تاريخ السود للجميع
تاريخ السود للجميع

رجال من أفريقيا
تاريخ السود للجميع
من يملك ذاكرة العالم؟
في مكانٍ ما، خلف مكاتب مكيفة وأبوابٍ مغلقة، يجلس رجالٌ بيض، لا نكاد نعرف أسماءهم، لكنهم يملكون سلطةً هائلة على الذاكرة البشرية. إنهم الذين يقرّرون ما يُدرَّس في كتب التاريخ، وما يُمحى منها، وما يُقدَّم للأجيال على أنه «الحقيقة». أولئك الذين يملكون القلم الذي يكتب الماضي، يملكون في الوقت ذاته مفتاح المستقبل، لأنهم يشكّلون وعي الأطفال الذين سيصنعون الغد. فما أشدّ خطورة هذا المقام، وما أندر مَن يدرك أن بين دفّات الكتب الدراسية تُزرع بذور الرؤية للعالم بأسره.
التاريخ الموجَّه... حين تُقدَّم السهولة على الحقيقة
لكن كم يبدو هذا المنصب المهيب مُهمَلًا! يُسلَّم غالبًا إلى سياسيين مشغولين بمصالحهم الصغيرة، أو إداريين يفضّلون السهولة على الصدق، والتوافق على الحقيقة. وكأنّ التاريخ لا يستحق إلا من يحرّفُه لمصلحةٍ أو يُسطّحه درءًا للخلاف.
برايان جونز وصيحته: لمن ينتمي التاريخ؟
من هنا تأتي صرخة المفكر الأمريكي برايان جونز في كتابه «التاريخ الأسود للجميع»، لتعيد السؤال الجوهري إلى الواجهة: لمن ينتمي التاريخ؟ ومن يملك حق روايته؟ يدعونا جونز إلى أن نتأمل في الطريقة التي يُدرَّس بها الماضي، وأن نواجه ما في تلك الطريقة من إقصاءٍ وهيمنة، ومن نظرةٍ أحادية جعلت التاريخ الأبيض هو المركز، وكل ما عداه هامشًا.
التاريخ الأسود... شريان الحقيقة الإنسانية
يقول جونز إن تدريس التاريخ الأسود ليس مجرد واجبٍ تجاه فئةٍ مظلومة، بل هو واجبٌ تجاه الحقيقة نفسها. فالتاريخ الأسود ليس هامشًا في سجل الإنسانية، بل هو الشريان الخفي الذي ضخَّ فيها معنى الحرية والمقاومة. ومن خلال إعادة النظر في هذا التاريخ، نتعلم كيف نرى العالم من زوايا متعددة، ونكتشف أن قصة الإنسان أكبر من أن تُروى بلونٍ واحد.
الطفولة والوعي المبكر بالتمييز
في الصفحات الأولى من كتابه، يعود جونز إلى طفولته، إلى المدارس التي درس فيها والبيئات التي شكّلته، فيروي بشفافيةٍ مؤلمة كيف تعلّم أن يتنقّل في «العالم الأبيض» بحذرٍ وذكاء، كما لو أنه يسير على جليدٍ هشّ. لم يكن الأمر كراهيةً أو انتقامًا، بل سعيًا إلى فهمٍ أعمق: لماذا تُخفى بعض القصص وتُضاء أخرى؟ ولماذا يُذكر القهر دون المقاومة، والمأساة دون البطولة؟
القصص المنسيّة... مقاومة بالمعرفة
يقول جونز إنه حين غاص في الأرشيفات، اكتشف قصصًا مذهلة نُزعت من الذاكرة العامة، مثل تجربة بعض الشباب السود في نيويورك الذين حاولوا تأسيس حزب «الفهد الأسود» قبل أن يظهر الاسم في كاليفورنيا. كانت حركتهم تدعو إلى إصلاح التعليم ونشر الوعي، لا إلى العنف. ولعلّ هذه الحكاية الصغيرة تلخص جوهر التاريخ الأسود: أنه ليس مجرد مواجهة للقهر، بل هو احتفاء بالمعرفة كطريقٍ إلى الحرية.
الثورة الهايتية... الصفحة التي أرادوا طبها
وفي لحظةٍ مفصلية من الكتاب، يتأمل جونز الثورة الهايتية — تلك التي قلّما تُذكر في كتب التاريخ المدرسية. تخيّل، كما يقول، أن يُختطف إنسانٌ من أرضه، ويُلقى في جزيرةٍ غريبة لا يعرف لغتها، ثم يثور، مع جيلٍ من الأسرى، ضد أقوى جيوش أوروبا ليصنع أول جمهوريةٍ سوداء حرّة في التاريخ. إنهم الأفارقة الذين جمعهم الألم وصاغتهم النار، فصنعوا من جراحهم وطنًا جديدًا اسمه «هايتي».
دروس من ثورة الحرية الأولى
أية معجزةٍ تلك التي تُنجزها الإرادة حين تتوحّد؟ وأي درسٍ أبلغ من هذا في معنى الإنسان؟ لقد كسرت الثورة الهايتية عجلة العبودية، وفتحت للعالم أفقًا جديدًا للحرية، لكنها في ذاكرة الغرب ظلت تُعامل كحدثٍ جانبي، كأنها صفحة مزعجة في كتابٍ أبيض.
مواجهة الماضي... طريق إلى الحرية
يذكّرنا جونز بأن التقدّم لا يتحقق بنسيان الجراح، بل بتأملها. فالتاريخ الأسود ليس دعوةً إلى الانقسام، بل إلى الاعتراف المشترك بأن الحرية لا لون لها. من لا يواجه ماضيه، يبقى عبدًا له. ومن لا يفسح للتجارب المهمّشة مكانًا في سرديته، يظلّ حبيس أسطورته الخاصة.
تدريس التاريخ الأسود... فعل مقاومة
وفي عالمٍ اليوم، حيث يُحارَب كل ما يمتّ إلى العدالة والمساواة بصلة تحت شعاراتٍ مثل «رفض نظرية العرق النقدية»، يصبح تدريس التاريخ الأسود فعل مقاومة. ليس لأنّه يُدين الماضي، بل لأنه يحرّر المستقبل من تكراره.
التاريخ الأسود... تراث إنساني مشترك
يقول جونز في خاتمة كتابه: «إن التاريخ الأسود ليس ملكًا للأمريكيين السود وحدهم، بل هو تراث إنساني يخصّ كل من يسعى إلى فهم معنى الحرية». فحين نقرأ عن نضال مالكوم إكس، أو كفاح فريدريك دوغلاس، أو حركات التحرر الإفريقية، لا نتعلّم عن الآخرين، بل عن أنفسنا — عن قدرة الإنسان على إعادة تعريف ذاته ضد كل قيدٍ يُفرض عليه.
درس في الإنسانية
لذلك، فإن تدريس التاريخ الأسود ليس درسًا في السياسة، بل في الإنسانية. إنه تذكيرٌ بأننا لا نعرف من نحن حقًا، ما لم ننظر في المرايا التي حاول البعض كسرها.
التاريخ الأسود... قصيدة النهوض من الرماد
التاريخ الأسود، كما يراه جونز، ليس مجرّد فصلٍ في كتاب، بل قصيدة كبرى عن النهوض من الرماد، عن الأمل الذي لا يُمحى حتى حين يُحاصَر بالحقد. إنه صوت أولئك الذين لم يُمنحوا القلم، فكتبوا بدمهم معنى الانسان.