السماء لا تتسع لنا -الفصل الثانى والعشرين(الكاتبة علا إبراهيم)
توقّف فاروق بسيارته تحت العمارة التي يسكن فيها مع أروى وقد قرر أن اليوم هو يوم خلاصة منها وانتهاء كل شئ بينهم حتى وإن لم يبدأ،هو لم يخون سيدرا زوجتة، صعد درجات السّلم بملامح هادئة عاديّة. عند وصوله إلى باب شقته، أخرج مفتاحه، ولاحظ أنّ باب الشقّة المقابلة مفتوح قليلًا، لكنّه لم يُعر الأمر اهتمامًا، فهو أمر عادي لا يعنيه.
دخل إلى منزله، فإذا بطفل صغير يجلس في الصالون يلعب بألعابه. حدّق فيه باستغراب قبل أن ينادي بصوتٍ عالٍ:
ــ “أروى!”
ثم اتّجه نحو أبواب الغرف، يفتحها بلا خبط. فتح أوّل غرفة ولم يجد أحدًا، فتوجّه إلى الغرفة الأخرى، وما إن فتح الباب حتى تفاجأ بـ لينا جالسة على السرير بملابس بيتيّة.
ارتبكت لينا بشدّة، وصُدمت وهي تتهته قائلة:
ــ “أ.. أستاذ فاروق!”
وبدأت تبحث بسرعة عن طرحة حولها، غير مدركة كيف لم تنتبه لوجوده حين دخل، يبدو أنّه لم يرن الجرس .
قال فاروق سريعًا وهو يشيح بنظره عنها، ثم أغلق الباب بهدوء بعدما لاحظ توتّرها:
ــ “خليكي براحتك.”
أسرعت لينا ترتدي جاكيت، ثم خرجت إليه . كان فاروق قد جلس على الأريكة، يراقب الطفل الذي ما يزال يلعب على الأرض ويحبُو.
اقتربت لينا بخطوات متردّدة وقالت بأسف وهي تحمل صغيرها بين ذراعيها:
ــ “معلش يا أستاذ فاروق... إنت أكيد افتكرتني. أنا لينا، جارتكم.”
هزّ فاروق رأسه بتأكيد وابتسامة هادئة:
ــ “آه... أمال فين أروى؟”
لم تكن لينا تعلم حقًّا أين اختفت أروى، وفكّرت في سرّها: “البنت المجنونة! مش كان لازم تبقى موجودة؟ أكيد نزلت تشتري حاجة.”
هزّ فاروق رأسه مرة أخرى وأكمل بهدوء حين لاحظ أنّ لينا ما زالت واقفة تحمل صغيرها:
ــ "طب... أنا هنزل أجيب حاجة على بال ما أروى تيجي، وإنتي خدي راحتِك عادي
خرج فاروق وأغلق الباب خلفه. بينما ظلت لينا تنظر في أثره باستغراب، عقلها مثقل بالأسئلة: هل يحب أروى فعلًا؟ ولماذا تزوج بأخرى؟ وما الذي يريده منها أصلًا؟ تنهدت بغضب من تصرفات أروى، ومن الموقف المحرج الذي تركتها فيه. لكنها، رغم كل شيء، لم تستطع أن تنكر أن أروى صارت لها كالأخت.
في تلك اللحظة، كانت أروى تجلس مع رامي. ساد بينهما صمت ثقيل، لم تجد ما تقوله حتى قطعت اللحظة بتردد:
ــ «حضرتك... بتحب لينا، صح؟»
أدار وجهه نحوها سريعًا، يتأملها في صمت، لتكمل هي بصراحة أكبر:
ــ «لأ... حضرتك بتعشقها كمان. والدليل السجاير اللي شربت قدامي... تلاتة مرة واحدة.»
أطفأ رامي سيجارته، وظل ساكتًا. لكن صمته كان أقوى اعتراف بكلامها.
السماء لا تتسع لنا

ابتسمت أروى ابتسامة صغيرة، وقالت بحنان:
ــ «وهي كمان بتحبك جدًا... وزعلانة من غيابك عنها أوي.»
هذه المرة التفت إليها بانتباه، حدق فيها متسائلًا بجدية:
ــ «وانتي إيه عرفك إن غيابي مأثر فيها؟»
ارتبكت للحظة، ثم عادت تبتسم بخفة:
ــ «اعتبرني أخت مراتك الصغيرة... تفتكر مش هتقولي؟»
رمقها رامي بنظرة طويلة، ثم قال:
ــ «لأ... هتقولك.»
ضحكت أروى بخبث مرح:
ــ «آه، وأختها كمان تقدر ترجعها... صح يا أبيه رامي؟»
أطفأ سيجارته مرة أخرى، ثم قال بجدية:
ــ «مش هترضى ترجع من نفسها.»
اقتربت أروى بلهفة، عينيها تتلألآن بالأمل:
ــ «طب... إيه اللي يخليك تشوفها دلوقتي وتعتذرلها؟»
رفع حاجبيه باستغراب:
ــ «إزاي؟»
هزت كتفيها بخفة:
ــ «كده... بس على شرط.»
ابتسم، وقد تسلل الأمل إلى قلبه:
ــ «إيه هو؟»
قالت بحزم:
ــ «تقولها إنك بتحبها... وتعتذرلها.»
هنا، ولأول مرة منذ زمن، أشرق وجه رامي بابتسامة حقيقية:
ــ «إنتي لسه بتقولي إنك أختنا الصغيرة... هتشرطي علينا وتؤمرينا كمان؟»
انفجرت أروى ضاحكة، ضحكة صافية خرجت من قلبها رغماً عنها. لم تكن تعلم أن هذه الضحكة، بالذات، ستُشعل قلبًا آخر…
ففي الخارج، كان فاروق يمر بجوار الشقة. ضحكتها رنّت في أذنه، لم تكن عالية، لكنها اخترقت قلبه بلا استئذان. تذكّر فورًا كيف كانت أروى دومًا تبتسم له قبل كل شيء، وكيف كان أكثر ما يحبه فيها هو ضحكتها التي لم تخرجها إلا له وهو لا يبالى.
لكن الآن... سمعها. تساءل داخله اين هى وكيف تضحك هكذا؟ ولمن ؟ سمع الصوت ياتى من باب الشقة امامه المرجل قليلا، تحرك نحوة وإزاح الباب بلا تردد، ليصدم باروى بالفعل جالسه بالداخل.
تجمدت أروى مكانها، الصدمة ارتسمت على وجهها، خوفها ظهر في ابتلاع ريقها المتوتر. نظر فاروق حيث تنظر، ليجد رامي جالسًا أمامها. تضاعفت الصدمة داخله، اجتاحه نفس الإحساس الذي راوده يوم مكتب العقيد... لكن هذه المرة الأمر أشد.
تساءل عقله بلا توقف: هل أعجبها؟ هل دخل عقلها؟ هل شغلها أكثر مني؟ جن جنونه، ولم يفكر.
اندفع نحوها، أمسكها من ذراعها بقسوة، صوته خرج حادًا، عقل يغلي أكثر مما ينطق لسان:
ــ «بتعملي إيه هنا؟ ومين دا؟!»
أسرع رامي يتدخل، نبرته حازمة:
ــ «أروى ما عملتش حاجة... كانت جاية تحل مشكلة.»
لكن حديثه زاد النار اشتعالًا في صدر فاروق:
ــ «وإنت مين عشان تدخل بيني وبين مراتي؟!» قالها بحدة، غيرته تفجرت كالبركان.
صرخت أروى بغضب، لأول مرة تواجهه بهذه القوة:
ــ «فاروق! لو سمحت، دا أستاذ رامي... جوز مدام لينا! واسكت بقى!»
لكن ما سمعه فاروق لم يكن الاسم ولا الحقيقة... بل سمع نبرة دفاعها عنه، لأول مرة تدافع عن رجل سواه.
رمقها بغيظ، ثم عاد يحدق في رامي:
ــ «وإنت بقى... سايب مراتك عندنا وجاي...!»
لم يكمل جملته، إذ اندفعت أروى تكتم فمه بيديها المرتجفتين، تسحبه معها للخارج، عيناها تلمعان بحزن عميق:
ــ «فاروق... امشي يلا على شقتنا!»
نزع يديه بعنف من قبضتها، عينيه تحاصرانها بأسئلة تحرقها:
ــ «كنتي قاعدة هنا بتعملي إيه؟ انطقي!»
صمتت لبرهة، تكتم دموعها، لكنه ضغط على يديها أكثر، وصوته خرج من بين أسنانه:
ــ «عايز أعرف... بتعملي إيه هنا!»
أخيرًا انفجرت، بصوت مخنوق:
ــ «كنت عايزة أرجّع لينا... لأبيه رامي! خلاص... ارتحت؟!»
أدارت وجهها بعيدًا، تمنع دموعها من الانحدار. أما فاروق، فقد حدق بها، ثم نظر نحو رامي للحظة، ليوقن أن كلامها صدق. أمسك ذراعها وجذبها وراءه، كأن شيئًا لم يكن.
دخلوا الشقة، وما إن أغلقت الباب حتى انفجرت أروى:
ــ «ممكن تقولّي إيه اللي عملته دا؟!»
جلس على الأريكة ببرود:
ــ «عملت إيه؟»
صرخت بغيظ:
ــ «اللي عملته مع أبيه رامي! إزاي تعمل كده؟ روّحت كمان... وزعقتله!»
لم يرد. فازدادت حدة كلماتها:
ــ «إنت ما كنتش شايف معاملتك معاه كانت عاملة إزاي؟!»
فاض به الكيل، فصرخ بانفجار:
ــ «مين أبيه رامي دا؟ وتعرفيه منين؟ أنا السبب إني قعدتك في الشقة دي... أجي ألاقيكي قاعدة مع الجيران وعاملة صحوبية! مالك بيه وبيها؟!»
صمتت أروى، لم تجب. أدارت وجهها بعيدًا، تأبى دموعها أن تنزل أمامه. لكن فاروق لم يرحمها، صوته يجلجل باستفزاز:
ــ «إيه ما تردّي؟! كنت سيبتك يومين عشان تدوري على حل شعرك؟!»
هذه المرة، غلبتها دموعها، انهمرت رغماً عنها. مسحتها بكفها الصغير سريعًا، تحاول إخفاء ضعفها. لكن فاروق رآها... ارتبك. صمته لم يكن برودًا، بل ذنبًا ثقيلًا. لم يتخيل يومًا أن يصل بها الأمر إلى البكاء من كلماته التى لم يستطع التحكم بها وهذا ما زاد دهشتة.
ارتبك داخليًا، قلبه يلومه، لكنه تماسك خارجيًا. وفي لحظة خاطفة، وقعت عينا أروى على ألعاب أسر المبعثرة بالأرض... تذكّرت لينا، وشهقت بصدمة...…