إيلافييرا _ مرآة المعنى

إيلافييرا _ مرآة المعنى

0 reviews

الفصل الثاني: 

ظلّ لا اسم له

في الليلة التي لامست فيها أليانور "المرآة النجمية"، لم ينم شيءٌ في "إيرثالون".
حتى الجبالُ، التي اعتادت الصمت لقرون، أصدرت أنينًا خافتًا يشبه التنفّس الثقيل، والبحر ارتدّ خطوة إلى الوراء كأن موجاته تخشى أن تقترب أكثر من الشواطئ. الطيور التي كانت تُغنّي في قمم الأشجار توقّفت فجأة، وكأن لحنها تحوّل إلى خوف صامت. بدا كأنّ العالم نفسه... يخشى ما يُولد.

وقفت أليانور في شرفة قصرها، قصر لم يكن مصنوعًا من حجر، بل من نور الشجرة العتيقة التي احتضنت طفولتها. جدرانه متشابكة من أغصان لامعة، وأرضياته مصقولة من بلّورٍ صافٍ، كأن الطبيعة نفسها نسجت هذا المسكن ليكون لها وحدها. رفعت عينيها إلى السماء، فرأت ما لم تره من قبل: النجوم صارت أقرب، أكثر إشراقًا، وكأنها تُحدّق بها مباشرة وتنتظر منها شيئًا.

كانت المرآة النجمية بين يديها، صغيرة بحجم راحة الكف، لكنها أثقل من الجبال في معناها. لم تُصنع من زجاج أو حجر، بل من ضوء حيّ يتنفس مع أنفاسها. لم تنعكس فيها صورة وجهها، بل مشاهد من عوالم لا تعرفها. عوالم تُطلّ عليها المرآة كما يطلّ قمر على بحيرة بعيدة.

رأت فيها جبلًا يبكي الحجر، تنهمر من صخوره دموعٌ سوداء تحرق الأرض حيث تسقط. ورأت سيفًا مغروسًا في قلب النار، يتأرجح كأنه يستدعي يدًا تُخرجه. ثم رأت رجلاً وجهه غامض، ملامحه تتلاشى كلما حاولت أن تركّز، لكنّ عينيه ظلّتا واضحتين. كانتا عينيْن تشعّان بشيءٍ يشبهها: خليط من نور ووعد غامض، وكأن القدر رسم بينهما خطًّا لا يُمحى.

أغلقت المرآة فجأة، يديها ترتجفان من ثِقل الرؤى. وفي اللحظة نفسها، هزّت القاعة صرخةٌ مدويّة، لم تكن بشرية. الصوت لم يأتِ من حنجرة، بل من جدران القصر نفسه، كأن الحجارة أرادت أن تصرخ. ارتجف الهواء، وتصدّعت الأرضية تحت قدميها، ثم بدأت الحروف تنقش نفسها بلون النار على الأرض البلّورية.

 "حين تستيقظ النبوءة، ينهض ظلٌّ لا اسم له."

 

انتشر الضوء الأحمر عبر القاعة الكبرى، كأنه دماء تُسكب على شكل كلمات. هرع الحراس إلى الداخل، دروعهم ترتجف وهم يجرّون سيوفهم، لكنهم توقّفوا عند الباب مبهوتين مما رأوا. أحدهم همس مرتجفًا:
"يا مولاتي… لقد عادت النبوءة التي حُجبت منذ ألف عام."

التفتت إليهم أليانور بثباتٍ عجيب. عينيها كانتا هادئتين كبحيرة في ليلة مقمرة، وصوتها خرج متماسكًا، كأنه لا ينتمي إلى عمرها:
"أنا… لا أهرب من قدَري."

كانت كلماتها أقوى من أي سلاح، كأنها أغلقت باب الخوف في قلوب الحاضرين.

 

 في مكان آخر…

بعيدًا عن القصر، في الغابة التي تُدعى "نورثاليا"، حيث لا يدخُلها الضوء منذ عصور، جلس رجلٌ في معطفٍ أسود. الغابة نفسها كانت كائنًا مخيفًا، أشجارها متشابكة كالأصابع العظمية، وأرضها مفروشة بأوراق لا تتحلّل أبدًا. وسط هذا السواد، وقفت شجرة واحدة هائلة تُسمّى بـ "ذاكرة الموتى". يُقال إن جذورها تحتضن أرواح الذين لم يجدوا طريقهم إلى الراحة.

جلس الرجل تحت ظلها، وعلى كفّه مرآة أخرى. لم تكن مرآة كاملة، بل مشقوقة من المنتصف، خطٌّ أسود يقسمها كجرحٍ مفتوح. كانت تشعّ أحيانًا بضوء باهت، وكأنها صورة معكوسة من مرآة أليانور.

قال بصوتٍ أجشّ، صدى كلماته يختلط مع حفيف الغابة:
"عادت… بنت النور."
ثم أغمض عينيه وتمتم:
"فلتبدأ المطاردة."

كان اسمه مجهولًا، فلا أحد عرف من أي عالم جاء. قيل إنه وُلد من ظلال الخوف التي تركها البشر، وإنه لا يحمل دمًا في عروقه بل دخانًا أسود. كان يُعرف فقط بلقب: الظلّ الذي لا اسم له.

 ارتجاف الممالك

بينما كانت هذه الأحداث تجري، كانت الممالك الأخرى في "إيرثالون" تتحرّك.
في "مملكة الصقيع الأبدي"، دوّى جرس الجليد لأول مرة منذ سبعة قرون. في "مدن الرمال"، هبّت عاصفة من العدم أطفأت كل المشاعل في ليلة واحدة. أما في "مملكة النوران"، فقد اهتزّت الأضرحة القديمة، وارتفعت أصوات الكهنة مردّدين أدعية لم يجرؤوا على تلاوتها من قبل.

الجميع شعر بالعلامة: شيء استيقظ. شيء كان عليهم أن يخشوه، أو يتبعوه.

 

 المرآة والقدر

في قصرها، جلست أليانور أمام المرآة النجمية، تحدّق في انعكاسها المجهول. لم تكن تخشى ما رأته، لكن قلبها كان يعرف أن كل مشهد هو رسالة. الجبل الباكي لم يكن إلا نذير كارثة، والسيف في النار دعوة للمعركة، والرجل ذو العينين المضيئتين كان… علامة على أن رحلتها لن تكون وحدها.

لم تكن تعلم من سيكون معها، ولا من سيقف ضدها. لكنها علمت شيئًا واحدًا: الطريق بدأ، ولا عودة منه.


 خاتمة الفصل الثاني

بين أروقة القصر، وبين ظلال الغابة الملعونة، وبين قلوب الممالك المرتجفة، بدأت اللعبة التي انتظرها القدر. أليانور تحمل المرآة الكاملة، والظلّ بلا اسم يحمل المرآة المشقوقة. كلاهما مرآتان، وكلاهما مصير، لكن أيّهما سينتصر؟

السماء صارت أقرب، والأرض أقلّ أمانًا، والعالم بأسره بات كتابًا يُكتب من جديد…
صفحة بعد صفحة، بدمٍ ونور.

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

3

followings

1

followings

1

similar articles