إبادة الهنود الحمر.
إبادة الهنود الحمر: تاريخ الدم والاستيطان وطمس الهوية
تُعدّ قضية إبادة الهنود الحمر، أو ما يُعرف بالسكان الأصليين للأمريكتين، واحدة من أكثر الصفحات دموية وإيلامًا في التاريخ الإنساني الحديث. فهي ليست مجرد صراع عسكري بين حضارات مختلفة، بل مشروع استيطاني طويل الأمد قام على الإقصاء، والقتل المنهجي، وسلب الأرض، وتدمير الثقافة والهوية، باسم التوسع، والتقدم، والحضارة. وقد امتدت هذه الإبادة عبر قرون، منذ لحظة وصول الأوروبيين إلى العالم الجديد في أواخر القرن الخامس عشر، وحتى القرن التاسع عشر، بل واستمرت آثارها السياسية والاجتماعية والنفسية حتى يومنا هذا.
السكان الأصليون قبل الغزو الأوروبي
قبل وصول كريستوفر كولومبوس عام 1492، كانت القارة الأمريكية تعجّ بحضارات متقدمة ومتنوعة. فقد قُدّر عدد السكان الأصليين بعشرات الملايين، عاشوا في مجتمعات منظمة، تمتلك نظمًا سياسية، واقتصادية، ودينية، ومعرفية معقدة. في أمريكا الشمالية وحدها، وُجدت مئات القبائل مثل الشيروكي، والسيو، والأباتشي، والإيروكوا، ولكل منها لغته وثقافته ونمط حياته. أما في أمريكا الوسطى والجنوبية، فقد ازدهرت حضارات كبرى مثل الأزتك، والمايا، والإنكا، التي شيدت مدنًا ضخمة، وامتلكت علومًا متقدمة في الزراعة والفلك والطب.

الصدمة الأولى: الغزو والمرض
شكّل وصول الأوروبيين صدمة وجودية للسكان الأصليين. فلم يكن الصدام عسكريًا فقط، بل بيولوجيًا أيضًا. إذ حمل الغزاة معهم أمراضًا قاتلة مثل الجدري، والحصبة، والإنفلونزا، لم يكن لدى الهنود الحمر أي مناعة ضدها. وقد تسببت هذه الأمراض وحدها في موت ملايين السكان خلال عقود قليلة، حتى قبل أن تبدأ الحروب المنظمة. وتشير بعض الدراسات إلى أن ما بين 70% إلى 90% من السكان الأصليين قضوا بسبب الأمراض الأوروبية، ما يجعلها واحدة من أكبر الكوارث الديموغرافية في التاريخ.
العنف العسكري والإبادة المنظمة
لم يقتصر الأمر على الأمراض، بل تبعه عنف عسكري منظم. فقد شنت القوى الاستعمارية الأوروبية، ثم لاحقًا الولايات المتحدة، حروبًا متتالية ضد القبائل الأصلية. استُخدمت فيها أساليب الإبادة الجماعية، من مذابح جماعية، وحرق القرى، وتدمير المحاصيل، وقتل النساء والأطفال. ومن أشهر هذه الجرائم مذبحة “ووندد ني” عام 1890، حيث قُتل مئات من أفراد قبيلة لاكوتا العزل على يد الجيش الأمريكي.
سياسات التهجير القسري
اعتمدت الولايات المتحدة سياسة التهجير القسري كوسيلة رئيسية للتخلص من السكان الأصليين والاستيلاء على أراضيهم. ويُعدّ “درب الدموع” مثالًا صارخًا على ذلك، حيث أُجبرت قبائل كاملة، مثل الشيروكي، على السير آلاف الكيلومترات من أراضيهم في الجنوب الشرقي إلى مناطق قاحلة غرب نهر المسيسيبي. وقد مات الآلاف خلال هذه الرحلات بسبب الجوع، والمرض، والبرد، وسوء المعاملة.

الإبادة الثقافية وطمس الهوية
لم تكن الإبادة جسدية فقط، بل ثقافية أيضًا. فقد سعت الحكومات الاستعمارية إلى محو ثقافة الهنود الحمر، عبر منع لغاتهم، وطقوسهم الدينية، وأنماط حياتهم التقليدية. أُجبر الأطفال على الالتحاق بمدارس داخلية قسرية، حيث فُصلوا عن أسرهم، ومُنعوا من التحدث بلغاتهم الأصلية، وتعرضوا للعنف النفسي والجسدي، في محاولة “لإعادة تشكيلهم” وفق النموذج الأوروبي الأبيض.
الدور الديني وتبرير الإبادة
لعب الدين دورًا محوريًا في تبرير الإبادة. فقد صوّر المستعمرون الأوروبيون أنفسهم على أنهم يحملون “رسالة حضارية” أو “تفويضًا إلهيًا” لنشر المسيحية بين “البرابرة”. وقد استُخدمت هذه الرؤية لتبرير القتل والاستيلاء على الأرض، باعتبار السكان الأصليين أقل شأنًا أو حتى خارج الإنسانية الكاملة، وهي أفكار عنصرية ساهمت في إضفاء الشرعية الأخلاقية الزائفة على الإبادة.
الاقتصاد والاستيطان الأبيض
كان الدافع الاقتصادي أساسًا لهذه الجرائم. فالأراضي الخصبة، والثروات الطبيعية، والذهب، كانت المحرك الرئيسي للتوسع الاستيطاني. ومع تزايد أعداد المهاجرين الأوروبيين، أصبح وجود السكان الأصليين عائقًا يجب إزالته. وهكذا تحوّلت القارة إلى مشروع استيطاني إحلالي، يقوم على استبدال السكان الأصليين بمستوطنين جدد، وهو جوهر الإبادة.

النتائج والآثار الممتدة
أسفرت إبادة الهنود الحمر عن تدمير شبه كامل للمجتمعات الأصلية. فقد انخفض عددهم بشكل كارثي، وضاعت مساحات شاسعة من ثقافتهم وتراثهم ولغاتهم. ولا يزال أحفادهم يعانون حتى اليوم من الفقر، والتهميش، والتمييز العنصري، ومشكلات اجتماعية عميقة، نتيجة قرون من القهر والحرمان.
إعادة قراءة التاريخ والاعتراف بالجريمة
في العقود الأخيرة، بدأت بعض الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة وكندا، بإعادة النظر في هذا التاريخ، والاعتراف جزئيًا بالجرائم المرتكبة ضد السكان الأصليين. إلا أن هذا الاعتراف لا يزال محدودًا، ولا يرقى إلى مستوى العدالة التاريخية أو التعويض الحقيقي. فإبادة الهنود الحمر ليست حدثًا من الماضي فحسب، بل جرح مفتوح في ضمير الإنسانية.
خاتمة
إن إبادة الهنود الحمر تمثل نموذجًا صارخًا لما يمكن أن تفعله العنصرية، والطمع، والاستعلاء الحضاري حين تتحول إلى سياسات دولة. وهي تذكير دائم بأن التقدم القائم على أنقاض الآخرين ليس تقدمًا، بل جريمة تاريخية. إن فهم هذه الإبادة ليس مجرد استعادة للماضي، بل ضرورة أخلاقية وإنسانية لضمان ألا تتكرر مثل هذه المآسي في أي مكان من العالم.