عندما كنت لصا في الماضي | رواية

عندما كنت لصا في الماضي | رواية

0 المراجعات


 ليس من السهل ولا المعتاد أن يعترف لص ما بماضيه القذر، والقليل فقط من يجرؤ على نفخ الروح في ذكرى البدايات الغامضة التي تُدس بعناية في صناديق النسيان ، ليس من عادة المذنبين عموما أن يُظهروا للعلن دموع التوبة والتحسر على ما أتته أيديهم في زمن ما، ف"المجرم" ورغم ما يعتمل في دواخله من صراع بين بقايا الفطرة و طوفان العادة يأبى الاعتراف والانحناء ، لأن الاعتراف بداية التراجع عن المألوف، وكل تخل عن المألوف يحمل خسارة ما. أنا سأمثل ذلك الاستثناء الذي يشذ عن القاعدة، وأحكي لكم عن المنحى الطبيعي الذي أفضى مباشرة لأن أكون لصا، لصا محترما بطبيعة الحال، قد تكون عبارة أخرى أقل قسوة من وصف اللص، لكني أعتقد أن البوح يقتضي انتقاء أكثر الكلمات وضوحا وتوضيحا.
   ولجت المدرسة، طفلا ضخم الجثة، شارد الذهن ، ومتقلب المزاج ، وكانت هذه الصفات كافية لتنفر الأقران مني و تشعرهم بالقرف من طباعي الحادة. كنت من الصنف الذي لا يبتسم إلا لماما ، من النوع الذي يُعتبر حضوره وغيابه سيان،أنظر إلى العالم من زاوية ضيقة جدا، وأعتبر كل من ألاقيه عدوا مفترضا أو ضحية محتملة. والحقيقة أني لم أجد لحد الآن أسبابا واضحة تجعل إنسانا يبدأ حياته بذلك المظهر وبتلك الخصال، وُيكون نظرة سلبية عمن وعما حوله في سن مبكرة، و إذ أقرر الكتابة عن هذا الأمر فلأنني أعلم حقا وجود أسباب  وعوامل أجهلها  وقد يكون  بينكم من سيدركها ويكتشفها ،حتما، بين هذه السطور.     
   اخترت  منذ اليوم الأول مكانا في آخر الصف ، طفلا منعزلا ومعزولا، لم يعترني من خوف أو خجل ما يعتري الصغار وهم ينتقلون مرغمين إلى هذا الفضاء الضيق ، انفردت بطاولة دون أن أشرك أحدا فيها أو يجرؤ أحد على طلب ذلك. ومع مرور الأيام وتواليها، لم أستطع التكيف مع هذا المكان، وصارت متعتي الوحيدة إزعاج تلك الثلة المتميزة المسماة  "مجتهدين" ، أسخر منهم، أشوش عليهم، وأوقع بعضهم في كمائن صغيرة، كان تَميزهم ومثابرتهم وتفاؤلهم مثار حنقي ، كنت أكره شعورهم المصفوفة بعناية، دفاترهم الملونة بإتقان، وملابسهم المتناسقة والنظيفة، كنت أنظر إلى  ذلك الترتيب العجيب الذي تتميز بهم حياتهم وأقارنه توا بحالة الفوضى التي أتخبط  فيها وتنعكس على أغلب تصرفاتي فألاحظ تمايزا وهوة شاسعة لا أستطيع رتق أطرافها فأزيدها تباعدا وتوسيعا. في المقابل، كنت أدرك أن جلهم يبادلني نفس الشعور، يحتقرني ويعتبرني مجرد رقم زائد ، مجرد كتلة مكومة في المقعد الخلفي، بلا ماض ولا مستقبل، لكن أحدا لم  يكن ليجاهربهذا الشعور خشية تهديداتي المتوالية التي لا أتأخر في ترجمتها إلى عقاب حقيقي كلما حام أحدهم حول الحمى أو رفض لي طلبا. أما أساتذتي فقد تعودت منهم التقريع والتأنيب والوعيد ،و كان ذلك مجرد حلقة ضمن مسلسل يومي من التحقير والسخرية يمتد من البيت إلى المدرسة ، أسلوبا شائعا ومقبولا في البيوت والمؤسسات التعليمية، لكنه أسلوب فاشل  لم يَثبت يوما أن أعاد قاصيا إلى الدرب الصحيح ، أو أصلح أخطاء المخطئين  دون أن يترك ندوبا وجراحا عميقة في نفوسهم.
    ولأن لكل مسار نهاية طبيعية يفضي إليها، فقد كان الرسوب والفشل بالنسبة لي أمرا طبيعيا، لا يحمل أية مفاجأة، ففي كل سنة تأتي وجوه جديدة وينتقل أطفال صغار أطل عليهم من عل بسبب طول قامتي ، يرفعون سباباتهم، يجيبون عن كل الأسئلة، ينجحون ويمضون في طريقهم، فيما كنت أنا أمر من مستوى إلى آخر، أمر فقط ولا أنجح، أنتقل من قسم ليرتاح مني أساتذته، ويستعد الآخرون لسنة سوداء، جراء ما سمعوه عني أو رأوه رأي العين، والغريب ألا أحد منهم حاول سبر أغوار شخصيتي أو الاقتراب منها ، فقد كنت في نظر الجميع تلميذا ميؤوسا منه لا يُقومه اللين ولا القسوة، شخصا غريب الأطوار  يتندر به وتحكى طرائفه بين الزملاء والرفاق. 
   بعد انتقالي للمستوى الإعدادي بمعجزة ما أو بفعل فاعل ، بعدما أمضيت سنوات محترمة في كافة المستويات السابقة، قررت أن أضع حدا لهذا العبث المسمى دراسة، لكني لم أجرؤ على طرح الموضوع على والدي، فرغم ما حكيت لكم عن لا مبالاتي، إلا أن لوالدي هيبة وردود أفعال لا يتوقع أحد مداها، وكانت له طرق في التأديب لا تخطر على بال أقسى الجلادين. لهذا كنت أوهم أسرتي بالذهاب إلى الإعدادية ، بينما  كنت أتسكع خارج القرية، أطارد الكلاب الضالة وأمر على البساتين المثمرة فأعيث فيها فسادا، ولست أدري إن كانت عائلتي تدري بما أفعل، أم أنها كانت تجاريني في كذباتي السخيفة، لأنني في اليوم الذي ضقت ذرعا بالوضع وطرحت موضوع انقطاعي النهائي عن الدراسة ، لم يتفاجأ أحد ولم يتقدم إخوتي الكبار بنصيحة واحدة، لقد تأخرت في  اتخاذ القرار إذن، وأضعت على نفسي زمنا  ثمينا يمكن استثماره في التحرر من قيود كثيرة كانت تكبلني. الآن تبدأ مرحلة جديدة أرى أنها جديرة بالحكي و التفصيل..  يتبع

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

articles

1

followers

2

followings

0

مقالات مشابة