همسات الياسمين وعبير الماضي

همسات الياسمين وعبير الماضي

0 المراجعات

 

كانت الإسكندرية في الأربعينيات تشبه لوحة زيتية تتراقص فيها ألوان الأصالة والرومانسية. لم تكن السرعة قد فتكت بعد ببطء الحياة، ولم تكن الشاشات قد سلبت من العيون بريقها الحقيقي. في هذا الزمن، زمن الحب الجميل، ازدهرت قصة ليلى وأحمد.

ليلى، ابنة حي الأنفوشي، كانت تمتلك عينين تشبهان البحر وقت الغروب، وشعرًا أسود ينسدل كشلال ليلي. أما أحمد، فكان شابًا وسيمًا يملك مكتبة صغيرة في المنشية، يفوح منها عبير الورق القديم والقهوة، وتنبض جدرانها بقصص العشاق والشعراء.

لم تكن قصة حبهما قصة لقاء عابر في مقهى صاخب، بل كانت حكاية نسجت خيوطها على مهل. بدأت بنظرات خجولة تتبادلها الأرواح من خلف أكوام الكتب. كان أحمد يرى ليلى تزور مكتبته بانتظام، تبحث عن روايات غرامية أو دواوين شعرية، وفي كل مرة كانت تختار كتابًا، كان قلب أحمد يختارها هي.

كانت رسائل الحب لا تزال تكتب بخط اليد على ورق معطر، وتُسلم بيدٍ ترتجف. لم تكن هناك هواتف تسهل اللقاءات، فكانت المواعيد تحدد بدقة، والانتظار كان جزءًا لا يتجزأ من جمال الشوق. كان أحمد ينتظر ليلى أمام نافورة المنتزه، أو تحت شجرة الياسمين التي عُرفت بـ "شجرة العشاق"، وقلبه ينبض على إيقاع عقارب الساعة البطيئة.

تذكر ليلى يومًا أنها كانت مريضة، ولم تستطع الذهاب إلى المكتبة لعدة أيام. تسلل القلق إلى قلب أحمد. لم يكن لديه هاتفها، ولا وسيلة للاطمئنان عليها سوى الذهاب إلى منزلها. وقف أحمد أمام باب منزلها، مترددًا، حتى رآها تطل من الشرفة، وجهها شاحبًا بعض الشيء، لكن عينيها لمعتا بابتسامة خجولة حين رأته. في تلك اللحظة، أدركت ليلى أن هذا الحب ليس مجرد عاطفة عابرة، بل هو سند وأمان.

كانت نزهاتهما تقتصر على شواطئ الإسكندرية الهادئة، حيث يتحدثان لساعات تحت ضوء القمر، أو في حدائق المنتزه الغناء، حيث يتبادلان الأحلام والأمنيات. لم تكن هناك ترفيهات صاخبة، فكانت بساطة اللحظة هي جوهر سعادتهما. أغنية فيروز عبر الراديو، كوب شاي بالنعناع، أو مجرد نظرة عميقة في العيون، كانت كفيلة بأن تملأ قلوبهما بالبهجة.

حتى الخلافات كانت تتميز بجمالها الخاص. لا صراخ ولا كلمات جارحة، فقط صمت العتاب الذي يليه همس الصلح. كان الاعتذار يأتي على هيئة وردة حمراء، أو قصيدة مكتوبة بخط أحمد الأنيق.

مرت السنون، وتغيرت ملامح الإسكندرية، لكن حب ليلى وأحمد ظل كما هو، نقيًا، أصيلًا، يتوارثه الأحفاد كأجمل حكايا الماضي. فقد كان حبهما شهادة على أن الحب الحقيقي لا يحتاج إلى بهرجة أو سرعة، بل يحتاج إلى الصبر، والوفاء، وقلبين يعرفان قيمة كل لحظة معًا.

كان زمن الحب الجميل هو الزمن الذي كانت فيه المشاعر تُعاش بكل جوارحها، وتُروى كقصص خالدة، زمن لم تفسده التكنولوجيا بعد، بل زادته الإنسانية والبساطة رونقًا وجمالًا.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

1

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة