أضعفت الكيان القومي للبلاد. وكان عهده فاتحة لعصر تقدم اقتصادي كبير. قام على سواعد أفراد من الطبقة الوسطى، قاموا بمغامرات وراء البحار حيث أفسحت الكشوف الجغرافية طريقا للاستغلال الاقتصادي.
هذا إلى أن حركة النهضة وإحياء العلوم وحركة الإصلاح الديني كان لها أثرها في انتعاش الفكر واتساع الأفق، فانصرف الناس في إنجلترا إلى اكتساب العلوم وجمع الثروة عن طريق التجارة، ولم تعد الخلافات السياسية أو الطائفية تهمهم كثيرا. وأصبح الملك صاحب الحل والعقد في الشئون السياسية.
وكانت الروح الاستبدادية هي السائدة في أوروبا في ذلك العصر. ففي إسبانيا قضى كل من شار الخامس وفيليب الثاني على كل الحقوق الدستورية.
وفي فرنسا أخذ مجلس الأمة النيابي يضعف بالتدريج حتى ألغي نهائيا عام 1614م . أما إنجلترا فقد ظلت تتمتع بالحكم النيابي حتى جاء هنري السابع الذي كان معتدا بسطوته وقوته، فتظاهر بالتمسك بقوانين البلاد وأنظمة البرلمان. إنما كان ذلك في المظهر لا في الجوهر، وقد سار ابنه هنري الثامن على نهج أبيه، كلاهما لم يعبأ بأنظمة البرلمان ولكنهما كانا يسعيان إلى جعل السلطة كلها للملك عن طريق التسلط على أعضاء البرلمان وإغرائهم بشتى الوسائل ليكونوا أدااة طيِّعة في يد الملك. وبذلك ضعف الحكم النيابي في عهد أسرة تيودور ، إلا أنها لم تتبدد نهائياً إلى أن أتيح لها فرص العودة والنمو والانتعاش حتى أصبحت السلطة الفعالة في الدولة.
ولم يجد ملوك أسرة تيودور معارضة لسلطاتهم وساعدهم على التسلط أن معظم الأسرات الكبيرة انهارت خلال الحروب الطويلة التي كانت تقوم بينها وزال النظام الإقطاعي، وبلغت إنجلترا في عهد أسرة تيودور درجة من الانسجام القومي لم تشهده من قبل.
واستطاع هنري السابع أن يعيد السلام والهدوء إلى البلاد، وفي مقابل ذلك استطاع تدعيم الملكية بإصدارعدة قوانين أهمها القانون الخاص بتأسيس غرفة النجم Star Chamber عام 1487م وهي بمثابة محكمة ذات سلطات واسعة لمراقبة تصرف النبلاء ومحاكمتهم، وقانون آخر يقضي بتقديم المعارضين لحكومة الملك، وكذلك الذين يؤيدون المطالبين بالعرش إلى المحاكمة بتهتمة الخيانة، وقانون ثالث لمنع النبلاء من جمع الأتباع طمعا في النفوذ وأخيرا أصدر قانوناً يفرض سيطرة الملكية على شئون الصناعة. وهكذا استطاع هنري السابع أن يؤسس ملكية ذات سلطة تكاد تكون مطلقة ولكنها لم تكن تمثل الملكية الاستبدادية التي سادت أوروبا في العصور الحديثة.
ولم يهتم هنري بالحروب، وكانت سياسته تتجه إلى التقارب مع أسبانيا عن طريق مصاهرة المالك فيها. ففي سنة 1501م زوج ابنه آرثر بالأميرة كاترين بنت فرديناند ملك إسبانيا ، ولم يدم هذا الزواج طويلاً، إذ مات آرثر بعد خمسة شهور من زواجه فعمد هنري السابع إلى عقد زواج ثاني أبناء هنري من كاترين زوجة أخيه الراحل وكان ذلك منافيا لقوانين كنيسة روما، ومع ذلك فقد منحه البابا إذنا بذلك، كذلك وطد العلاقة التي تربط بين العرش الإنجليزي وعرش اسكتلندا، وذلك بزواج ابنته مرجريت بجيمس الرابع ملك اسكتلندا (1503م) ، وكان ذلك الزواج نواة للتفكير في توحيد المملكتين.
هنري الثامن (1509- 1547م):
اعتلى هنري الثامن العرش بعد وفاة والده عام 1509م . ويختلف عهده عن عهد أبيه اختلافاً بينا، إذ كان الإنجليز قد سئموا عهد أبيه الراكد الذي لمن يمنح إنجلترا قوة دولية تبهر الأنظار، وكان هنري الثامن على استعداد للقيام بأعمال في الخارج يرفع بها اسمه واسم بلاده وكان المحرك لسياسته هو الوزير العظيم تومس ولزاي الذي تربى في الكنيسة تربية دينية ووصل بذكائه وكفاءته إلى منصب رئيس أساقفة يورك ثم ارتقى مستشاراً دينيا فكردنالا إلى أن وصل إلى رتبة نائب البابا، وبذلك أصبح مسيطرا على الكنيسة الإنجليزية. وعندما أصبح وزيرا لهنري الثا من، كان اليد المحركة لسياسة الملك.
وقد خاضت إنجلترا عدة حروب خارجية ضد فرنسا منذ عام 1513م ، ثم تجددت في عام 1522م ، وفيعام 1525م إلى أن تهادنت مع هنري على أن تدفع له إتاوة سنوية. كذلك حاولت اسكتلندا في عهده غزو إنجلترا ولكنها هزمت وقتل ملكها (1513م) وهادنتها إنجلترا مشترطة عليها ألا تمد يد المساعدة لفرنسا.
وقد ناصر هنري الثامن إسبانيا ضد فرنسا في الحلف المقدس عام 1511م ، وقامت قوات إنجليزية بغزو فرنسا، وحازت بعض الانتصارات على الأرض الفرنسية.
وعندما كانت الحرب دائرة بين فرانسوا الأول وشارل الخامس انحاز هنري الثامن إلى إسبانيا بتأثير من سياسة " وُلزي" ، ولكن عندما حدث واقعة يافيا (1525م) التي انهزم فيها فرنسوا حول هنري تحالفه إلى عدوته فرنسا احتفاظاً بمبدأ التوازن الدولي . ومع ذلك فلم تستطع إنجلترا تحقيق أي مكاسب من إقحام نفسها على هذه الحروب.
طلاق كاترين الأراجونية:
كان هنري الثامن عاطفيا مغرماً بالمرح واللذة الشخصية، وقد ولدت له كاترين عديداً من الأطفال لم يعش منهم سوى الأميررة اري ولم تنجب له ولداً يكون وليا للعهد، وكانت كاترين أكبر منه سناً ولا تشارك زوجها في نوازعه وميوله الشخصية. وفي الوقت نفسه كان متعلقاً بحب آن بولين إحدى سيدات البلاط ووصيفة الملكة، فقرر أن يتخلص من الملكة ليتزوج الوصيفة.
وكان الأمر يبدو صعباً، إذ لا بد من صدور قرار من البابا يجيز له طلاق كاترين، ولا بد من إيجاد سبب يستند إليه البابا في إصدار قرار بعدم شرعية زواج هنري الثامن من كاترين. وكان من عادة البابوات أن يستجيبوا في بعض الأحيان لرغبات الملوك، ولكن في ذلك العام 1527م ، كانت القوات الإسبانية قد دخلت روما واحتلتها، وأخذ البابا " كلمنت السابع" أسيراً عند الإمبراطور شارل الخامس وأصبح خاضعاً لنفوذه ولا يسعه إغضابه.
وحاول الكردينال ولزي أن يستصدر من روما قرار يلغي قرار البابا الأسبق يوليوس الثاني الذي أتاح زواجهما ولكنه أخفق . ولما كان ولزي هو صاحب الرأي في استصدار قرار الإلغاء من روما فقد حقد عليه الملك وعزله وصادر أملاكه واتهمه بالخيانة ولكنه مات قبل المحاكمة سنة 1530م.
توماس كرمويل:
ولما طالت مراوغة البابا في مسألة طلاق كاترين، تفاقم الخلاف بين هنري الثامن والكنيسة البابوية، واختارا لملك رجلا كان يعمل تحت رئاسة الكاردينال ولزي، ولكنه كان أصلب عودًا من الكاردينال ، ويعتنق مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة" وهو توماس كرمويل، الذي أشار على الملك بالانفصام عن كنيسة روما وفصل كنيسة إنجلترا ووضعها تحت سيادة الملك، وذلك بأن يحذو الملك حذو الأمراء الألمان الذين تخلصوا من سلطان البابوية ونبذوا كنيسة روما وأنشأوا كنائس أهلية.
وقد اقتنع هنري بهذا الحل واعتبر نفسه زعيما من زعماء الإصلاح الديني، ولكنه كان في داخلية نفسه يهدف إلى توحيد السيادة في البلاد، إذ كانت تقتسم السيادة قبل ذلك سلطان : سلطة الكنيسة ممثلة في شخص البابا رئيسها الأعلى، وسلطة الملكية، وبالتخلص من سيادة الكنيسة البابوية يستطيع تحقيق مآربه الثلاث الكبرى. طلاق كاترين والزواج من آن بولين، الاستيلاءعلى الأموال التي كانت ترسل في الأصل إلى كنيسة روما، وتدعيم سلطانه على الدولة الحديثة بفضل سيطرته وسيادته على جميع رعاياه.
واستطاع الملك توماس كرمويل أن يحقق استقلال الكنيسة الإنجليزية ويكون هو رئيسها الأعلى، واستطاع أن يحقق رغبته في طلاق كاترين والزواج من آن بولين. وأن يملأ خزانته بالأموال التي كانت تتدفق من إنجلترا على كنيسة روما، وأن يصبح صاحب السلطان الأوحد على رعاياه .
وفي عام 1533م أصدر الملك مرسوما بتعيين توماس كرانمر رئيساً لأساقفة كنتربري، وقد رفض البابا كلمنت السابع أن يوافق على تعيينه، ولكن هنري الثامن لم يعبأ برفض البابا، واستصدر من كرانمر إعلانا بإلااء زواجه من كاترين والموافقة على زواجه من آن بولين. وكان ذلك في مايو 1533م ، وبعد ذلك بعدة أسابيع أًصدر البابا قرار الحرمان ضد هنري الثامن الذي كان قد تزوج آن بولين سرا قبل أن يصدر رئيس أساقفة كنتربري موافقته الرسمية وأنجب منها " إليزابيب"، التي جعلها وريثة للعرش من بعده، وألغى حق ابنته " ماري" التي أنجبها من زوجته الأولى على اعتبار أنها ولدت من زوجة غير شرعية.
وفي نوفمبر 1534م ، أصدر الألمان " قانون السيادة العليا" الذي نص فيه على أن الملك هو الرئيس الأعلى للكنيسة الإنجليزية وله كل السلطات الروحية والقانونية التي كان البابوات يتمتعون بها في إنجلترا ، ومعاقبة كل من يتعرض لشخص الملك وحقوقه. ثم صدر قانون حل الأديرة الصغيرة، وتبعه قانون آخر بحل الأديرة الكبيرة حتى أصبح عدد الأديرة التي حلت حوالي ستمائة دير ذهب إيرادها الكبير لخزانة الملك، وبإضافة هذا الإيراد إلى ما صودر من إيراد الكنيسة في أراضيها وممتلكاتها ، يكون الملك قد استولى على ما يقرب من خُمس الأراضي الزراعية بالبلاد، فضلا عن مقادير كبيرة من الثروة المنقولة وترتب على هذا ازدياد قوة الملكية، والإقدام على عدة مشروعات لتقوية الدولة نفسها فأنشأ هنري الثامن أسطولا قويا، وحصن الشواطئ، بل إنه استطاع أن يقوم بحرب ضد فرنسا (1543- 1546م) ويدمج بلاد الغال في إنجلترا ونظامها الحكومي وتقسيمها الإداري، وشرع في تنظيم إيرلندا ووحد بين شمال إنجلترا وجنوبها وحاول قبيل موته أن يضم اسكتلندا إلى التاج الإنجليزي ولكنه فشل في هذا السبيل.
وقد أدت حياته العائلية المتغيرة إلى تغيير نظام الوراثة لمن يخلفه، فقد تخلص من زوجته آن بولين وتزوج بعدها جين سيمون، وثلاث أخريات متتاليات، ولكنه أنجب ابنه إدوارد من جين سيمون الذي استصدر له من البرلماننم قانونا بجعل ولاية العهد من نصيبه، فإذا مات من غير وريث خلفته اخته " ماري" بنت كاترين، فإذا لم تكن لها وريث خلفتها أختها إليزابيث.
وهكذا انتقل الملك إلى ابنه إدوارد السادس وفي الوقت نفسه اعترف القانون بشرعية بنوة ماري ابنة كاترين. وفي سنة 1547م مات هنري الثامن وخلفه ابنه إدوارد السادس.
الملك إدوارد السادس (1547-1553م) والبروتستنتية:
كان إدوارد السادس لا يزال قاصراً في العاضرة من عمره عندما مات أبوه.
فأقليم عليه خاله " إرل هرتفورد" وصياً، وقد منحه الملك لقب دوق سمرست واعتبر دوق سمرست صاحب الحماية على الملكة. وقد حدث تغيير جذري في العقيدة الإنجليزية في ذلك العهد، فقد كانت سمرست على المذهب البروتستنتي ولذلك ألغى كل القوانين التي اضطهدت البروتستنت، ثم تحول لمناهضة الكاثوليك وأغلق كثيرا من كنائسهم، وحول دخلها إلى خزينة الملك، وكانت نشأة الملك بروتستنتية، وفي عهده سارت حركة الإصلاح ا لديني شوطا بعيدا ومن ذلك إصدار كتاب الصلوات العامة باللغة الإنجليزية، وهو الكتاب الذي طبع الكنيسة البروتستنتية بطابع قومي وجعل الفردية وحرية الاعتقاد أساساً للبروتستنتية الإنجليزية.
حاول " سمرست" أن يقوم بعمل من شأنه التخفيف عن الطبقة الفقيررة التي أضيرت بسبب أطماع كبار الملاك، فتعرض لسخط الفريقين، إذ اعتبره كبار الملاك مسئولاً عن اضطراب البلاد، واتهموه بأنه كان مبذراً في أموال البلاد، وأنه جمع لنفسه ثروة طائلة من مال الكنيسة، كذلك غضب عليه الرأي العام بسبب الدعايات التي دبرت ضده، وأدى كل ذلك في النهاية إلى القبض عليه وخلعه من منصبه عام 1549م . ثم كان نصيبه الإعدام عام 1552م.
وخلفه في منصبه إيرل وارك ، وهو أحد الأشراف من كبار ملاك الأراضي والذي كان له الفضل في إخماد ثورة الفلاحين. وقد منحه الملك لقب دوق نورثمبرلند . وكان من دهاة السياسة.
ولما مرض الملك إدوارد السادس وأشرف على الموت عام 1552م ، رأى الدوق نورثمبرلند أن سلطانه مهدد بالزوال إذا آل العرش إلى ماري التي كانت كاثوليكية متعصبة، لذلك سعى في تحريض الملك على أن يحدث تغييراً في نظام الوراثة من بعده، بأن نلى العرش ليدي جين جراي ، وهي حفيدة لإحدى شقيقات الملك هنري الثامن، وكانت حجته في هذه الفكرة أن ماري واليزابيث ابنتين غير شرعيتين، ولكن مؤامرته فشلت لأن الشعب لم يكن راضياً عن هذه الخطوة، فقد كان للوريثة الشرعية " ماري" أنصار كثيرون فمن يدافعون عن مبدأ شرعية العرش القانونية. وتولت الحكم صاحبة الحق فيه الأميرة " ماري" ابنة هنري الثامن من زوجته الأولى كاترين الأرجونية.
الملكة ماري (1552- 1558م):
وكانت ماري شديدة التدين والتمسك بالكاثوليكية، ولذلك كان أول قرار اتخذته هو إعادة العلاقات مع كنيسة روما، ثم ألغت جميع القوانين الدينية التي سُنت في عهد إدوارد السادس، هذا إلى أنها تزوجت " فيليب الثاني ملك إسبانيا أشد الملوك تعصباً للكاثوليكية وقد أثار هذا الزواج غضب الشعب الإنجليزي كله لما كان يحمله من بغض للإسبان وقد ترتب على هذا الزواج قيام ثورة بانجلترا تزعمها السير توماس ويت ولكن تمكنت الملكة من القضاء على الثوار وأعدم زعيم الثورة. وأمرت في الوقت نفسه بإعدام جين جراي مع أنها لم تكن لها يد في قيام تلك الثورة.
وقد كان زواجها من فيليب شؤماً عليها وعلى البلاد، فلم يكن هناك من يرضى أن تصبح إنجلترا تابعة لإسبانيا، وعندما جاء فيليب إلى إنجلترا لفظته البلاد ولم يطب له العيش فيها، فغادرها ذاهبا إلى الأراضي المنخفضة، ومن ذلك الحين لم يعد إلى إنجلترا إلا عندما وصلها ليحرض الملكة ماري على أن تشترك معه في الحرب ضد فرنسا، ولبت ماري دعوته وكانت العاقبة وخيمة على البلاد. وذلك أن الإنجليزي كانوا قد أهملوا تحصين كاليه، فلما نشبت الحرب بينهم وبين فرنسا انتزع الفرنسيون المدينة عام 1558م ، ولم تكسب إنجلترا من مغامرة ملكتها سوى ضياع ميناء كاليه التي بقيت لها من فتوحاتها بالقارة الأوروبية في العصور الوسطى.
وضج الشعب من سوء الحال وزاد عدد الداخلين في المذهب البروتستنتي فقد ارتبطت الكاثوليكية في ذهنهم بالدماء المراقة، وتضحية المصالح الإنجليزية في سبيل إسبانيا .و كان معظم الإنجليز يخشوون أن ينجب زواجها بفيليب وليا للعهد تجري في عروقه الدماء الأجنبية، ولكنها ماتت قبل أن تحل تلك الكارثة وخلفتها على العرش أختها إليزابيث .
الملكة اليزابيث (1558-1603م):
اعتلت إليزابيث العرش وعمرها خمس وعشرين سنة وحكمت البلاد حتى بلغت السبعين من عمرها ، ويعتبر عهدها الطويل من أزهر عصور التاريخ البريطاني حتى أن المؤرخين أطلقوا على النصف الثاني من القرن السادس عشر" عصر إليزابيث" وفيه نمت القومية البريطانية وأصبح لبريطانيا السيادة البحرية التي ساعدت على رقي البلاد ، وفيه توطد نهائيا نظام الكنيسة الإنجليكانية، واتسع النشاط البرلماني وازدهرت الحياة الأدبية.
وقد اشتهرت إليزابيث بقوة الإرادة والمشاركة الفعلية في حكم البلاد رغم أنها استخدمت رجالا أكفاء ولكنها لم تتنازل عن دورها كملكة قوية لأنها كانت معتدة بنفسها معتقدة أن إنجلترا في ذلك العهد أحوج ما تكون إلى حاكم قوي، ولذلك كان عصرها عصر قوة وتفوق لإنجلترا.
وقد استطاعت إليزابيث أن تطبع إنجلترا بالطابع البروتستنتي على الرغم من أنها لم تتعمق في دراسة أي من المذهبين، ولم تتعصب في داخلية نفسها لأيهما، ولم تستهوها العواطف الدينية، ولذلك لم تتعجل في قطع العلاقات مع كنيسة روما.
ولم يسعها إلا تباع سياسة الحل الوسط معتمدة على البرلمان، باتخاذه أداة لتنفيذ هذه السياسة، وانتهت تلك السياسة بتدعيم صرح الكنيسة الإنجليكانية، أو ما سماه بعض المؤرخين بنظام اليزابيث الكنائسي، وهو النظام الذي يستند إلى قانوني: قانون السيادة العليا . وقانون المذهب الواحد.
أما القانون الأولى فقد أكد لصاحب العرش السيادة العليا في جميع الشئون الروحية والزمنية على السواء، وألزم رجال الدين بأن يقسموا يمين الولاء والاعتراف بسلطان الملكة في الشئون الكنيسة وعدم الخضوع لأية سلطة اجنبية في جميع الشئون الدينية والقضائية.
أما قانون المذهب الواحد فقد أقر نوع العبادة التي تضمنها كتاب الصلاة الثاني الذي صدر سنة 1552م مع إدخال تعديلات في تفصيلات العقيدة تسهل للمعتدلين من البروتسنت والكاثوليك أن يقبلوه.
اما المعتدلون من البروتستنت فقد وافقوا على النظام الجديد عازمين على ا لعمل بالتدريج على أن يتفق مع عقائدهم وقد عرف هؤلاء بالمتطهرين ، وتعرض المتطرفون من البروتستنت الذين عرفوكا بالانفصاليين للمحاكمات والعقوبات التي فرضها قانون المذهب الواحد.
كذلك عارض المتعصبون من الكاثوليك نظام الكنيسة الإنجليكاني، بل كانوا أشد خطرا على سيادة الملكية من البيورتان والانفصاليين حتى أن بعضهم عمد إلى التآمر على حياة الملكة اليزابيث للتخلص من النظام الإنجليكاني الذي كانت تحميه، وتطلعوا إلى فيليب الثاني ملك إسبانيا وبابا روما لكي تنجح مؤامراتهم ضد العرش.
ولكن الظروف ساعدت إليزابيث على التخلص من ماري استيوارت عندما كانت تحكم اسكتلندا بنفسها بعد وفاة زوجها فرنسوا الثاني، وقام النزاع بينها وبين خصومها من رجال الدين والنبلاء واتهامهم إياها بقتل زوجها Darnly ، وثار الشعب عليها فالتجأت إلى إنجلترا طالبة حماية غريمتها اليزابيث وبعد عدة أعوام غدرت بها الملكة وأعدمتها عام 1587م لأنها كانت تشعر أن بقاءها فيه خطر يتهدد عرشها واعتقدت اليزابيث أن ماري ستيوارت كان لها ضلع في قيام الفتن والمؤامرات التي كانت تدبر في السنين الأخيرة ضدها.
كانت إليزابيث حريصة على استقلال البلاد والميل إلى السلام، ولكن المنافسة التي استمرت بين إنجلترا وإسبانيا في أواخر عهد إليزابيث لم تترك منفذا للسلام بين البلدين، فبينهما خلاف ديني شديد وصراع على التجارة وامتلاك المستعمرات في أمريكا. وبدأ الاحتكاك بتأييد فيليب الثاني لحقوق الملكة ماري سيتوارت في عرش إنجلترا، ومساهمته في تدبير مؤامرة لاغتيال إليزابيث لتحل ماري ستيوارت محلها. وفي الوقت نفسه كانت إليزابيث تساعد الهولنديين في ثورتهم القومية على الحكم الإسباني وتمدهم بالمال والسلاح ثم ما لبثت أن أمدتهم بالعون العسكري وبذلك صار العداء سافروا ينتظر الشرارة التي تشعل الحرب. وكان العامل الأكبر في قيام تلك الحرب المنافسة الملاحية في البحار والمغامرات التي قام فريق من المغامرين الإنجليز في المناطق التي يعتقد الإسبان أنها احتكار لهم. فتم إنشاء مستعمرة انجليزية في فرجينيا بأمريكا الشمالية على يد السير ولتر رالي، وتم للسير فرنسيس دريك الطواف حول الأرض وعاد إلى إنجلترا يحمل الذهب والفضة والنفائس التي سلبها من السفن والمدن الإسبانية، وكان الملاحون المغامرون من الإنجليز يعمدون إلى تخريب مدن الإسبان في أمريكا وسلبها. وفي سنة 1587م ، حمل " دريك" على ميناء قادس الإسبانية بست سفن حربية دمر بها بعض السفن الراسية فيها وقاد بعضها الآخر إلى السواحل الإنجليزية وقد حدث كل هذا في الوقت الذي قرر فيه فيليب غزو إنجلترا.
وقد نفذ فيليب عزمه بتجهيز اسطول ضخم أطلق عليه اسم " الأرمادا" ، وكان على إنجلترا أن تواجه الخطر المقبل عليها بما تستطيعه من قوة دفاع، وكان الأسطول الإنجليزي يتكون من عدة سفن صغيرة الحجم ولكن قيادته كانت بين قواد بحريين أكفاء، وأخذت السفن الحربية الإنجليزية تقوم بهجمات موفقة على الأسطول الإسباني الضخم فالتجأ إلى الساحل قرب كاليه ولما اضطره الإنجليز إلى الخروج ثانية إلى عرض البحر لم تستطع سفن الأرمادا أن تقاوم الأسطول الإنجليزي على صغر سفنه التي تفوقت في الحركة والسرعة فتشتت الأرمادا وانهزم الإسبان بعد معركة كبرى ومن نجا من سفن الأسطول حطمته العواصف الشديدة التي هبت على بحر الشمال والمحيط الأطلنطي ، ولم يعد من الأسطول الإسباني الضخم إلى شواطيء إسبانيا سوى 54 سفينة غير صالحة للقتال بعد ذلك.
وكان المصير الذي آلت إليه الأرمادا الإسبانية أول دليل على أن الإمبراطورية الإسبانية لم تعد فوق مستوى الهزيمة فزال شبح الخوف من الإسبان. وضاعت من ملك إسبانيا فرصة محاربة البروتستنتية في إنجلترا بل لقد أكملت هزيمة الأرمادا عملية تحويل إنجلترا إلى بلاد بروتستنتية .