بين صفحات القدر
بين صفحات القدر
كانت "بسمة" فتاة رقيقة تحمل بداخلها حبًا عظيمًا للكتب والحياة. عملت في مكتبة صغيرة في قلب المدينة، مكتبة تملؤها رفوف خشبية قديمة وكتب تجاوزت أعمارها قرونًا. كانت كل صباح تجلس خلف الطاولة الخشبية الكبيرة، تقرأ كتابًا جديدًا أو ترتب الكتب التي تحمل ذكريات أجيال من القراء.
في صباح أحد الأيام الباردة، دخل رجل إلى المكتبة. كان طويل القامة، بشعر داكن وعينين غامضتين تعكسان دفء الشمس عند المغيب. ارتدى معطفًا رماديًا وقبعة تخفي جزءًا من وجهه. بدا غريبًا عن المكان، لكنه تجول بين الرفوف كأنه يبحث عن شيء محدد.
اقترب من الطاولة حيث تجلس بسمة وقال بنبرة هادئة:
"صباح الخير، هل لديكِ كتاب عن الحكايات الشعبية القديمة؟"
ابتسمت بسمة بخفة وأجابت:
"بالطبع. لدينا قسم خاص بالكتب التراثية، سأرشدك إليه."
قادت محمود، الذي قدم نفسه بعد لحظات، إلى زاوية في المكتبة حيث تجمعت كتب قديمة تحمل بين صفحاتها أساطير وقصصًا منسية. بدأ يتصفح الكتب بعناية، وكأن كل كلمة تحمل سرًا يريد كشفه.
اللقاء الأول
على مدى الأيام التالية، أصبح محمود زائرًا دائمًا للمكتبة. لم يكن يتحدث كثيرًا، لكنه كان دائمًا يحمل كتابًا تحت ذراعه ويجلس في الزاوية ذاتها يقرأ بصمت. شيئًا فشيئًا، بدأت بسمة تلاحظ التفاصيل الصغيرة عنه: كيف كان يحرك أصابعه على حواف الصفحات، أو كيف يرفع نظره نحو النافذة كلما سمع صوتًا بالخارج.
في أحد الأيام، بينما كان يهم بالخروج، سألته:
"هل تجد ما تبحث عنه؟"
توقف للحظة، وكأن السؤال باغته، ثم أجاب بابتسامة خفيفة:
"ربما أبحث عن شيء لا أعرفه بعد."
كانت تلك الكلمات بداية لحوار طويل بينهما. اكتشفت بسمة أن محمود كاتب، جاء إلى المدينة بحثًا عن إلهام لرواية جديدة. كان مغرمًا بالحكايات الشعبية والأساطير، مؤمنًا بأن داخل كل قصة هناك حقيقة خفية تستحق الاكتشاف.
بين الصفحات
مع مرور الأيام، أصبحت المكتبة مكانًا خاصًا لهما. لم يكن الأمر مجرد تبادل أحاديث عابرة، بل تحول إلى حوار عميق عن الحياة، والطموح، وحتى الألم. علمت بسمة أن محمود فقد شخصًا عزيزًا عليه، وأن الكتابة أصبحت طريقته الوحيدة للتعامل مع الفقد. بينما أخبرها هو أن المكتبة، بما تحمله من هدوء وروحانية، أصبحت ملاذه.
في إحدى الليالي، بعد أن أغلقت المكتبة، قرر محمود البقاء قليلاً لمساعدتها في ترتيب الكتب. أثناء العمل، وجد كتابًا قديمًا يحمل ملاحظات بخط اليد على هوامشه. أشار إلى الملاحظات وسأل:
"من كتب هذه التعليقات؟ تبدو شخصية للغاية."
ابتسمت بسمة وقالت:
"كان جدي. كان يحب أن يكتب أفكاره بجانب النصوص. يقول دائمًا إن الحوار مع الكاتب لا يجب أن يكون صامتًا."
تأمل محمود الكتاب، ثم نظر إليها وقال:
"أعتقد أن جديك كان على حق. الحوار بين الأرواح يمكن أن يبدأ حتى بين سطور مكتوبة."
كانت تلك الليلة بداية لقرب أكبر بينهما، علاقة بنيت على حب الكلمات وفهم أعمق للروح البشرية.
الاعتراف
ذات مساء، وبينما كانت السماء تمطر بغزارة، جلسا بجانب النافذة يتحدثان. فجأة، قال محمود بصوت منخفض:
"أتعلمين يا بسمة، عندما دخلت المكتبة لأول مرة، كنت أبحث عن شيء يعيد لي شغفي بالحياة. لكنني وجدت أكثر مما توقعت."
نظرت إليه بدهشة وقالت:
"وكيف ذلك؟"
أجاب بنبرة مليئة بالصدق:
"وجدت شخصًا يشبه النجوم. قريب ولكنه بعيد. دائمًا يضيء دون أن يطلب شيئًا."
توردت وجنتاها، ولم تجد الكلمات للرد. لكنها شعرت بشيء جديد يزهر في قلبها.
الرحيل المؤقت
مرت الأسابيع، وذات يوم أتى محمود إلى المكتبة بملامح حزينة. أخبرها بأنه مضطر للعودة إلى مدينته لإنهاء بعض الأمور العالقة. شعرت بسمة بشيء ينكسر بداخلها، لكنها حاولت أن تخفي مشاعرها.
قالت له:
"ستظل هذه المكتبة مفتوحة دائمًا لك، محمود."
رحل محمود، وأصبحت الأيام أطول وأثقل على قلب بسمة. لكنها وجدت العزاء في الرسائل التي كان يرسلها لها. كان يخبرها عن تقدم كتابه وعن الشوق الذي يشعر به. وكانت ترد عليه برسائل مليئة بالدعم والحب المخبأ بين السطور.
العودة
بعد أشهر من الغياب، عاد محمود إلى المكتبة في يوم لم تتوقعه. دخل بهدوء كعادته، لكنه هذه المرة حمل باقة من الزهور وكتابًا جديدًا بين يديه.
قال وهو يبتسم:
"هذا لكِ."
فتحت بسمة الكتاب ووجدت أنه روايته الجديدة. على الصفحة الأولى كان الإهداء مكتوبًا بخط جميل:
"إلى بسمة، التي أعادت لي شغفي بالحياة وأثبتت لي أن الحب يمكن أن يُولد بين الصفحات."
نظرت إليه بعينين تلمعان بالدموع وقالت:
"شكراً لأنك عدت."
رد بابتسامة دافئة:
"لم أكن لأجد طريقي لولاك."
نهاية مفتوحة
كانت تلك اللحظة بداية فصل جديد في حياتهما. فصل لم يُكتب بعد، لكنه حمل بين طياته وعدًا بأن يكون مليئًا بالحب والكتب واللحظات الجميلة.
النهاية
إذا كنت تود تعديل القصة أو إضافة تفاصيل أخرى، فأخبرني!