معبد القيصريون: حلقة الانتقال من التراث المعماري البطلمي إلى التراث المعماري الروماني في الإسكندرية
يعتبر معبد القيصريون، المعروف أيضاً بمعبد القيصرون أو معبد سيزاريوم، آخر معابد العصر البطلمي في الإسكندرية وأول معابد الرومان فيها. يمثل هذا المعبد حلقة الانتقال الأهم بين التراث المعماري البطلمي الرائع والتراث المعماري الروماني الذي تميز به الإمبراطورية الرومانية.
معبد القيصريون يتميز بتصميمه الفريد الذي يجمع بين العناصر البطلمية والرومانية. يتألف المعبد من هيكل هائل مكون من عدة أجزاء، بما في ذلك قاعة معبدية مركزية تزينها التماثيل الضخمة للإمبراطور الروماني والآلهة. تعتبر هذه التماثيل عملا فنياً استثنائياً يعكس الأسلوب الروماني الكلاسيكي.
تجذب المعابد الرومانية في الإسكندرية اهتمام الزوار من جميع أنحاء العالم بسبب جمالها وتاريخها الغني. إن معبد القيصريون يعد نموذجاً فريداً يجمع بين الثقافتين البطلمية والرومانية، ويعكس بشكل رائع تطور المعمار عبر العصور والثقافات المختلفة.
تاريخ معبد القيصريون: من تكريم ماركوس أنطونيوس إلى رعاية الملاحة
في القرن الأول قبل الميلاد، ابتكرت الملكة كليوباترا السابعة، آخر ملوك البطالمة، فكرة إنشاء معبد تكريماً لزوجها القائد الروماني ماركوس أنطونيوس. واختارت له موقعاً مذهلاً في الحي الملكي بالإسكندرية، حيث يطل على الميناء الكبير، بالقرب من منطقة محطة الرمل الحالية والميناء الشرقي.
ومع ذلك، لم تكن لكليوباترا مصيراً سعيداً، حيث تم هزيمتها هي وزوجها في معركة أكتيوم البحرية في عام 31 قبل الميلاد على يد القائد الروماني أوكتافيوس. وبعد ذلك، قام ماركوس أنطونيوس بالانتحار، وتبعته كليوباترا في عام 30 قبل الميلاد.
قرر أوكتافيوس، فيما بعد أصبح الإمبراطور أوغسطس، محو كل ذكرى لماركوس أنطونيوس وهدم تماثيله. وفيما لم يكتمل بناء المعبد في عهد كليوباترا سوى بعض التخطيطات وإنشاء البوابة الخارجية، قرر أوكتافيوس استكماله. وعندما اكتمل المعبد، تم تكريسه لعبادة الآلهة الأباطرة وعُرف باسم "سيباستيان" (sebastium). وكان المعبد مكرساً لرعاية الملاحة وحماية الملاحين في رحلاتهم عبر البحر.
هكذا، يتجلى تاريخ معبد القيصريون كشاهد على العصور المتعاقبة والتغيرات السياسية والثقافية التي شهدتها مدينة الإسكندرية في تلك الفترة الزمنية.
مسلتا القيصريون: شاهدين على تاريخ المعبد والاكتشافات الأثرية
أمام معبد القيصريون، توجد مسلتان مصنوعتان من الجرانيت الأحمر، وأُمِرَ بنقلهما من هليوبوليس (عين شمس) إلى الإسكندرية أثناء استكمال المعبد. تعود تاريخ هاتين المسلتين إلى الأسرة الـ 18، حيث تم إقامتهما في عهد الملك المصري تحمس الثالث في القرن الرابع قبل الميلاد، أمام معبد آمون.
كانت هناك صور تمثل تحمس الثالث على هيئة أبو الهول، وهو يقدم القرابين لأرباب هليوبوليس، تُظهر على كل جانب من جوانب الهرم المغطى بالذهب الذي يتواجد في قمة المسلتين. قام الملك سيتي الثاني والملك رمسيس الثاني بإضافة بعض النقوش والخراطيش إلى هاتين المسلتين، حيث أضاف رمسيس الثاني نقوشه بعد ما يقرب من 200 عام من بناء المسلتين، تخليدًا لذكرى انتصاراته العسكرية.
ظلت هاتين المسلتين قائمتين في مكانهما طوال عصور التاريخ القديم والوسيط والحديث، حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. اكتسبتا لقب "إبرتا كليوباترا"، على الرغم من عدم وجود أي صلة بينهما وبين كليوباترا نفسها.
عندما تم نقل هاتين المسلتين من مكانهما الأصلي، أجريت حفائر أثرية أسفلهما، وكشفت عن العديد من القطع الأثرية، بما في ذلك أربع تماثيل من السراطين البحريين المصنوعة من البرونز، وكانت بين المسلة وقاعدتها. في تلك الفترة، كان هناك خلط بين المسلتين والفنار عند الكُتّاب، مما أدى إلى إشارة السراطين البحريين إلى وجود سراطين زجاجية تحت فنار الإسكندرية.
تم العثور أيضاً أسفل تمثال من تماثيل السراطين على نصوص باللغتين الإغريقية واللاتينية، تُوثق إقامة المسلتين في السنة الثامنة من عهد الإمبراطور أغسطس، أي في عام 13 قبل الميلاد. تكشف النصوص أيضًا عن اسم المهندس المعماري الذي تم تكليفه بنقل المسلتين وإقامتهما، وهو بونتيوس. كما تذكر أيضًا اسم الوالي الروماني لمصر، وهو روبريوس بارباروس.
هذه الاكتشافات تسلط الضوء على تاريخ المسلتين وأهميتهما في العصور القديمة، وتعزز الفهم الحالي لمعبد القيصريون وتراثه الثقافي.
المسلة الغربية: رمز تاريخي يروي قصة انتقالها من مصر إلى لندن
تُعتبر المسلة الغربية واحدة من أبرز الآثار القديمة، حيث يبلغ ارتفاعها 20.87 متراً وتزن حوالي 187 طناً. كانت تقع في العمارة رقم 50 بشارع سعد زغلول، حيث توجد حاليًا محلات عمر أفندي بمحطة الرمل. ومع ذلك، سقطت المسلة بعد الزلزال الذي وقع في مصر عام 1303 ميلاديًا، وظلت ملقاة في مكانها لعدة قرون.
في الفترة بين عامي 1877 و 1878 ميلادياً، تم نقل المسلة إلى لندن كهدية من حكام أسرة محمد علي، وتم تركيبها على ضفاف نهر التايمز. حتى يومنا هذا، يحتفظ المتحف البريطاني بجزء من هذه المسلة العريقة، التي تعد شاهداً على تاريخ مصر العريق وتُروي قصة رحلتها من أرض الفراعنة إلى عاصمة المملكة المتحدة.
المسلة الشرقية: رمز تاريخي يتحدث عن رحلتها من مصر إلى الولايات المتحدة
تُعد المسلة الشرقية من المعالم التاريخية البارزة، حيث يبلغ ارتفاعها 21.20 متراً وتزن حوالي 193 طناً. كان موقعها الأصلي في بداية شارع سعد زغلول، حيث يقع حالياً فندق متروبول. استمرت هذه المسلة في الوقوف منذ العصور القديمة وحتى عام 1881 ميلادياً.
في عام 1881، تم نقل المسلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية كهدية من الخديوي توفيق، وتم تركيبها في حديقة سنترال بارك. تظل المسلة تجسيداً للتراث المصري العريق وتحمل معها روح القدم والتاريخ. إن رحلتها من أرض الفراعنة إلى الأراضي الأمريكية تعكس قصة الاهتمام والاحتفاء بالثقافة المصرية في جميع أنحاء العالم.
معبد القيصريون: وصف مذهل للعمل البديع في عصر القدماء
وصف فيلو السكندري للمعبد
وُصِف معبد القيصريون في كتابات المؤرخين بأسلوب مدهش، ومن بين هؤلاء المؤرخين فيلو السكندري. يُعتبر فيلو من أهم مصادر الوصف للمعبد، حيث كان معاصرًا له ورأى المعبد بنفسه في عام 40 ميلادياً. عندما تحدث فيلو عن المعبد، وصفه بانبهار شديد. وقال: "إنه لا يوجد للمعبد المسمى سباستيوم مثيل في أي مكان آخر. كان المعبد مليئاً بالقرابين، من صور وتماثيل وقطع فضة وذهب." وأشار إلى أن المعبد كان محاطًا بأفنية واسعة، وتحيط بها النواصي والفناء المقدس والساحة المقدسة، التي تضم أيضاً المكتبات والبوابات والصالات المفتوحة، كلها تعكس روعة وهيبة المبنى الهام والضخم. وأضاف أن الزوار القادمون إلى الإسكندرية أو المغادرون منها يشعرون بالأمن والسكينة عند دخول ساحة السباستيوم المقدسة. وعن موقع المعبد، قال: "يقف مرتفعاً بكبريائه فوق ميناء واسع." وبواسطة الميناء هنا، يشير فيلو إلى الميناء الشرقي في الإسكندرية.
وصف اليعقوبي للمعبد
اليعقوبي هو كاتب ومؤرخ جغرافى مسلم عاش في القرن التاسع الميلادي وتحدث عن المعبد في كتابه (كتاب البلدان) وقال: إنه كان هناك مسلتين من الحجر الملون تحتهما قاعدة من البرونز على شكل الجعل (الجعران) وتزينها نقوش قديمة. يعكس هذا الوصف جمال وتفرد المسلتين في المعبد.
وصف بلينيوس الأكبر للمعبد
الموقع الرائع للمسلتين في المعبد حظي بإشادة بلينيوس الأكبر، المؤرخ الروماني الذي تحدث عنهما بكل إعجاب. قال: "لقد استمرت هاتين المسلتين كنزٍ ثمينٍ من الخيال والجمال في عقول العرب، وأثرت تراثنا بوصفها الساحر."
تصميم ومظهر متخيل لعمارة المعبد
على الرغم من دمار معبد القيصريون بشكل نهائي في عام 912 ميلادي، إلا أننا نمتلك تصوراً تخيلياً لشكل المعبد من خلال الحفريات الأثرية وكتابات المؤرخين. من خلال الحفريات التي أجريت في موقع فندق متروبول بمحطة الرمل، تم اكتشاف بقايا الأساسات والجدران التي تعود للمعبد، بالإضافة إلى بعض القطع الأثرية التي ساهمت في تحديد طراز المعبد وهندسته المعمارية المتنوعة.
وبناءً على هذه الاكتشافات، تم التوصل إلى أن المعبد كان يتألف من الحجر الجيري والجرانيت، وأنه كان مصمماً على الطراز الدوري والكورنثي. ومن خلال وصفه فيلون للبواكي والمكتبات والأفنية، يمكننا أن نقول إن المعبد كان يتميز بالطراز اليوناني بصورة كاملة، مع عدم وجود أي تفاصيل فرعونية باستثناء المسلتين التي تم إنشاؤها بعد بناء المعبد.
ترغب كليوبترا في أن يتبع المعبد الطراز اليوناني ويتمتع بكل رونق وفخامة الثقافة اليونانية، بما يتلاءم مع شخص غير مصري مثل قيصر أو أنطونيوس أو ابنها قيصرون.
وإذا كان المعبد يمتلك طابعاً مصرياً، فقد تردد أغسطس في تحويل المبنى إلى مركز رئيسي لعبادة الأباطرة.
كان المدخل الرئيسي للمعبد مزيناً بالمسلتين، ووجد داخله محراب للإلهة فينوس.
وتم بناء المعبد وفقًا للتوجهات الفنية المسيطرة في الإسكندرية في العصر البطلمي المتأخر وبداية العصر الإمبراطوري. يبدأ المعبد ببوديوم (رصيف)، وتحمل الأعمدة تيجاناً كورنثية مصنوعة من الديوريت بطراز سكندري، على الرغم من أنها كانت بسيطة جداً نظراً لصلابة الحجر، مما جعل من الصعب نحت أوراق الأكانثوس المتداخلة.
تزين الجدران والأعمدة الأمامية سنادات بأسلوب دوري مكونة من قطعتين مدمجتين معاً، إحداهما مصنوعة من الجرانيت الوردي والأخرى من الجرانيت الأحمر.
ويُحاط بالسنادات كورنيش، ويتزين هذا الكورنيش بالتريكليف (Triglyph) والميتوبي (Metope) بتناوب منتظم، حيث يتم وضع ميتوبي واحدة بين كل زوج من التريكليف.
تطور المعبد في العصر البيزنطي وتحوله إلى كنيسة
تعرض المعبد لأعمال تخريب خلال ثورة الوثنيين وانتشار مذهب الأريوسية المسيحية في عام 336 ميلاديًا، حيث تم حرق مذابحه وأثاثه.
في القرن الرابع الميلادي، تحول المعبد تدريجياً إلى الكنيسة البطريركية بالإسكندرية. خضع المبنى لعمليات ترميم متكررة، وفي الفترة من 444 إلى 412 ميلادياً، أصبح المعبد المقر الرئيسي للأسقف كيرلس الأول، الذي قام بحملة للقضاء على أي تأثير غير مسيحي في الإسكندرية.
يجدر بالذكر أنه في هذا المعبد تم قتل الفيلسوفة وعالمة الرياضيات هيباتيا في مارس عام 415 ميلاديًا على يد مجموعة من المسيحيين.
نهاية معبد القيصريون: اختفاء ومعلومات منسية
شهد هذا المعبد اندثاره مع مرور الزمن، ولم يتبقى منه سوى المسلتين. تشير الدلائل الأثرية إلى أنه تم تدميره بشكل نهائي في عام 912 ميلاديًا، وليس لدينا الكثير من المعلومات حوله سوى ما تم توثيقه في كتابات المؤرخين والكتاب المقدس.
من خلال نصوص فيلو وبليني ومواقع المسلتين والحفائر الأثرية التي تم إجراؤها في شارع سعد زغلول، يمكننا أن نستنتج أن مساحة معبد القيصريون تمتد على الأقل من ميدان سعد زغلول شمالاً إلى شارع صفية زغلول شرقاً وشارع النبي دانيال غرباً وشارع اسطانبول جنوباً. ومن المفترض أن يكون موقعه في مكان فندق متروبول الحالي بمحطة الرمل.
في ختام هذا المقال، يمكننا أن نستنتج أن معبد القيصريون كان مركزاً ثقافياً ودينياً هاماً في الإسكندرية القديمة. بالرغم من تعرضه للتدمير والتخريب على مر العصور، إلا أن آثاره تحمل في طياتها تاريخاً غنياً وقيماً تاريخية للمدينة.
على الرغم من اندثار المعبد بشكلٍ نهائي وعدم وجود آثاره الباقية، إلا أن التوثيق المؤرخ والأدلة الأثرية التي تم اكتشافها تساهم في إعادة إحياء تاريخ هذا المعلم العظيم. بفضل جهود العلماء والمؤرخين، نتمكن من تخيل وتصوّر الشكل التخيلي للمعبد ودوره الثقافي والديني الذي لعبه في العصور القديمة.
معبد القيصريون يظل شاهداً على عظمة حضارة الإسكندرية وتعدد طبقاتها التاريخية. يحمل في ذاكرته قصصاً عن العبادة والفن والتراث الثقافي الذي ازدهر في تلك الفترة. إن دراسة واستكشاف آثار هذا المعبد تساهم في توثيق تاريخنا الغني وإثراء فهمنا للحضارات القديمة.
فلنحتفظ بذكرى معبد القيصريون كرمز للتراث الثقافي الضائع ودعوة لاستكشاف المزيد من أسرار الماضي. فقد تغيرت المدن واندثرت الحضارات، ولكن يبقى التاريخ حجر الزاوية الذي يعيدنا إلى جذورنا ويروي قصصاً عريقة عن تطورنا كبشر.