أحوال غزة منذ الأزل
أحوال غزة منذ الأزل
المقدمة
تُعدّ غزة واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، فهي مدينة ضاربة جذورها في عمق التاريخ منذ أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة عام، تقع على الساحل الجنوبي الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وتشكل بوابة بين أفريقيا وآسيا، مما منحها أهمية استراتيجية جعلتها مطمعًا للإمبراطوريات عبر التاريخ، فتعاقبت عليها الدول والحضارات، وتحوّلت من ساحة للتجارة الدولية إلى ساحة للحروب المتكررة، ثم إلى رمز للمقاومة والصمود في العصر الحديث. ولعلّ أهم ما يميز غزة أنها مدينة لا تتوقف عن الحياة رغم كل ما مر بها، فهي تُهدم وتُبنى، تُحاصر فتُقاوم، تُستهدف فتزداد تمسكًا بوجودها وتاريخها.
من خلال تتبّع تاريخ غزة، يتبين أنها لم تكن مجرد مدينة على الخريطة، بل كانت وما تزال مركزًا حضاريًا وسياسيًا وروحيًا، لعبت أدوارًا متباينة عبر العصور، من ميناء تجاري في زمن الفراعنة، إلى ثغر إسلامي في صدر الدولة الإسلامية، إلى خط دفاع متقدّم في مواجهة الصليبيين والتتار، ثم إلى مدينة منكوبة بالاحتلال والتهجير في القرن العشرين، وصولًا إلى رمز إنساني عالمي للمظلومية والصمود في القرن الحادي والعشرين.

غزة في العصور القديمة (قبل الميلاد)
غزة في العصر الفرعوني
ظهرت غزة لأول مرة في السجلات التاريخية خلال الدولة الحديثة في مصر الفرعونية، حيث اعتبرها الفراعنة ثغرًا مهمًا على حدودهم الشرقية، ومركزًا للتبادل التجاري مع بلاد الشام. وقد استخدمت غزة كمحطة جيوسياسية لتأمين الحدود المصرية ضد الغزوات القادمة من الشرق، خصوصًا الحيثيين والآشوريين. كما لعبت دورًا تجاريًا مهمًا في قوافل البخور والتوابل التي كانت تنتقل بين اليمن والشام ومصر.
غزة في العهد الآشوري والبابلي
مع بداية التوسع الآشوري في الشرق الأدنى، سقطت غزة تحت سيطرة الإمبراطورية الآشورية في القرن السابع قبل الميلاد، وأصبحت مدينة حدودية مهمة لهم، ثم انتقلت بعد ذلك إلى الحكم البابلي، لتتحول في أواخر العصر القديم إلى مركز إداري وتجاري كبير يخضع لسلطة بابل، قبل أن تتعرض لاحقًا للتحولات السياسية بعد سقوط بابل وظهور الفرس.
غزة في الفترة الفارسية
في زمن الإمبراطورية الفارسية الأخمينية، اكتسبت غزة بعدًا أوسع في النشاط التجاري، فقد أصبحت نقطة عبور أساسية في الطريق الملكي الفارسي الذي يربط سوسة ببلاد الشام ومصر. كما عُرفت غزة في تلك الفترة بوجود الجاليات الفينيقية والآرامية إلى جانب السكان الكنعانيين الأصليين.
غزة في العهدين اليوناني والروماني
الغزو المقدوني
دخلت غزة مرحلة جديدة تمامًا عند مجيء الإسكندر الأكبر عام 332 ق.م، حيث واجهت المدينة حصارًا دام شهرين ونصف، أبدت خلاله مقاومة قوية، مما دفع الإسكندر إلى تدميرها parcialmente، وإعادة بناءها لاحقًا كمدينة هلينية الطابع، لتصبح مركزًا لنشر الثقافة اليونانية في المنطقة.

غزة في العهد الروماني
أصبحت غزة مدينة مزدهرة في العهد الروماني، واستعادت مكانتها التجارية على طول الساحل الشرقي للمتوسط. كما اشتهرت بالمدارس الفلسفية والأدبية، وأنجبت عددًا من العلماء، وأصبحت مركزًا ثقافيًا معروفًا في العالم القديم. وقد ازدهرت فيها الطقوس الوثنية قبل دخول المسيحية لاحقًا.
غزة في العصر البيزنطي
خلال العهد البيزنطي، ومع انتشار المسيحية، تحولت غزة إلى مدينة ذات طابع ديني مسيحي، وشُيّدت فيها الكنائس والأديرة. لكنها ظلّت أيضًا مركزًا تجاريًا قويًا، وارتبطت اقتصاديًا بالمدن الساحلية الأخرى. وظل هذا الحال حتى فتح المسلمين لها في القرن السابع الميلادي.
غزة في العهد الإسلامي
الفتح الإسلامي
دخلت غزة تحت الحكم الإسلامي في سنة 634م في عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق، بقيادة عمرو بن العاص، وأصبحت أول مدينة في بلاد الشام تُفتح في صدر الإسلام. وقد كانت ذات مكانة دينية، إذ يُنسب إليها الإمام الشافعي، الذي وُلد فيها عام 767م.
العصر الأموي والعباسي
استمرت غزة في كونها مركزًا حضاريًا وتجاريًا، وكانت محطة للحجاج القادمين من شمال أفريقيا إلى مكة المكرمة، كما اشتهرت بصناعة الأقمشة والزيوت. ومع مرور الزمن، تعرضت المدينة لزلازل واضطرابات ولكنها استمرت في موقعها المهم.
العصر الفاطمي
خلال الحكم الفاطمي، أصبحت غزة مركزًا مهمًا للجيش الفاطمي في جنوب فلسطين، خصوصًا قبل الحروب الصليبية، حيث اعتمد عليها الفاطميون كقاعدة دفاعية متقدمة.
غزة زمن الحروب الصليبية
مع قدوم الصليبيين عام 1099م، احتُلّت غزة وسيطر عليها ملك القدس اللاتيني. لكن المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي استطاعوا استعادتها عام 1187م بعد معركة حطين. ثم تحولت غزة إلى قاعدة أيوبيّة مهمة، وأُعيد إعمارها بعد الدمار الذي خلّفه الصليبيون.
غزة في العهدين الأيوبي والمملوكي
في العهد المملوكي، ازدادت أهمية غزة، وجُعلت مقرًا لإمارة كبيرة، وشُيّدت فيها المدارس والخانات، وازدهرت تجارتها بعد إعادة تنشيط طريق القوافل بين مصر والشام. كما أصبحت صلة وصل بين القاهرة ودمشق.
غزة في العهد العثماني
دخلت غزة تحت الحكم العثماني عام 1517م، وظلت كذلك لأربعة قرون، وكانت مركزًا إداريًا وعسكريًا مهمًا. وبرزت في تلك الفترة عائلات محلية قوية مثل آل رضوان، الذين حكموا غزة بشكل شبه مستقل لفترة من الزمن. شهدت المدينة نهضة في الزراعة والتجارة، خاصة في إنتاج الحبوب والزيتون.
غزة تحت الاحتلال البريطاني (1917–1948)
مع نهاية الحرب العالمية الأولى، سيطرت القوات البريطانية على غزة بعد معركة عنيفة ضمن حملة سيناء وفلسطين، وأصبحت غزة جزءًا من الانتداب البريطاني على فلسطين. شهدت تلك الفترة تغييرات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية، وصعود الحركة الوطنية الفلسطينية، واشتداد الصراع مع المشروع الصهيوني.
غزة بعد نكبة 1948
بعد الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، أصبحت غزة تحت الإدارة المصرية، وتحولت إلى ملجأ لآلاف اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من مدنهم وقراهم. وازداد عدد سكانها بشكل هائل، مما خلق أزمة سكانية واقتصادية مستمرة حتى اليوم. ورغم ذلك، أصبحت مركزًا للمقاومة السياسية والفدائية.
حرب 1967 والاحتلال الإسرائيلي
في حرب يونيو 1967، احتلت إسرائيل قطاع غزة بالكامل، ودخلت مرحلة جديدة من السيطرة العسكرية والقمع السياسي والاقتصادي. وبدأ بعدها إنشاء المستوطنات، وفرض القيود على السكان، ومحاولات تغيير الواقع الديموغرافي.

غزة بعد انتفاضة 1987
كانت غزة مهد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي انطلقت من جباليا عام 1987، لتتحول إلى شرارة مقاومة فلسطينية شعبية امتدت لكل فلسطين. ثم جاء اتفاق أوسلو عام 1993 الذي منح غزة حكمًا ذاتيًا جزئيًا تحت السلطة الوطنية الفلسطينية.
غزة بعد 2006 والحصار
بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، فُرض حصار شامل على غزة من قبل إسرائيل بدعم دولي، ثم ازداد الحصار شدة بعد أحداث 2007. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت غزة منطقة محاصرة برًا وبحرًا وجوًا، وتحولت إلى أكبر سجن مفتوح في العالم.
غزة في الحروب المعاصرة
تعرضت غزة لعدة حروب كبرى خلال الأعوام 2008، 2012، 2014، 2021، 2023 وما يزال العدوان مستمرًا، خلّفت آلاف الشهداء والجرحى ودمارًا هائلًا في البنية التحتية، لكنها لم تُسقط إرادة الناس، وبقيت غزة رمزًا عالميًا للمقاومة والصمود الإنساني أمام واحدة من أقوى الجيوش في العالم.
غزة اليوم
اليوم تعيش غزة وضعًا مأساويًا غير مسبوق في التاريخ الحديث: حصار خانق، فقر يتجاوز 60%، بطالة تتجاوز 50%، دمار متكرر، نقص حاد في الكهرباء والمياه والدواء، ومع ذلك يواصل أهلها الحياة، يبنون رغم الهدم، يتعلمون رغم الحرمان، ويقاومون رغم الجراح.
غزة اليوم ليست مجرد مدينة فلسطينية، بل قضية إنسانية، ورمز عالمي للظلم التاريخي الواقع على شعب أعزل، وللثبات غير المسبوق في وجه أعتى أشكال الاستعمار الحديث.
الخاتمة
منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، تغيّرت الإمبراطوريات، زالت الدول، اختفت الحضارات، وتبدّلت الخرائط، لكن غزة ظلّت موجودة. مرّ بها الفراعنة والآشوريون والبابليون والفرس والإغريق والرومان والعرب والأيوبيون والمماليك والعثمانيون والإنجليز والإسرائيليون، لكن أحدًا لم يستطع أن يُلغي هويتها أو يمحو وجودها. غزة اليوم ليست مجرد تاريخ مكتوب، بل شهادة حيّة على أن الأرض لا تموت مهما طال عليها الليل.