
حين تنطق العيون"
حين تنطق العيون – الفصل الأول: صمت مزدحم
لم يكن الصباح مختلفًا في تفاصيله عن الأمس، سوى أن عدسة آدم التقطت شيئًا لم يكن يبحث عنه.
وسط زحام المدينة، كانت "هي" تعبر الشارع بخطى هادئة، تمسك بكمانها كما لو كان جزءًا من جسدها. لا تلتفت، لا تتعجل، وعيناها شاردة في فراغ يشبه السكون.
آدم، المصور الذي اعتاد أن يلاحق الضوء والظل، نسي الكادر والإعدادات، وأبقى إصبعه مرتجفًا على زر التصوير. كانت نظراتها تحمل شيئًا مألوفًا... شيئًا صامتًا، يشبهه.
اقترب منها بعد أيام، لا بكلمات، بل بصورة طبعها ووضعها في يدها. التقطها دون أن يقول شيئًا.
رفعت الصورة، نظرت إليه، ثم ابتسمت ابتسامة وادعة...
وكتبت على غلاف الكمان:
"أنا لا أسمعك... لكنني أراك."
ومن هنا، بدأت القصة.
الفصل الثاني: لغة لا تُكتب
جلس آدم في المقهى المقابل للحديقة، الكاميرا تتدلّى من عنقه كأنها قطعة من قلبه.
أمام عينيه، جلست ليلى على المقعد الخشبي ذاته الذي رآها فيه البارحة، تمسك بكمانها وتغلق عينيها، كأنها تعزف لعالم لا يسمعه أحد.
كان يعرف أنها لا تسمع، لكن كل شيء فيها يفيض بالموسيقى: أصابعها، تنفسها، وتلك الابتسامة المطمئنة التي تلوّن ملامحها حين تنتهي من العزف.
راقبها من بعيد، لا يريد أن يزعج هدوءها، لكنه كان يشعر أنها تعرف بوجوده.
في اليوم الثالث، حين اقترب منها أخيرًا، لم يقل شيئًا.
فتح دفتره، وكتب:
"هل تسمحين لي أن أراك من عدسة قلبي؟"
قرأت كلماته، وابتسمت. ثم كتبت على الورقة نفسها:
"أنا أراك منذ أول صورة... صمتك أعلى من كل الموسيقى."
أخرج آدم كاميرته، فابتعدت قليلًا، رفعت كمانها، وأغمضت عينيها من جديد.
كان يعشق التصوير، لكنه أدرك فجأة أن هذه الصورة بالذات، لن يحتاج فيها إلى تعديل أو فلاتر.
كانت كاملة، لأن المشهد لم يُخلق للعين فقط، بل للقلب.
الفصل الثالث: وترٌ مقطوع
كانت الصورة الأخيرة التي التقطها آدم لليلى مختلفة.
شيءٌ في عينيها تغير… الهدوء نفسه، لكن خلفه ظلّ قلق لا تعرفه عدسته.
في اليوم التالي، لم تأتِ ليلى.
ولا في الذي يليه.
ظلّ آدم ينتظر على المقعد ذاته، دفتره مفتوح، والكاميرا بين يديه باردة كأصابعه.
وفي اليوم الرابع، ظهرت.
لكن دون كمان.
كانت تمشي بخطى مترددة، تنظر إلى الأرض، تحاول أن تبتعد إن رآها، لكنها لم تنجح.
اقترب منها، فكتبت له بسرعة:
"آسفة... لن أستطيع العزف مجددًا."
رفع حاجبيه، وكتب:
"لماذا؟"
أغلقت عينيها، وسقطت دمعة صامتة. ثم أخرجت ورقة قديمة من جيبها.
كانت صورة ممزقة من جريدة، تحمل عنوانًا صغيرًا:
"حادث سير يؤدي إلى بتر يد عازف كمان شابّة واعدة"
نظر إليها مصدومًا، ثم إلى يدها اليسرى… كانت ملفوفة بضمادة بيضاء.
أراد أن يضمّها، أن يقول شيئًا، لكنه تذكر أنها لا تسمعه.
فكتب لها كلمة واحدة:
"أنتِ الموسيقى، لا تحتاجين آلة."
نظرت إليه طويلًا، ثم وضعت يدها المصابة فوق قلبها، وكتبت:
"هل ستبقى إن لم أعد أعزف؟"
أخذ يدها الأخرى، ووضعها على الكاميرته، ثم على قلبه.
وكتب:
"أنا لا أراكِ فنانة... أنا أراكِ ليلى."