قصة المحارب حمورابي.
حمورابي: صانع القانون وباني الدولة البابلية – دراسة تاريخية موسَّعة
المقدمة
يُعتبر حمورابي واحدًا من أكثر الشخصيات تأثيرًا في تاريخ الشرق الأدنى القديم، بل وفي تاريخ الحضارة الإنسانية ككل. فهو الملك الذي نجح في تحويل مدينة بابل من مملكة محلية محدودة النفوذ إلى قوة مركزية كبرى تسيطر على معظم بلاد الرافدين. ولا تكمن أهمية حمورابي في إنجازاته العسكرية والسياسية فقط، بل تتجلى بصورة أعمق في مساهمته التشريعية، حيث وضع أحد أقدم وأكمل الأنظمة القانونية في التاريخ، والمعروفة بـ شريعة حمورابي، وهي وثيقة تكشف طبيعة المجتمع البابلي وبنيته الاجتماعية والاقتصادية والقضائية، وتمنحنا نافذة فريدة لفهم طبيعة الحكم في العصور الأولى.
أولًا: خلفية تاريخية لظهور حمورابي
ظهر حمورابي في فترة من أكثر فترات بلاد الرافدين اضطرابًا. كانت المنطقة آنذاك مقسّمة إلى دويلات تتنافس على الهيمنة:
- إيسين
- لارسا
- إشنونة
- ماري
- بابل (موطن حمورابي)
وقبل صعود حمورابي، كانت بابل مدينة متوسطة الحجم محاطة بقوى أكبر. لكنها كانت تملك موقعًا استراتيجيًا مهمًا على ضفاف الفرات، الأمر الذي جعلها مؤهلة للنهوض لو وجدت قيادة قوية قادرة على استثمار هذا المركز الحيوي.
تولى حمورابي الحكم عام 1792 ق.م تقريبًا، وهو في سن الشباب، بعد والده الملك سن-مبلط. ومنذ لحظته الأولى على العرش بدأ في وضع أسس مشروع طويل الأمد لبناء دولة موحدة وقوية.
ثانيًا: شخصية حمورابي ورؤيته للحكم
تكشف النصوص البابلية والمسلة الشهيرة أن حمورابي كان يرى نفسه ملكًا راعيًا، أي أنه مسؤول عن حماية الضعيف من القوي، وعن ضمان النظام والعدالة، وأن سلطته ليست مجرد قوة عسكرية، بل شرعية مستمدة مما يعتبره "تكليفًا إلهيًا" من الإله مردوخ.
وتظهر شخصيته في ثلاثة محاور أساسية:
الحكمة الإدارية:
كان حمورابي يجيد إدارة المدن التابعة له، ويعيد تنظيم الضرائب والري والشؤون الزراعية بدقة عالية، ويعتمد على شبكة واسعة من الكتَّاب والمفتشين.
القوة العسكرية:
رغم عدم تركه نصوصًا تمجّد الحروب كثيرًا، إلا أنه كان قائدًا ماهرًا، خاض حروبًا ناجحة وحاسمة.
الصرامة القانونية:
اعتبر أن الدولة لا يمكن أن تقوم بدون قانون ثابت وواضح، لذلك جمع القوانين والعادات المحلية ودوّنها في نسق يُعدّ ثورة زمانه.
ثالثًا: صعود بابل – كيف أسس حمورابي إمبراطوريتـه؟
لم يكن صعود بابل إلى القمة حدثًا سريعًا، بل كان ثمرة حروب وتحالفات مدروسة. فقد بدأ حمورابي عهده بتحالفات مع ماري وإشنونة، ثم انقلب عليهم لاحقًا عندما تغير ميزان القوى. ويمكن تقسيم صعوده إلى مراحل:
1) سنوات التوازن والحذر
في بداية عهده، تجنّب الدخول في صدامات كبرى، وركز على:
- تحصين بابل
- تطوير نظام الري
- إصلاح المعابد
- إدارة العلاقات الدبلوماسية بحذر
2) تحرير الريف البابلي وتوسيع النفوذ
قاد حملات ناجحة ضد بعض القبائل الأمورية المتمردة، واستعاد مناطق مهمة حول الفرات.
3) إسقاط لارسا وتوحيد جنوبي الرافدين
لارسا كانت الخصم الأخطر. وبعد سلسلة من المعارك، تمكن حمورابي من هزيمتها عام 1763 ق.م، وبذلك صارت بابل القوة الأعظم.
4) السيطرة على ماري وإشنونة
بعد تثبيت نفوذه في الجنوب، اتجه شمالًا وشرقًا، وسيطر على:
- إشنونة ذات النفوذ التجاري الكبير
- ماري المدينة المزدهرة على الفرات الأوسط
وهكذا كوّن حمورابي أول شكل من الوحدة السياسية الواسعة في المنطقة بعد انهيار الدولة السومرية-الأكدية.
رابعًا: بابل في عصر حمورابي – ملامح الدولة والمجتمع
شهدت بابل في عهده ازدهارًا عظيمًا، وتجلت نهضتها في:
1) الزراعة والري
اعتمد اقتصاد بلاد الرافدين على الزراعة، لذلك كان:
- تنظيف القنوات
- إقامة السدود
- تنظيم حصص المياه
من أولويات الحكم. ووصل النظام الزراعي إلى كفاءة عالية جعلت بابل غنيّة بالحبوب والتمور والشعير.
2) التجارة
تحولت بابل إلى عقدة تجارية عالمية تربط:
- الخليج العربي
- الأناضول
- إيران
- الشام
وكانت تُستورد المعادن والخشب، وتُصدّر الحبوب والزيوت والتمور والمنسوجات.
3) الإدارة
أنشأ حمورابي نظامًا إداريًا دقيقًا يعتمد على:
- كتبة محترفين
- أرشيفات منظمة
- سجلات ضريبية
- قضاة محليين
4) الجيش
لم يكن جيشه ضخمًا، لكنه بالغ التنظيم ويعتمد على:
- المشاة المسلحة بالرماح
- العربات القتالية
- وحدات الفرسان
خامسًا: شريعة حمورابي – درّة الحضارة البابلية
تُعد شريعة حمورابي السبب الأكبر لشهرته. وهي مجموعة من القوانين المنقوشة على مسلة سوداء يصل ارتفاعها إلى مترين. تبدأ بمقدمة تمجّد الإله مردوخ ودور الملك، ثم 282 مادة، ثم خاتمة طويلة تؤكد عدالة الحكم.

1) أهداف التشريع
أبرز أهدافها كانت:
- حماية الضعيف
- تنظيم العلاقة بين الطبقات
- ضبط العقود التجارية
- ضمان حقوق المرأة
- منع الاعتداء
- تثبيت الملكية
- تحقيق الردع
2) مضمون الشريعة
تغطي المواد القانونية مجالات واسعة مثل:
- الأسرة: الزواج، الطلاق، النفقة، الإرث
- التجارة: القروض، الضمانات، السرقات
- الزراعة: تأجير الأرض، الإهمال، الإضرار بالري
- الطب: أجور الأطباء ومسؤوليتهم عن الأخطاء الطبية
- البناء: مسؤولية البنّاء عند انهيار البيوت
- العقوبات: القصاص، الغرامات، النفي
وتتميز الشريعة بمبدأ شهير:
العين بالعين والسن بالسن
لكن الحقيقة أن القانون تدرّج حسب الطبقة الاجتماعية؛ فالعقوبة تختلف بين المواطن الحر والعبد.
3) أهمية الشريعة
- شكلت أقدم نموذج مكتمل للتقنين
- أثرت على القوانين اللاحقة في الشرق الأدنى
- تمثل مرجعًا اجتماعيًا لفهم المجتمع البابلي
سادسًا: الدين والفكر في عصر حمورابي
كان الدين جزءًا أساسيًا من شرعية حمورابي، حيث اعتبر نفسه ممثلًا للإله مردوخ، حامي بابل. وتظهر النصوص أن معابد بابل لعبت دورًا إداريًا واقتصاديًا مهمًا، إذ كانت:
- تملك أراضي واسعة
- تستثمر في الزراعة
- تشغل العمال
- وتقدم الخدمات الاجتماعية
كما انتشرت في عهده الكتابة المسمارية بصورة موسعة، وازدهرت المدارس التي كانت تُعرف باسم البيت-توبيت.
سابعًا: السنوات الأخيرة لحمورابي

بعد توحيد المنطقة، كرّس السنوات اللاحقة لترسيخ النظام الإداري وإصدار القوانين. وقد توفي حوالي سنة 1750 ق.م بعد حكم طويل دام أكثر من 40 عامًا. وبعد وفاته بدأت الدولة تدريجيًا تفقد تماسكها تحت حكم خلفائه، لكنها بقيت تحمل إرثه التشريعي والسياسي لقرون.
الخاتمة
إن حمورابي ليس مجرد ملك من ملوك الرافدين، بل أحد الرواد الأوائل في بناء الدولة والقانون. لقد جمع بين القوة العسكرية، والرؤية السياسية، والتشريع المدني، والقدرة على الإدارة الفعّالة. ومن خلال شريعته ترك بصمة خالدة لا تزال تُدرّس حتى اليوم، حتى أن كثيرًا من الباحثين يعتبرونه المؤسس الأول لمفهوم سيادة القانون.
ولولا حمورابي، لما عرف العالم هذا القدر من الوضوح التشريعي المبكر، ولما قامت بابل بتلك القفزة الحضارية التي جعلتها واحدة من أعظم مدن التاريخ.