
وعد اللقاء ✍🏻🍂
وعد اللقاء:
كانت ليلة شتوية باردة، حيث انهمرت الأمطار على المدينة كما لو أن السماء تفرغ أسرار العشاق الذين فرّقتهم الأقدار. في أحد المقاهي الصغيرة ذات الضوء الأصفر الخافت، جلست أيلين بجوار النافذة، تمسك فنجان قهوتها بكلتا يديها، وكأنها تبحث في دفئه عن عزاءٍ لقلبها. نظراتها كانت شاردة، تتبع قطرات المطر المتساقطة، وكأنها تفتش في انعكاسها عن وجه تعرفه جيدًا.
قبل عامين، كان القدر قد هيأ لقاءً غير متوقع. ففي إحدى زوايا مكتبة قديمة في وسط المدينة، كانت أيلين تبحث عن كتاب نادر بعنوان أجنحة الزمن. مدت يدها نحوه، وفي اللحظة ذاتها، امتدت يد رجل آخر نحوه أيضًا. التقت أعينهما للحظة قصيرة، لكنها كانت كافية لتشعل شرارة غامضة بينهما. ابتسم ذلك الرجل، جون، وقال بصوت هادئ:
> “يبدو أننا نتنافس على الحلم ذاته.”
أجابت بابتسامة خجولة، وفي نبرتها شيء من الدعابة:
> “ربما يمكننا أن نتقاسمه.”
كانت تلك الكلمات بداية قصة لم تكن في الحسبان. تبادلا الأحاديث، ثم توالت اللقاءات في المقهى ذاته، وبدأت الرسائل الصباحية والمكالمات الليلية التي تمتد حتى ساعات الفجر. تحدثا عن طفولتهما، أحلامهما، واللحظات التي شكّلتهما. الحب نما بينهما سريعًا، كزهرة ربيعية فتحت بتلاتها لأول شمس.
لكن الحياة لم تمنحهما رفاهية الاستمرار بلا عقبات. بعد أشهر قليلة من الحب المتقد، حصل جون على عرض عمل مهم في مدينة بعيدة. في ظهيرة خريفية، جلسا معًا على مقعدهما المعتاد في الحديقة، والأوراق الصفراء تتساقط حولهما. أمسك جون بيديها ونظر في عينيها قائلًا:
> “أيلين… هذه فرصة لا تتكرر، لكن المسافة ستكون قاسية.”
أجابت بصوت يختلط فيه الخوف بالرجاء:
> “المسافة لا تخيفني، لكن ما يخيفني هو أن نفقد بعضنا.”
ابتسم بثقة حاول أن يخفي بها ارتباكه، وقال:
> “لن نفقد. أعدك… سأعود.”
رحل جون، تاركًا خلفه وعدًا يتكئ على أملها. في البداية، كانت رسائله مليئة بالشوق، صوته في المكالمات يحمل دفء اللقاء الأول. لكن بمرور الوقت، أخذت المسافة تمارس قسوتها؛ صوته صار مثقلًا بالتعب، وكلماته متباعدة. كانت أيلين تحاول أن تتماسك، لكنها كانت تخوض حربًا صامتة ضد الوحدة والانتظار.
جاء الاختبار الأصعب حين تقدم شاب آخر لخطبتها، وضغطت عائلتها للموافقة. في ليلة ثقيلة، اتصلت بجون، وصوتها يختنق بالعبرات:
> “الكل يطلب مني أن أمضي في حياتي… ماذا أفعل يا جون؟”
ساد الصمت طويلاً، حتى خُيّل إليها أن الاتصال انقطع. ثم جاء صوته، ضعيفًا لكنه محمل بالرجاء:
> “أيلين… أعرف أن الأمر ليس سهلاً. لكن إذا استطعتِ… انتظريني.”
لم تكن تعرف إن كان هذا طلبًا صادقًا أو مجرد أمل يتشبث به، لكنها كانت متيقنة من أمر واحد: أنه ليس شخصًا يمكن استبداله بسهولة.
مر عام كامل. وفي كل مساء، كانت تقف عند نافذتها في الساعة التاسعة، تحدق في الطريق، كأنها تنتظر أن يفي القدر بوعده. لم يكن أحد يعرف عن هذه الطقوس سوى قلبها الذي ما زال يخفق باسمه.
وفي ليلة شتوية أخرى، كانت الأمطار تتسابق على زجاج النافذة حين سمعت طرقات خفيفة على باب منزلها. قلبها قفز من مكانه، ويداها ارتجفتا وهي تمسك المقبض. فتحت الباب… وكان هناك جون، مبتلًا من المطر، عيناه تحملان نفس البريق الذي رأته أول مرة، وفي يده كتاب أجنحة الزمن.
لم تنطق بكلمة، بل ارتمت في حضنه، تسمع خفقان قلبه المتسارع كما لو أنه يعزف لحن العودة. همس بصوت مرتجف:
> “الطريق كان طويلاً، مليئًا بالعقبات… لكني وعدتك، وها أنا هنا.”
عانقته بقوة وكأنها تخشى أن يتلاشى أمام عينيها. بكت طويلًا، تخبره بين دموعها عن قسوة الوحدة ومرارة الليالي التي غاب عنها صوته. جلسا بعدها على الأريكة، يتحدثان عن كل ما حدث في الغياب؛ عن الأيام الصعبة، وليالي الشتاء الباردة التي كانت بلا دفء، وعن اللحظات التي كادا فيها أن يستسلما. لكنهما كانا يعلمان أن الحب الذي صمد أمام المسافة والزمن يستحق أن يُعاش بكل تفاصيله.
ومن ذلك اليوم، بدأ فصل جديد في حياتهما، فصل بلا فراق، بلا انتظار، فقط حب قوي يثبت أن القلوب الصادقة لا يهزمها الزمن.