
عبقري أم شيطان؟ القصة الحقيقية لميكافيلي وكتاب الأمير
عبقري أم شيطان؟
في شتاء قارس من عام 1513، كان رجل في منتصف العمر يجلس وحيدًا في كوخ صغير على أطراف مدينة فلورنسا الإيطالية. ارتدى معطفًا قديمًا، وأمسك بريشة غمسها في محبرة، وبدأ يكتب بيد ثابتة وكأنه ينسج خطة سرية ستغيّر مجرى التاريخ. كان اسمه نيكولو ميكافيلي.
قبل هذه اللحظة بسنوات قليلة، كان ميكافيلي موظفًا رفيعًا في حكومة فلورنسا، يسافر بين الملوك والأمراء، يفاوض هنا ويخطط هناك. كان يشهد بأم عينيه كيف تنهار التحالفات في ليلة، وكيف يبتسم الحاكم في الصباح لمن سيطيح به في المساء. السياسة في إيطاليا آنذاك كانت لعبة خطيرة، تُحركها المصالح لا المبادئ.
لكن الرياح انقلبت. سقطت الحكومة التي خدمها ميكافيلي، واعتقله الحكام الجدد. عُذب وأُهين، ثم أُطلق سراحه بشرط أن يبتعد عن الحياة السياسية. هكذا وجد نفسه منفيًا إلى الريف، يراقب من بعيد ما يحدث في مدينته التي أحبها.
في ذلك الكوخ البعيد، قرر أن يسجل كل ما تعلمه من دهاليز السلطة. كتب كتابًا أسماه "الأمير"، موجّهًا إلى لورنزو دي ميديتشي، حاكم فلورنسا الشاب. كان الكتاب بمثابة دليل بقاء للحكام، يشرح فيه كيف يمسكون بالسلطة ويحافظون عليها، حتى لو اضطروا لاستخدام الخداع والقوة.
كان أسلوبه صريحًا حد الصدمة: الحاكم، في رأيه، يجب أن يكون محبوبًا ومهابًا معًا، لكن إذا اضطر للاختيار، فليكن مهابًا. يجب أن يعرف كيف يوفّي بالوعود... ومتى يخونها إذا تغيرت الظروف. أما العبارة التي التصقت باسمه عبر القرون فهي: "الغاية تبرر الوسيلة"، وإن لم ترد حرفيًا في كتابه.
وصلت نسخ الكتاب إلى النبلاء والمفكرين، وانتشرت سمعته كالنار في الهشيم. بعضهم رآه عبقريًا شجاعًا لأنه كشف حقيقة السياسة بلا تزييف، وآخرون وصفوه بالشيطان لأنه شرعن المكر والخيانة.
حتى الكنيسة نظرت إليه بريبة، وأدرجت كتابه لاحقًا في قائمة الكتب الممنوعة.
لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن ميكافيلي لم يكن ينصح بالشر لذاته. كان يرى أن العالم مليء بالتهديدات، وأن الحاكم الذي يتمسك بالمثاليات وحدها سينهار سريعًا أمام خصوم لا يعرفون الرحمة. لقد كتب عن الذئاب والكلاب، عن الأقنعة التي يلبسها الحكام، عن القرارات التي قد تنقذ أمة ولكن تدين صاحبها أمام التاريخ.
تمر السنوات، ويموت ميكافيلي في عام 1527، فقيرًا ومنسيًا. لكن كتبه بقيت، تتناقلها الأجيال، وتدرسها الجامعات وقادة الدول وحتى مدراء الشركات.
في قاعات السياسة الحديثة، لا يزال صوته يُسمع بين السطور، يهمس للحاكم: "راقب، خطط، واضرب حين يحين الوقت".
واليوم، بعد خمسة قرون، يبقى السؤال حيًا: هل كان ميكافيلي عبقريًا واقعيًا سبق عصره، أم شيطانًا سياسيًا علّم العالم أن المكر طريق إلى المجد؟ وهل يمكن لأي حاكم أن ينجو من لعبة السلطة دون أن يتلطخ بوحلها؟
---
💬 وأنت، لو كنت في مكانه وسط تلك الصراعات، هل كنت ستتمسك بالمبادئ مهما كان الثمن، أم ستختار أن "تبرر الغاية الوسيلة"؟