بذلة الغوص و الفراشة: الجزء السادس و العشرون

بذلة الغوص و الفراشة: الجزء السادس و العشرون

0 reviews

الأحد 


عبر النافذة، أتطلع إلى واجهات الآجر الأمغر إذ تضاء بأولى إشعاعات الشمس، فتصطبغ -تحديدا- باللون الوردي لكتاب النحو اليوناني للسيد رات1 . ذكرى السنة الرابعة.

على العكس مما قد يظن، لم أكن متميزا في اللغة اليونانية وآدابها، لكنني أحب تلك
الدرجة من اللون، الدافئة والعميقة، فمن خلالها يفتح أمامي عالم الدرس من جديد، هناك نسير جنبا إلى جنب مع كلب ألسيبيادس
وأبطال معركة ثيرموبيلاي.
تجار الألوان يسمونه «الوردي العتيق»، وهو ضعيف الشبه بوردي الضادات اللاصقة المميز لأروقة المستشفى.

و أضعف منه شبهه بالبنفسجي الذي يغلف أزر جدران غرفتي وكواتها، كما يغلف
عطر رخيص.

إنه الأحد. أحد مخيف، إذا حال سوء الطالع فيه وقدوم زائر ما، فلن يستطيع أي حدث مهما كان نوعه أن يقطع الانسياب الرتيب
للوقت. لن يجدي اختصاصي العلاج الطبيعي، ولا اختصاصي النطق ولا عالم النفس. سيكون الأمر أشبه بعبور للصحراء، الواحة
الوحيدة فيه عملية تنظيف صغيرة، بل ومختصرة عن العادة! هذه الأيام، بات التأثير المتأخر للإسراف في الشرب مساء السبت، المرفق بالحنين إلى النزهات العائلية، وإلى جولات رماية الأطباق الطائرة أو صيد الجمبري، وغير ذلك مما تحول دونه حصص المناوبة، يغرق فرق التمريض في تبلد آلي. 

فتغدو حصة الغسل أقرب إلى ما يجري في
المسالخ منها إلى العلاج بمياه البحر. باختصار، حتى جرعة مضاعفة ثلاث مرات من أرقى العطور لا تكفي لإخفاء الحقيقة: رائحتنا
كريهة.
إنه الأحد. في حال ما شغلوا لنا التلفزيون، يجب ألا أفوتزالفرصة. وهو ما يتطلب خطة محكمة. ففي الحقيقة من الوارد،
أن تمر ثلاث ساعات أو أربع قبل أن تعاود الروح الطيبة الظهور
وتغير القناة، لذا من المحبذ أحيانا التخلي عن برنامج مهم إذا كان متبوعا بمسلسل مبك، أو بحصة ألعاب تافهة أو ببرنامج حواري قوامه الصراخ. فيه من التصفيق المجاني لكل شيء ما قد يصم أذني.

أفضل هدوء الأشرطة الوثائقية حول الفن أو التاريخ أو الحيوانات.
أشاهدها دون تعاليق، تماماً كما نتمعن في وهج الحطب.
إنه يوم الأحد يدق الجرس جهيرا معلنا الساعة. ومن يومية
الخدمة العمومية المعلقة على الحائط لتورق مع كل يوم جديد، يطلزشهر أغسطس.

أي مفارقة تفسّر تجمد الوقت هنا وسباقه المحموم مدة
هناك؟ في عالمي المنكمش هذا، تتمطط الساعات وتمر الأشهر مثل
البرق! لا أكاد أصدق أني في أغسطس. الأصدقاء والنساء والأطفال شتتتهم ريح الإجازات.

و ها إن تفكيري ينزلق بي إلى مخيم إقامتهم
الصيفية، لا يهم إن فطرت هذه الجولة قلبي قليلا.

في بريطانيا، قدم سرب من الأطفال إلى وسط البلد على متن دراجات تسوق،
والضحكات تضيء الوجوه جميعا. فمع أن البعض منهم بلغ منذ عمر المحن الحقيقية، ما يزال بوسع كل واحد فيهم أن يجد على هذه المسالك المسيجة بأزهار «الردندرة» براءته الضائعة.

ظهرواليوم سيطوفون بالجزيرة على متن زوارق. وسيقاوم المحرك الصغير التيارات، ويتمدد أحدهم في مقدمة المركب مغلقا عينيه، وتاركا لذراعه أن تخوض على غير هدى في الماء البارد.

مع منتصف النهار يتحتم التكوم في تجاويف المنازل المسحوقة بالشمس، تملأ دفاتر
الرسم المائي. ويبحث قط صغير بقدم مكسورة عن ركن ظليل في حديقة قس. وأبعد من ذلك، في كامارغ، تقطع سحابة من الثيران مستنقعا واسعا يعبق بعطر باكورة الـ«باستيس». 

و من كل الأنحاء تتسارع التحضيرات للموعد المنزلي الكبير، الموعد الذي يدفع مسبقا
بجميع الأمهات إلى التثاؤب من الضجر، ولكنه يأخذ عندي شكل شعيرة أسطورية منسية: الغداء.
إنه الأحد. أتفحص الكتب المكدسة على حافة النافذة، مشكلة
مكتبة صغيرة عديمة الجدوى، ما دام لا أحد سيأتي ليقرأها لي، سینیکا، زولا، شاتوبريان، فاليري لاربو)، كلهم هنا على
بعد متر مني، عصيين حد القسوة. تحط على أنفي ذبابة مكتملة السواد.

ألوي رأسي كي أوقعها. فتثبت. لم تكن نزالات المصارعة اليونانية الرومانية التي شاهدتها في الألعاب الأولمبية شرسة إلى هذا الحد. 

نه يوم الأحد.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

460

متابعين

610

متابعهم

115

مقالات مشابة