عظمة الحب المبني من المواقف

عظمة الحب المبني من المواقف

0 المراجعات

بعد مرور أربعة وعشرين عاما على تلك الحوادث لم يبق في إفريقية حي من بني الأحمر إلا فتى في العشرين من عمره اسمه 
 سعيد ، لم ير غرناطة ولا قصر الحمراء ولا المرج ولا جنة العريف ولا نهر شنيل ولا عين الدمع  فكان كلما خلا إلى نفسه ردد تلك
المراثي بنغمة شجية محزنة تستثير عبرته ، وتهيج أشجانه ، فلا يزال يبكي وينتحب حتى يشرف على التلف . فكان لا يتمنى على الله من كل ما يتمنى امرؤ على ربه في حياته إلا أن
برى غرناطة ساعة من زمان يشفي بها غلة نفسه ،ثم ليصنع الدهر به بعد ذلك ما يشاء . فركب البحر من سبتة إلى شاطئ ملقة ، ثم انحدر منها إلى غرناطة متنكرا في ثوب طبيب
عربي من أطباء الأعشاب يتبقل في جبال الأندلس وسهولها حتى بلغ ضاحيتها ساعة الأصيل . وإنه كذلك حتى انفتح باب قصر عظيم قريب منه وإذا فتاة إسبانية خارجة منه قد أسبلت على وجهها خماراً أسود شفافاً وأرسلت على صدرها صليباً ذهبياً صغيراً ومشى وراءها غلام يحمل على يده الكتاب المقدس ، فلمحته في مكانه فأدهشها موقفه
فدنت منه ورفعت قناعها عن وجهها فإذا الشمس طالعة حسناً وبهاء ، وقالت له بلسان عربي تخالطه بعض العجمة : أغريب انت عن هذا البلد أيها الفتى ؟ 

قال : نعم لقد نزلت به الساعة فلم أعرف طريق الخان الذي يأوي إليه الغرباء ، ولم أجد في طريقي من يدلني عليه ، فسمعت في صوته رنة الشرف ورأت
بين أعطافه مخائل اللنعمة فأهمها أمره ، وأشارت إليه أن يتبعها لتدله على ما يريد ، فمشى بجانبها حتى بلغا موضع الخان فحيته بابتسامة عذبة ، وقالت له :

 لا تنس أن تزورني أيها الغريب كلما عرضت لك حاجة ثم سارت في طريق كنيستها .
كما أن السماء في ظلمة الليل تختلف إليها النجوم فتضىء صفحتها وتمر بها الشهب فتلمع في أرجائها ، حتى إذا طلعت الشمس من مشرقها محا ضوؤها ضوء جميع تلك النيرات ؛ كذلك القلب الإنساني لا تزال تمر به مختلف العواطف وأشتات الأهواء مجتمعة ومفترقة حتى إذا بلغ وأشرقت عليه شمس الحب غربت بجانبها جميع تلك العواطف والأهواء .
فقد أصبح الأمير ينظر إلى غرناطة منذ الساعة بعين غير العين التي كان ينظر بها إليها من قبل ، ويرى في وجهها صورة الأنس بعد الوحشة ، والنور بعد الظلمة ، والحياة بعد الموت فسكن
ثائره وبردت جوانحه .وفي يوم أخر كانت (فلورندا) الراهبة الجميلة سائرة بجانب مقبرة بني الاحمة اذ تسمع نشيج وبكاء , واذ بالفتى الذي لقيته يبكي ابائه وملكهم القديم , فقالت له نلتقى غدا في مثل هذا الوقت فـأريك قصور آبائك , ويال حسرتك على ملككم العظيم الضائع . 

وهكذا ظل يلتقي ملكنا بالراهبة فتريه العظمة المتمثلة بالقصور والأبنية ومع هذه اللقاءات نمى حب في كل من قلبيهما , ولا زالوا على ما هم عليه حتى قبض الصليبيون على الفتى المسكين بتهمة إغراء فتاة مسيحية بترك دينها . 

وسيق الى ساحة قتل فيها قبله مئات الالاف من المسلمين وأمر بقطع رأسه , وما جرد الجلاد سيفه فوق رأسه حتى سمع الناس صرخة امرأة بين الصفوف ، 

فالتفتوا فلم يعرفوا مصدرها ، وما هي إلا غمضة وانتباهة أن سقط ذلك الرأس الذي ليس له مثيل .


يرى المار اليوم بجانب مقبرة بني الأحمر في ظاهر غرناطة قبراً جميلا ً مزخرفاً هو قطعة واحدة من الرخام الأزرق الصافي
قد نحتت في سطحها حفرة جوفاء تمتلىء بماء المطر فيهوى إليها الطير في أيام الصيف الحار فيشرب منها ، 

ونقشت على ضلع من أضلاعها هذه السطور :
                هذا قبر آخر بني الأحمر ،
 من صديقته الوفية بعهده حتى الموت 
                   (فلورندا فيليب)
.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

articles

1

followers

6

followings

1

مقالات مشابة