سرقة تمثال رأس نفرتيتي.

سرقة تمثال رأس نفرتيتي.

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

سرقة تمثال رأس نفرتيتي: حكاية أكبر عملية تهريب آثار “قانونية” في التاريخ

اكتشاف يهزّ عالم الآثار

تبدأ القصة في ديسمبر 1912، حين كانت البعثة الألمانية التابعة لـ"الجمعية الشرقية الألمانية" تعمل في تل العمارنة، العاصمة الدينية التي أسسها إخناتون. كان الموقع مليئًا بالورش الفنية، والرسوم، وبقايا القصور الملكية التي تحمل طابع الثورة الدينية الفريدة. وفي أحد استوديوهات النحات الشهير "تحتمس"، ظهر التمثال النصفي الملوّن لملكة جميلة، رشيقة الرقبة، ملامحها حادة، صلبة وناعمة في آن واحد.

لم يكن ذلك اكتشاف قطعة أثرية عادية، بل كان اكتشاف رمز حضاري كامل. أدرك لودفيغ بورشاردت، قائد البعثة الألمانية، منذ اللحظة الأولى أن التمثال ليس مجرد عمل فني، بل هو كنز لا يُقدّر بثمن. في مذكّراته أشار لاحقًا إلى أنه ذُهل من جمال القطعة لدرجة أنه أدرك بأنها ستصبح “أيقونة عالمية”.

لكن في تلك اللحظة تحديدًا بدأت القصة الأكثر ظلامًا: كيف سيستولي على التمثال، وكيف سيخرج به من مصر “قانونيًا” من خلال لعبة التضليل والمراوغة.

كيف كان نظام القسمة يعمل بالفعل؟

كانت مصر في تلك الفترة تحت السيطرة البريطانية، رغم وجود حكومة اسمية. وما يزيد التعقيد أن مصلحة الآثار المصرية، التي أسسها الفرنسيون، كانت تعمل بالقوانين التي وضعها المستشرقون الأوروبيون أنفسهم.

كان نظام “القسمة” عبارة عن اتفاق يسمح للبعثات الأجنبية بالحصول على نصف ما تُخرجُه من آثار، بينما يحتفظ الجانب المصري بالنصف الآخر. وذلك بينما يُمنع منعًا باتًا خروج أي قطعة تعتبر فريدة أو ذات قيمة فنية عالية.

كانت لجنة القسمة تعتمد على “تقييم” العلماء الأجانب للقطع. وهنا ظهر أخطر ثغرة: أن قيمتك الفنية كانت تُحدَّد في لحظتها بناءً على رأي البعثة نفسها!

وبوشاردت فهم ذلك جيدًا. بل استغلّه أفضل استغلال.

خدعة الوصف المضلل

حين قُدّم التمثال للجنة القسمة المصرية، لم يُعرض كتحفة ملكية فريدة. بل تم تقديمه كقطعة مصنوعة من الجبس الملوّن بمهارة متوسطة. وذكر بورشاردت في الوثيقة الرسمية أن التمثال “غير مُكتمل” وأنه “نموذج تدريبي”.

هذه ليست مجرد مبالغة، بل تزوير مقصود.

الصور الأصلية التي احتفظت بها البعثة ورفضت إظهارها للمصريين تظهر التمثال ببهائه، بجلاء ألوانه النادرة التي لا تزال نابضة بالحياة حتى اليوم. لكن اللجنة المصرية لم تر هذه الصور.

وعندما سُئل بورشاردت لاحقًا عن إخفاء الحقيقة، اعترف في وثيقة بقيت سرّية لعقود قائلاً: “لم يكن مسموحًا أن يرى المصريون التمثال في حالته الحقيقية.”

بهذه الخدعة مرّ التمثال ضمن “القطع المسموح بخروجها”.

وهكذا بدأت سرقة القرن.

خروج التمثال من مصر: القصة التي لم تُكتب رسميًا

في بداية 1913، خرجت الصناديق الألمانية محمّلة بعشرات القطع، بينها التمثال النصفي لنفرتيتي، دون أن يدرك الجانب المصري أنه أرسل جوهرة ملكية إلى أوروبا.

لم تكن هناك احتفالات، ولا حديث صحفي، ولا توثيق علني.

كان خروج التمثال عملية صامتة لأن البعثة الألمانية كانت تدرك جيدًا أن أي ضجة ستجعل الحكومة المصرية تطالب بحقه.

وصل التمثال إلى برلين، وتم الاحتفاظ به لعشرة أعوام كاملة في مخازن سرّية بعيدًا عن أعين الصحافة والفن.

ظهور التمثال للعالم عام 1923

في عام 1923، خرج التمثال إلى النور لأول مرة في معرض كبير ببرلين.

انبهرت أوروبا بجماله، وكتبت الصحف الألمانية أن “العالم لم يعرف الجمال الحقيقي إلا اليوم”.

وصدمت مصر.

عندها فقط أدركت السلطات المصرية حجم ما فقدته. وبدأت رحلة المطالبة بالنفرتيتي، وهي أطول قضية استرداد آثار في العالم، تمتد لأكثر من 100 سنة حتى اليوم.

مطالبات مصر بالاسترداد: صراع لا ينتهي

منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى اليوم، قدّمت مصر عشرات الطلبات الرسمية لاستعادة التمثال.

وكانت أبرز الحجج كالتالي:

1. التمثال خرج بخداع وتضليل.

2. القسمة كانت مبنية على معلومات خاطئة.

3. القطعة أثر ملكي فريد، وبحسب القوانين المصرية لم تكن لتخرج حتى لو تمت القسمة.

4. التمثال جزء من الهوية المصرية وليس مجرد قطعة متحفية.

ورغم ذلك، كانت الردود الألمانية دائمًا قائمة على حجة واحدة: “الوثائق تقول إنه خرج قانونيًا.”

المفارقة أن الوثائق نفسها قائمة على الخداع، وهذا ما تعترف به دراسات غربية حديثة.

الحرب العالمية الثانية: كاد التمثال يُدمَّر

خلال الحرب العالمية الثانية، نقلت ألمانيا التمثال إلى مخبأ تحت الأرض لحمايته من القصف.

وبعد الحرب، احتلت أمريكا منطقة المخبأ، فوجدت التمثال بين مجموعة من الكنوز الفنية المهربة.

انتقلت ملكيته مؤقتًا إلى الإدارة الأمريكية، لكن بعد مفاوضات سياسية أعيد إلى ألمانيا الغربية.

كان ذلك من أندر اللحظات التي كادت تسمح بعودة التمثال إلى مصر.

لكن السياسة كانت أقوى.

image about سرقة تمثال رأس نفرتيتي.

منع عرضه في مصر: الموقف الألماني الصارم

رفضت ألمانيا كل المطالبات المصرية، ورفضت حتى إعارة التمثال لبضعة أشهر.

الحجة التي قدمتها متحف “نويه” في برلين كانت غريبة:

“التمثال fragile هش للغاية، ولا يتحمل النقل.”

لكن نفس المتحف وافق سابقًا على نقل قطع أكبر وأثقل وأكثر هشاشة إلى أسابيع طويلة من الجولات حول العالم.

وبحسب بعض وثائق المتحف، السبب الحقيقي هو الخوف من عدم عودته مطلقًا إذا خرج إلى مصر.

الجانب الأخلاقي للسرقة: هل الفن ملك للعالم أم لصاحبه؟

تحوّلت قضية نفرتيتي إلى واحدة من أكبر مناقشات “أخلاقيات المتاحف” في القرن العشرين.

كانت هناك مدرستان:

مدرسة الملكية الأصلية: التي تقول إن القطع يجب أن تعود إلى موطنها الطبيعي.

مدرسة “الفن ملك للبشرية”: التي تبرر احتفاظ المتاحف الغربية بآثار الشرق بحجة أنّها “تحافظ عليها”.

ومع الوقت تحولت القضية إلى رمز لما فعله الاستعمار الأوروبي خلال قرون من نهب التراث الثقافي للشعوب.

 

لماذا التمثال مهم إلى هذا الحد؟

ليس مجرد عمل فني، بل يحمل قيمًا ضخمة:

يمثل الملكة التي كانت شريكة إخناتون في حكم ديني فريد.

يحمل أعمق تصوير واقعي لملامح ملكة مصرية قديمة.

يصوّر التقنية المصرية المثالية في النحت والتلوين.

أصبح رمزًا عالميًا للجمال الأنثوي.

هو قطعة وحيدة من نوعها في العالم، وليست جزءًا من مجموعة.

قيمته الثقافية والسياسية اليوم أكبر من قيمته الأثرية.

هل نحن أمام “سرقة قانونية”؟

المؤرخون يصفونها اليوم بأنها:

“عملية تهريب تمت بغطاء قانوني مزوّر.”

فالقانون نفسه لم يُخرق مباشرةً، بل تم خداعه عبر تزوير الوصف.

هذا النوع من الجرائم شائع في تاريخ الآثار، لكنه نادر في حجمه وأثره.

وثيقة بورشاردت التي ظهرت بعد 90 عامًا في 2009، ظهرت وثيقة صادمة تعود لعام 1913، كتب فيها بورشاردت:

“لقد قدمنا للمصريين صورة للتمثال غير ملوّنة، وأظهرناه قطعة بلا قيمة للبقاء في الجانب الألماني.”

هذه الوثيقة وحدها كافية لإبطال شرعية القسمة.

لكن ألمانيا رفضت إعادة التمثال رغم ذلك، وقالت إن الوثيقة “تاريخية وليست قانونية”.

موقف مصر الحديث: الدبلوماسية الثقافية

قدّم الدكتور زاهي حواس عدة طلبات رسمية.

وقام بجولات إعلامية ضخمة لفضح حقيقة الخروج غير المشروع.

وطالب بإعادة التمثال عشية افتتاح المتحف المصري الكبير، معتبرًا أنه “مكانه الطبيعي”.

كما قال:

“ألمانيا تمتلك التمثال لأنها سرقته، ونحن نطالب بحقه الطبيعي.”

ورغم الحملة القوية، استمر الموقف الألماني على رفض الإعادة أو الإعارة.

هل يمكن لمصر استعادته قانونيًا اليوم؟

القضية صعبة للغاية لأسباب:

القوانين الدولية الحديثة لا تطبّق بأثر رجعي.

مصر وقّعت على القسمة في 1913.

لا توجد آلية دولية لإجبار دولة على إعادة عمل فني.

لكن بالمقابل توجد عوامل تمنح الأمل:

الاعتراف الحديث بوجود تدليس.

تغير المناخ الدولي تجاه إعادة التراث.

السوابق العالمية التي حدثت مؤخرًا (مثل إعادة بنين برونز من بريطانيا وفرنسا).

 

لماذا لا تريد ألمانيا فقدان التمثال؟

السبب الحقيقي ليس قانونيًا، بل اقتصادي وسياسي.

التمثال هو أشهر قطعة في ألمانيا كلها.

يزور المتحف الذي يعرضه أكثر من مليون زائر سنويًا، وهو أحد أهم مصادر الدخل السياحي في برلين.

والتمثال يستخدم في الحملات الإعلانية، والهويات الثقافية، والكتب المدرسية الألمانية.

إنه ليس مجرد قطعة أثرية… إنه رمز قومي غير ألماني، تمت سرقته وأصبح الآن جزءًا من صورة ألمانيا للعالم.

وهذا بالضبط سبب رفضهم إعادته.

نفرتيتي بين السياسة والهوية والرمز

تحوّل التمثال إلى رمز سياسي لمصر الحديثة.

مطالب استرداده أصبحت جزءًا من الهوية الوطنية، لأن ما حدث لنفرتيتي حدث لمئات القطع الأخرى خلال فترات الضعف السياسي.

والقضية لا تتعلق بقطعة واحدة، بل بتاريخ كامل من الاستغلال الاستعماري.

لكن في النهاية، تبقى نفرتيتي منارة فنية لا يمكن أن يكتمل معناها إلا في أرض مصر.

هل يمكن أن يعود التمثال؟ رؤية مستقبلية

هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة:

1. مفاوضات دبلوماسية ثقافية طويلة تثمر بعد سنوات.

2. إعادة التمثال على سبيل الإعارة الطويلة المدى—وهو الحل الأقرب واقعيًا.

3. ضغط عالمي أخلاقي على ألمانيا كما حدث مع قطع أفريقيا وآسيا.

 

وفي كل الأحوال، الزمن أصبح في صالح مصر، لأن الاتجاه العالمي بدأ يميل إلى إعادة التراث المسروق.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
خلود السيد اسماعيل تقييم 4.97 من 5.
المقالات

69

متابعهم

30

متابعهم

18

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.