
مرايا الأرواح وذاكرة الزمن
عنوان المقال:
الروايات… مرايا الأرواح وذاكرة الزمن
في عالم يمضي بسرعة البرق، حيث تنشغل العيون بالشاشات والهواتف، تظل الروايات مساحة هادئة تهمس في آذاننا بحكايات لا تنتهي. الرواية ليست مجرد نص مكتوب، بل هي عالم كامل، له شخوصه وأحداثه وأسراره، يأخذنا من الواقع إلى الخيال، أو من الخيال إلى أعماق الواقع نفسه.
الروايات مرآة تعكس الروح الإنسانية، بكل ما فيها من ضعف وقوة، حب وكراهية، أمل ويأس. هي وسيلة لنسافر دون تذكرة، لنعيش مئات الحيوات، ونتعرّف على ثقافات لم نزُرها يومًا. من خلال بضع صفحات، يمكننا أن نكون ملوكًا في قصر، أو بحّارة في عرض البحر، أو حتى أسرى في زمن لم نولد فيه بعد.
ولعل أجمل ما في الروايات أنها تتيح لنا أن نرى العالم بعيون الآخرين. فعندما نقرأ رواية تدور أحداثها في مكان بعيد، أو بين شخصيات مختلفة عنا، فإننا نكتشف أن المشاعر الإنسانية واحدة، مهما اختلفت اللغات والألوان. وهذا ما يجعل الرواية جسرًا يصل بين القلوب، وحوارًا صامتًا بين الشعوب.
في الأدب العربي، كانت الرواية ولا تزال أداة للحفاظ على الهوية ونقل التراث، إلى جانب قدرتها على التجديد ومواكبة العصر. أعمال نجيب محفوظ، على سبيل المثال، لم تكتفِ بسرد قصص حيّة من شوارع القاهرة، بل وثّقت تحولات المجتمع وتاريخه. وفي الأدب العالمي، تركت روايات مثل "البؤساء" لفيكتور هوغو و"مئة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز بصمة لا تُمحى في الذاكرة الإنسانية.
ورغم أن عصرنا مليء بالمغريات البصرية من أفلام ومسلسلات وألعاب، إلا أن للرواية سحرًا خاصًا لا ينافسه شيء. فالقراءة ليست استهلاكًا سريعًا للمعلومة، بل هي مشاركة في صناعة المشهد داخل خيالنا. نحن لا نرى الشخصيات جاهزة، بل نصنع صورها بأنفسنا، ونسمع أصواتها في عقولنا.
لهذا، فإن الحفاظ على عادة قراءة الروايات هو حفاظ على جزء من إنسانيتنا. فالقارئ الجيد لا يعيش حياة واحدة، بل يعيش آلاف الحيوات. وكل رواية يقرؤها، تترك فيه أثرًا، وربما تغير نظرته للعالم من حوله.
فلنمنح الروايات وقتًا في أيامنا، مهما كانت مشاغلنا. فهي ليست ترفًا ثقافيًا، بل غذاء للروح والعقل، وجواز سفر إلى عوالم لا حصر لها. وكما قال أحد الكتّاب: “من يقرأ يعيش أكثر من حياة، ومن لا يقرأ… يعيش حياة واحدة فقط.”