اول كاتب في التاريخ. ( الكاتب حسي-رع)
حسي-رع: أقدم كاتب معروف في تاريخ مصر القديمة
يحتلّ حسي-رع مكانة فريدة في سجل الحضارة المصرية القديمة؛ إذ يُعدّ أول كاتب معروف بالاسم في التاريخ المصري الذي وصلتنا آثاره واضحة ومكتملة نسبيًا. عاش هذا الرجل في زمن يوشك على أن يكون فجر الدولة المصرية، في عهد الملك زوسر من الأسرة الثالثة، حين بدأت ملامح الإدارة المركزية والبيروقراطية المصرية تتبلور، وبدأت الكتابة تأخذ شكلها الناضج كأداة لحفظ السلطة وتنظيم الدولة.
أولاً: السياق التاريخي لحياة حسي-رع
يعود تاريخ حسي-رع إلى القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، وقت كان فيه الملك زوسر يشيّد أول بناء حجري ضخم في التاريخ: هرم سقارة المدرّج تحت إشراف المعماري العبقري “إيمحتب”. في هذا الجو من الابتكار والتنظيم الإداري المتسارع، ظهرت الحاجة إلى طبقة من النخبة المتعلّمة القادرة على القراءة والكتابة وإدارة شؤون الدولة. وهنا يبرز حسي-رع كأحد أوائل رموز هذه الطبقة.
لم يكن دور الكتّاب في ذلك العصر مجرد نسّاخين بل كانوا رأس الجهاز الحكومي، يخطّطون، ويدوّنون، ويراقبون، ويُعدّون عيون الدولة وألسنتها.

ثانيًا: ألقاب حسي-رع ودلالاتها الإدارية والعلمية
حمل حسي-رع عددًا من الألقاب المهمة، تعكس دوره الواسع داخل الدولة، ومن أهمها:
"سش نساو" – كاتب الملك
وهو لقب شديد الندرة لا يُمنح إلا لكاتب على درجة عالية من الثقة، قريب من البلاط الملكي.
"حري سباوت" – رئيس الأطباء
ويدل هذا اللقب على معرفته بالطب والجراحة، ما يجعله أحد أوائل الأطباء المعروفين بالاسم في التاريخ المصري.
"حامل أختام الدلتا"
وهو منصب إداري يشير إلى الإشراف على مخازن ومراكز توزيع في منطقة الدلتا، ما يعكس دوره الإداري والاقتصادي.
تُظهر هذه الألقاب أن حسي-رع لم يكن مجرد كاتب، بل كان رجل دولة محوريًا يجمع بين العلم والإدارة والبيروقراطية.
ثالثًا: الألواح الخشبية لحسي-رع – مصدر شهرته
عُثر على مجموعة من الألواح الخشبية الخاصة بحسي-رع في مقبرته بسقارة، وهي من أهم الاكتشافات الأثرية المتعلقة ببدايات الكتابة.
تتميز هذه الألواح بما يلي:
- منقوشة بنصوص هيروغليفية دقيقة تشير إلى ألقابه ووظائفه.
- مُصمّمة بأسلوب فني فريد من نوعه في الدولة القديمة.
- تُعد أقدم مثال مكتمل تقريبًا للوح كُتّاب مصري.
تكشف هذه الألواح أن الكتابة في عصره كانت قد وصلت إلى مرحلة من النضج الفني والإداري، وأن الكتّاب كانوا طبقة مرموقة لها تقدير اجتماعي كبير.
رابعًا: مكانته في تطور مهنة الكاتب
جاء حسي-رع في لحظة مبكرة جدًا من التاريخ المصري، حين كانت الكتابة لا تزال في طور التشكّل. وكان لمهارته وتنظيم مهامه دور في تأسيس تقاليد مهنة الكاتب التي ستصبح واحدة من أهم المهن في مصر القديمة طوال ثلاثة آلاف عام.
مثّل حسي-رع النموذج الأول للكاتب المثالي الذي يجمع بين:
- القدرة على القراءة والكتابة.
- المعرفة التخصصية (خاصة في الطب والإدارة).
- القرب من السلطة المركزية.
- المهارة في تسجيل القوانين والأوامر الملكية.
هذه الصفات أصبحت لاحقًا معايير لاختيار الكتّاب عبر الأسرات المتعاقبة.

خامسًا: مقبرة حسي-رع وأهميتها الأثرية
تقع مقبرة حسي-رع في سقارة بالقرب من مجمع هرم زوسر المدرّج، وهي مقبرة كبيرة ذات طراز مبكر يدل على مكانته العالية.
احتوت المقبرة على:
- نقوش جدارية تمثل صاحب المقبرة ونشاطاته.
- صور لموائد القرابين.
- آثار تشير إلى حياته العملية.
- الألواح الخشبية الشهيرة.
تكمن أهمية هذه المقبرة في أنها تمنح الباحثين نافذة على الحياة الإدارية والعلمية في عصر الدولة القديمة.
سادسًا: الإرث الذي تركه حسي-رع
ترك حسي-رع إرثًا كبيرًا في تاريخ الكتابة المصرية، وقد أصبح رمزًا لطبقة الكتّاب الذين أسهموا في بناء الدولة.
ويظهر إرثه في:
- حفظ أول سجل معروف باسم كاتب في التاريخ المصري.
- مشاركة في تطوير النظام الإداري للدولة الثالثة.
- كونه أول مثال واضح للكاتب العالم والطبيب والمسؤول الإداري.
لقد أدّى حسي-رع دورًا تأسيسيًا في وضع أسس البيروقراطية التي ستدير شؤون مصر طوال آلاف السنين.
خاتمة
يمثل حسي-رع شخصية فريدة تجمع بين العلم والسلطة والإدارة في لحظة حاسمة من تاريخ مصر القديمة. ليس مجرد اسم على لوح خشبي، بل هو رمز لبداية تقليد عريق جعل من الكتابة والكاتب حجرًا أساسيًا في الحضارة المصرية. من خلاله نفهم كيف بدأت الدولة المصرية تبني جهازًا إداريًا متماسكًا قائمًا على المعرفة والتنظيم، وكيف أصبحت الكتابة أداة للحكم، والبقاء، والتاريخ.