بذلة الغوص و الفراشة: الجزء الخامس

بذلة الغوص و الفراشة: الجزء الخامس

0 المراجعات

الأبجدية 

 

حين يجن الليل، ويكون حالك السواد، ولا يبقى من أثر للحياة سوي النقطة الصغيرة الحمراء المنبعثة من التلفزيون المغلق، (علامة
على سريان الكهرباء فيه). أمتلئ عشقا لحروف أبجديتي. 

صوامت و صوائت تتراقص لأجلي على إيقاع «فراندول» لشارل تينيت:
«من البندقية، المدينة الشهية، استبقيت ذكرى لطيفة...»، ثم تخترق الغرفة يدا بيد، تدور حول السرير، تقترب من النافذة، تتغنج أمام
الحائط، تصل عند الباب لتعاود الانطلاق من أجل لفة جديدة.
ESARINTULOMDPCFBVHGJQZYXKW


هذه الفوضى الظاهرة المحيقة بالعرض المرح ليست وليدة الصدفة و إنما هي نتاج حسابات ذات دلالة عميقة، ففضلاً عن كونها أبجدية،
هي لعبة تفاضلية يعمد فيها إلى تبويب كل حرف حسب تكراره في اللغة الفرنسية.

وتبعا لذلك، يدور الـ E في رأسي و يستميت الـW کي لا تقذف به المجموعة. بينها الـ B مستاء لإبعاده قرب الـ V، فأنا أخلط بينها دون توقف.

الـ J المتكبر مذهول بسبب مركزه البعيد،

وهو الذي تبدأ به عديد الجمل.

يتحامق الـ G، مغتاظا بعد أن أزاحته
الـ H من مكانه، ومع حضورهما الدائم في أنا وأنت تعيش الـ T والـ U متعة نؤيهما عن التفرقة.

لإعادة ترتيب الأبجدية من جديد سبب
وجيه: تسهيل مهمة من يحاولون التواصل المباشر معي.
كان أسلوباً بدائياً جداً، تنثر علي الأبجدية وفق نظام ESA إلى أن أستوقف محدثي برمشة عين واحدة إشارة للكلمة المتوجب عليه
تسجيلها.

ثم نكرر الأمر نفسه لتحصيل الأحرف الموالية، وإذا لم تكن هنالك أخطاء، نتحصل سريعا على كلمة تامة، ومن ثم مقاطع جمل واضحة.

تلك هي النظرية: طريقة الاستعمال والدليل التفسيري.

بعد ذلك تأتي الحقيقة، ارتباك البعض و حسن إدراك آخرين، لم يكونوا متساوين كلهم أمام الشيفرة (وهو الاسم الذي نطلقه على
طريقة ترجمة أفكاري)، عاشقو الكلمات المتقاطعة و«السكرابل» لهم الأفضلية، و البنات أشطر من الأولاد، بفعل الممارسة، بعضهن يحفظن اللعبة عن ظهر قلب، حتى أنهن استغنين عن الكراس المقدس
المقسوم نصفين، نصف للتذكير بترتيب الحروف، ونصف لتدوين ما ألتقط من أفكاري، مثلا دُوِّن وحي بيثيا.
أتساءل حقا عما سيتوصل إليه علماء الأعراق عندما يتصفحون هـذه الدفاتر، وفيها نجد جنبا إلى جنب بالصفحة نفسها و بفوضوية
تامـة جملاً مثـل: «أخصائية العلاج الطبيعي حبـلی»، «خصوصا عند الساقين»، «هذا هو أرتـور رامبو»، «تظاهر الفرنسيون بالفعل أنهم خنازير». السياق مقطـوع بخربشـات غير مفهومة، كلمات سيئة
التركيب، حروف ضائعة، و مقاطع لفظية مهملة، من سمات العواطف أنها تنفلت سريعاً، و بصوت مختنق لا يكاد يسمع تحيد بالأبجدية عن مسارها، بضع أحرف لسعادة مؤقتة، بعدها، و أمام نتيجة بلا ذنب و لا رأس، سأجد نفسي أصرخ بجسارة
«أنا تافه!». آخر المطاف يغدو الأمر مريحاً، إذ تتكفل العواطف بالمحادثة بأكملها، تصنع الأسئلة والأجوبة دون أن تكون هناك
ضرورة لإعادة طرحها. فأنا كثير الخشية من المتملّصين، إذا سألتُ «کیف حالكم؟»، يجيبون «بخير» و يعيدون الأمر لي على الفور.
تصبح الأبجدية معهم عبارة عن عملية قصف عشوائي، عليك أن تهيئ سؤالين أو ثلاثة مسبقا حتى لا تغرق. أما المجدّون، فلا يخطئون بالمرة، يدونون كل كلمة بدقة فائقة و لا يبحثون البتة عن سبر غور جملة قبل اكتمالها، إذ لا مجال لاستكمال أدنى كلمة. أقسموا بأغلظ الأيمان ألا يضيفوا من تلقاء أنفسهم الـ«جار» للـ«انف»، الـ«ري»
التي تلي «الذر» و الـ«غير» التي من دونها لا وجود لـ«غير منته» أو «غير محتمل».

قد يجعل هذا التمشي الأمر أكثر إملالاً، ولكنه على الأقل يضمن لنا تفادي التفسير الخاطئ، فكثيرا ما أوقع المتسرعين في الوحل إذا هم تجاهلوا التحقق من حدسهم.
غير أنني أدركت شعرية هذه الألعاب الذهنية يوم هممت بطلب نظاراتي، فسألوني مازحين «ماذا تريد أن تفعل بالقمر؟».

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
اسلام ابراهيم
المستخدم أخفى الأرباح

المقالات

460

متابعين

611

متابعهم

115

مقالات مشابة