أسطورة رع وثورة البشر

أسطورة رع وثورة البشر

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

 

مقال: أسطورة رع وثورة البشر – رحلة الخلق والتمرّد والعقاب في الميثولوجيا المصرية

مقدمة: الأسطورة التي تكشف علاقة الإنسان بالسلطة الإلهية

تحتل أسطورة “ثورة البشر على رع” أو “هلاك البشرية” مكانة مركزية ضمن النصوص المصرية القديمة، خاصة في “كتاب البقرة السماوية” الذي دُوّن على جدران توابيت ودفوف الملوك بداية من عصر الدولة الحديثة. هذه الأسطورة ليست مجرد حكاية دينية، بل هي إطار فكري يوضح كيف فهم المصري القديم العلاقة بين الإله والإنسان، وكيف نظر إلى فكرة التمرّد، والعقاب، والسلطة، والشيخوخة، وتجدد الكون.
الأسطورة تتناول اللحظة التي تعب فيها الإله رع من البشر الذين خلقهم، بعد أن بدأوا يتمردون عليه، فقرر القضاء عليهم عبر الإلهة القوية حتحور في هيئة “سخمت”. لكن الأحداث لم تتوقف عند هذا القرار، بل تطورت إلى سلسلة من القرارات التي تكشف الحكمة الإلهية، وحدود العنف، وإعادة ضبط العلاقة بين الإله والخلق.

هذه الأسطورة ليست مجرد قصة عن الغضب الإلهي، بل تتضمن معاني عميقة عن طبيعة الإنسان، وحدود سلطته، وكيف يعيش المجتمع تحت ظل السلطة العليا. لذلك فهي من أعمق النصوص التي وصلتنا عن الروح المصرية، لأنها تكشف الجانب الإنساني للكون، وتطرح سؤالًا ظل حاضرًا عبر التاريخ: ماذا يحدث عندما يتمرّد البشر على خالقهم؟


أولًا: الإله رع وملك الكون

1. رع: الخالق والحاكم الأكبر

image about أسطورة رع وثورة البشر

في بداية الكون، بحسب معظم النصوص المصرية، كان رع هو الإله الأعلى، الخالق الأول الذي خرج من ظلام “نون” الأزلي، وفجّر الحياة في الكون.
هو الذي خلق البشر من دموعه، وخلق الآلهة الأخرى من نَفَسِه وكلمته، وسنّ النظام الكوني الذي يحكم حركة الشمس والنجوم والأرض.
كان المصري القديم يرى في رع رمزًا للنظام، والضوء، والاستمرارية. هو الذي يبحر في سفينته عبر السماء نهارًا، ثم يعبر العالم السفلي ليلًا ليهزم قوى الظلام.

2. الشيخوخة الإلهية: بداية الأزمة

تبدأ الأسطورة في لحظة حساسة: رع أصبح شيخًا.
الآلهة في الفكر المصري لديهم طاقة كبيرة، لكنهم أيضًا يمرون بمراحل وجودية. في لحظة الشيخوخة، شعر رع بأن سلطته على البشر لم تعد كما كانت.
وقدّم النص وصفًا رمزيًا دقيقًا:

  • عظام رع تحولت إلى فضة
  • لحمه تحول إلى ذهب
  • شعره صار من اللازورد

هذا التحوّل ليس ضعفًا، بل رمزًا للتحوّل الكوني حول الإله، ومع ذلك شعر البشر أن رع لم يعد هو القوة الجبارة نفسها التي ظهرت في بداية الخلق.

3. البشر يبدأون التمرّد

عندما لاحظ البشر كِبَر رع، خفّ احترامهم له، وبدأوا في التمرّد عليه.
النص يصف التمرّد بطريقة مبهمة، لكنه يشير إلى أن البشر “خططوا لإيذاء رع”، أو “تحدثوا ضده”، وهو ما يعد في الفكر المصري خرقًا للنظام الكوني (ماعت).
لم يكن الخطر في الفعل ذاته، بل في “فكرة التمرد” نفسها؛ لأنها تفتح الباب للفوضى الكونية.


ثانيًا: اجتماع الآلهة واتخاذ القرار

1. غضب رع ودعوة المجلس الإلهي

شعر رع بالخطر وقرر استشارة “مجلس الآلهة القدامى”، وعلى رأسهم:

  • شو: إله الهواء
  • تفنوت: إلهة الرطوبة
  • جب: إله الأرض
  • نوت: إلهة السماء

كان هذا الاجتماع من أقدم المجالس الإلهية التي تصفها النصوص المصرية، ويكشف عن بُعد سياسي في الميثولوجيا، حيث لا يتحرك الإله الأعلى دون مشورة من خلقه الأوائل.

2. قرار العقوبة: إرسال العين الإلهية

اقترحت نوت على رع أن يستخدم “العين الإلهية” لمعاقبة البشر.
وهنا يظهر مفهوم مهم في الفكر المصري:
العين ليست عضوًا بل قوة كونية منفصلة عن الإله، تتحرك باسمه، وتحمل قوته وغضبه.

قرر رع إرسال حتحور في هيئة “سخمت”، إلهة القوة والحرب والعقاب.
سخمت ليست مجرد إلهة، بل واحدة من أعظم قوى الكون، قادرة على سحق الأعداء وإحداث الدمار الشامل.


ثالثًا: نزول سخمت إلى الأرض وبداية المجزرة

1. سخمت: تجسيد الغضب الإلهي

image about أسطورة رع وثورة البشر

عندما نزلت سخمت إلى الأرض، بدأت بذبح البشر دون رحمة.
النص يقول:
"فراحت تشرب دماءهم كما يشرب الإنسان الماء."
هذا المشهد يرمز إلى الفوضى المطلقة التي تحدث عندما يخرج العقاب الإلهي عن السيطرة.

2. الهدف يتحقق… لكن المشكلة تبدأ

أراد رع معاقبة البشر، لكن سخمت تجاوزت العقوبة إلى الإبادة.
كلما سال الدم، زادت رغبتها في القتل، لأن الدم بالنسبة لها "شراب القوة".
هنا أدرك رع أنه خلق قوة قد لا يستطيع السيطرة عليها.


رابعًا: تدخل رع لإنقاذ البشر

1. الخوف من فقدان البشرية بالكامل

بدأ رع يقلق.
فالبشر ليسوا مجرد مخلوقات، بل هم أساس استمرار العبادة والنظام الاجتماعي، وهم أيضًا جزء من التوازن الكوني.
إذا فني البشر، تفقد الآلهة دورها، ويفقد الكون استقراره.
لذلك كان لابد من وقف سخمت.

2. حيلة إيقاف سخمت: خمرة من دم

أمر رع بصنع 7000 جرة من الجعة الحمراء.
أُضيف إليها المغرة الحمراء لتبدو كأنها دماء حقيقية.
وقُدمت إلى السهول التي تتجول فيها سخمت.

image about أسطورة رع وثورة البشر

3. سقوط سخمت في الفخ

عندما وصلت سخمت ووجدت السهول غارقة بسائل يشبه الدم، شربت منه حتى الثمالة.
تحوّل غضبها إلى سُكر، وتوقفت عن القتل.
واستيقظت في اليوم التالي كحتحور الوداعة والحب، بعد أن زال أثر الغضب الكوني.


خامسًا: تراجع رع عن حكمه وصعوده إلى السماء

1. قرار التخلي عن حكم الأرض

بعد انتهاء الأزمة، اتخذ رع قرارًا خطيرًا:
ترك الأرض والصعود إلى السماء نهائيًا.
لم يعد راغبًا في حكم البشر بعد تمرّدهم.
هذا يرمز إلى بداية فصل جديد في العلاقة بين الإله والإنسان.

2. خلق السماء ورفعها فوق البقرة السماوية

لصعوده، استدعى رع الإلهة نوت (البقرة السماوية).
طلب منها أن تحمله على ظهرها، فتقوّست فوق الكون، ورفعت معه السماء بعيدًا عن البشر.
شو، إله الهواء، وقف بين السماء والأرض ليفصل بينهما.
هذا المشهد يمثل لحظة تأسيس “السماء” كما عرفها المصريون.

3. رع يصبح الشمس

بعد صعوده، تحول رع إلى الشمس الحامية التي تسير كل يوم في السماء في قارب النهار، ثم تعود لتمر بالعالم الآخر ليلًا.
وبهذا أصبح وجوده معنويًا لا ماديًا، لكنه ظل المسيطر على الكون كله.


سادسًا: الرموز العميقة في الأسطورة

1. معنى التمرّد البشري

لم يكن تمرّد البشر فعل عصيان بسيط، بل رمزًا لوعي الإنسان بذاته.
ومثل كل الحضارات القديمة، كان التمرّد على الإله رمزًا لخطر الحرية إذا تجاوزت حدودها.

2. الغضب الإلهي وضبط القوة

تظهر الأسطورة أن الآلهة نفسها قد تفقد السيطرة على قوتها.
سخمت خرجت عن السيطرة، ورع احتاج للحيلة لا للقوة كي يوقفها.
هذا يعكس رؤية المصريين لحدود الغضب وسلطة الحكمة فوق القوة.

3. الخمرة: رمز التحوّل

الجعة الحمراء التي أنقذت البشرية ترمز إلى:

  • حيلة العقل أمام القوة
  • قدرة السلم على وقف الحرب
  • فكرة أن العنف يُوقف بالمكر لا بالعنف المضاد

4. صعود رع: بداية العهد الإنساني

عندما ترك رع الأرض، ترك الحكم للبشر عبر الملوك، الذين أصبحوا “أبناء رع”.
وبذلك انتقل النظام من حكم إلهي مباشر إلى نظام بشري يستمد شرعيته من الإله.

5. العلاقة بين الآلهة

الأسطورة تبرز ديناميكية بين آلهة لها إرادة مستقلة رغم خضوعها للنظام الكوني.
سخمت تُمثل الوجه العنيف، بينما حتحور الوجه الوديع.
هذا يعكس اعتقاد المصريين بأن الطبيعة مزدوجة:

  • شمس حارقة وشمس مُغذية
  • نهر يمنح الحياة ويغرق بالفيضان
  • قوة تخلق وقوة تهدم

سابعًا: أثر الأسطورة على الديانة المصرية

1. الاحتفالات الدينية

احتفل المصريون سنويًا بعيد “السكر العظيم”، وهو احتفال يرتبط بإيقاف سخمت وعربدة الأنوثة المقدسة.
كان الناس يشربون الجعة للذكرى، وتُقام طقوس موسيقية لتهدئة الإلهة حتحور.

2. دور الملك

منذ هذه الأسطورة، أصبح كل ملك هو نائب رع على الأرض، يحكم باسمه.
وظيفته هي منع البشر من التمرّد مرة أخرى، وضمان استمرار “ماعت” (الحق والنظام).

3. أثرها في الفكر السياسي

الأسطورة تشبه “عقدًا اجتماعيًا مقدسًا”:
البشر يعيشون ويحترمون النظام
ورع يحميهم من الفوضى
لكن إذا خرج البشر عن النظام، يحق للإله العقاب


ثامنًا: البعد النفسي والاجتماعي للأسطورة

1. خوف الإنسان من غضب السلطة العليا

توضح الأسطورة أن المصري القديم كان يخشى سلطة الكون، لكنه كان يؤمن أن العقاب له حدود.
فحتى الإله الأعلى يمكنه أن يتراجع عندما يدرك أن العقاب كان قاسيًا.

2. الشعور الجمعي بالذنب

تمثل الأسطورة لحظة وعي جمعي، حين أدرك البشر خطأهم ونجوا بالصدفة والحيلة الإلهية.
ومن هنا نشأ مفهوم:
الخلاص عبر الرحمة لا عبر القوة.

3. الانفصال بين الإله والعالم

صعود رع إلى السماء يرمز إلى:

  • انفصال المقدّس عن الدنيوي
  • بداية حكم الإنسان لنفسه
  • تحوّل الإله إلى رمز كوني لا حاكم مباشر

خاتمة: أسطورة رع وثورة البشر كمرآة لفهم الإنسان

أسطورة رع وثورة البشر ليست مجرد قصة عن غضب إلهي، بل هي دراسة عميقة لفهم طبيعة الإنسان وعلاقته بالسلطة، وكيف يوازن الكون بين القوة والرحمة، وبين العقاب والحياة.
إنها أسطورة عن الشيخوخة الإلهية، والتمرّد الإنساني، وسقوط النظام، ثم إنقاذ العالم بالحيلة.
وقد تمكن المصري القديم من تحويل كل هذه الأحداث إلى فلسفة مبنية على:

  • احترام النظام
  • إدراك حدود القوة
  • الخوف من الفوضى
  • تقديس العقل والمكر
  • فهم الطبيعة الإنسانية المتقلبة

وبذلك أصبحت هذه الأسطورة حجر الأساس لفهم طبيعة السلطة الدينية والسياسية في مصر القديمة، وبقيت محفوظة على جدران المقابر لأنها تمسّ جوهر الوجود: لماذا نعيش؟ كيف نُعاقب؟ كيف ننجو؟ وكيف يعود النظام بعد الفوضى؟

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
خلود السيد اسماعيل تقييم 4.97 من 5.
المقالات

69

متابعهم

30

متابعهم

18

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.