
طفلة مميزة: كسر القيود ونظرة للمستقبل
طفلة مميزة (الحلقة الأخيرة – تحديات ونظرة للمستقبل)
بداية المشوار بعد الجامعة
بعد انتهاء رحلتي الجامعية، جلست فترة في البيت أبحث عن طريقي، حتى وفقني الله وحصلت على فرصة عمل في مدرسة. عملي هناك إداري في الأساس، لكن التحدي لم يكن في طبيعة المهام بقدر ما كان في نظرة المحيطين بي.
كثيرًا ما كانوا يرون أنني "أقل" أو "لن أستطيع"، وإذا أنجزت شيئًا بسيطًا، يُقال لي: "معلش تعبناكي معانا"، وكأنني لست في مكاني الصحيح. أحيانًا أبقى في العمل بلا مهام حقيقية، وهذا يزعجني، لكنني أتمسك بالوظيفة لأسباب اجتماعية ومادية؛ فهي بالنسبة لي باب للخروج من العزلة والاعتماد على نفسي.
---
نظرة المجتمع في الشارع
المواقف لا تقتصر على العمل. في الشارع، أُفاجأ أحيانًا بأشخاص يوقفونني ويعرضون عليّ المال. تخيلوا حجم الاستفزاز! أردّ عليهم بحزم: "شكرًا، أنا لست محتاجة".
هذه السلوكيات ناتجة عن ثقافة مغلوطة، يختزل فيها المجتمع الشخص ذوي الهمم في صورة "فقير محتاج" أو "آية للعطف".
بل قد تسمع عبارات مثل: "أنتِ بركة"، "دعاؤك مستجاب"، "ستدخلين الجنة بلا حساب"، أو حتى محاولة تقبيل اليد… كلها نوايا طيبة، لكنها محمّلة بنظرة شفقة ترفضها نفسي لأنها ببساطة تلغي إنسانيتي العادية.
---
التعامل مع الأصدقاء
حتى الأصدقاء أحيانًا يقعون في فخ الحساسية الزائدة. يخشون المزاح معي خوفًا من أن يجرحوني بكلمة. بينما أنا، على العكس، أحب أن أُعامل بطبيعية كاملة، بلا قيود ولا تردد.
كنت في الماضي غاضبة ومتمردة على نظرات الناس وتعليقاتهم، لكن مع النضج تعلمت أن أعذرهم. السبب ليس الشر، بل الجهل والموروثات الخاطئة التي تربينا عليها. اليوم صرت أتعامل مع المواقف بعقل أكثر هدوءًا، وأتجاوز ما لا يستحق طاقتي.
---
الزواج… التحدي الأكبر
حين نأتي إلى موضوع الزواج، نجد أن المجتمع لديه معايير مزدوجة:
إذا كان الرجل هو صاحب الإعاقة: كثير من النساء يتقبلن الأمر ويقفن بجانبه.
أما إذا كانت المرأة هي صاحبة الإعاقة: فالوضع يختلف. كثير من الرجال لا يتقبلون الفكرة، أو يواجهون رفضًا من أسرهم: "ليه تتجوز واحدة كده؟ اتجوز سليمة!".
هذه الازدواجية تولّد تحديًا داخليًا عند كل فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة: أن تثبت لنفسها وللعالم أنها قادرة، مثلها مثل أي امرأة أخرى، بل ربما أقوى.
---
الحل يبدأ من الدولة
تغيير ثقافة الناس لن يحدث فجأة. الأمر يحتاج إلى سياسات دولة قبل أن يكون مجرد جهود فردية:
توفير شوارع وأرصفة ومواصلات عامة مهيأة لذوي الهمم.
دعم إعلامي يبتعد عن خطاب "الشفقة" ويقدم صورة حقيقية متوازنة.
خدمات حكومية عادلة تضمن لذوي الاحتياجات حقوقهم دون انتظار "منحة" أو "إحسان".
لقد رأيت بنفسي كيف تتعامل الدول الأوروبية، وحتى بعض الدول العربية، مع هذا الملف بحزم واحترام. شعرت بالحزن وأنا أقارن ذلك بالواقع هنا.
---
كلمة أخيرة
أنا لا أطلب نظرة خاصة، ولا اهتمامًا زائدًا، ولا شفقة. كل ما أريده – وكل ما يريده أي شخص من ذوي الهمم – هو أن يُعامل كإنسان طبيعي، له حقوق وعليه واجبات، يفرح، يعمل، يحب، ويتزوج.
الاختلاف الجسدي لا يلغي الإنسانية ولا يختصرها. والتحدي الأكبر أمامنا جميعًا هو أن نُغير هذه الثقافة، لنصبح مجتمعًا أكثر وعيًا وعدلًا.
التحدي النفسي الخفي
من أصعب ما يواجه أي شخص من ذوي الهمم ليس فقط العقبات المادية أو نظرات المجتمع، بل الصراع النفسي الداخلي. أحيانًا أعود إلى البيت مرهقة ليس من العمل، بل من محاولة إثبات نفسي أمام الآخرين. كل كلمة تحمل شفقة زائدة أو نظرة استصغار تشعل بداخلي معركة صغيرة، معركة بين الرغبة في الرد والانفعال، وبين الاختيار الواعي لتجاهل الموقف ومواصلة حياتي.
هذه التحديات لا يراها أحد، فهي معارك صامتة يعيشها كل ذي إعاقة يوميًا، لكنها في الوقت نفسه تصنع شخصية قوية وصلبة قادرة على مواجهة الحياة.
---
التعليم والوعي المجتمعي
أؤمن أن التغيير يبدأ من التعليم. إذا نشأ الأطفال منذ الصغر وهم يتعلمون أن ذوي الهمم بشر طبيعيون، لهم قدرات وأحلام مثل غيرهم، فسوف يكبر جيل مختلف.
للأسف، المناهج الدراسية نادرًا ما تحتوي على قصص أو شخصيات ملهمة من ذوي الاحتياجات الخاصة. لو أدرجت هذه النماذج داخل الكتب، سيتعلم الطفل من البداية أن الإعاقة ليست عيبًا، بل جزءًا من التنوع الإنساني. كذلك يجب أن يتم تدريب المعلمين على التعامل الصحيح مع الطلاب من ذوي الهمم، حتى يشعر الطالب أن مكانه طبيعي داخل الفصل، لا استثناءً أو عبئًا.
---
الإعلام بين الشفقة والبطولة
الإعلام يلعب دورًا خطيرًا. فهو إما أن يُظهر ذوي الهمم في صورة أبطال خارقين حققوا المعجزات، أو في صورة مساكين يستحقون الشفقة. في الحالتين النتيجة سلبية، لأننا في النهاية بشر عاديون، لا أبطال أسطوريون ولا ضحايا دائمون.
ما نحتاجه هو إعلام متوازن يعرض قصصًا طبيعية عن حياتنا اليومية: العمل، الدراسة، الزواج، النجاح وحتى الفشل. بذلك يرى الناس أننا مثلهم، نتألم ونفرح ونجتهد ونسقط ثم ننهض من جديد.
---
العمل والفرص المتكافئة
أحد أهم جوانب الدمج هو سوق العمل. الكثير من المؤسسات ما زالت تنظر إلى توظيف ذوي الهمم كأنه عمل خيري أو واجب اجتماعي فقط، بينما الحقيقة أن دمجنا في العمل يعود بالفائدة على الجميع. نحن نمتلك مهارات وخبرات متنوعة، وإذا أُتيحت لنا فرص عادلة، فسوف نثبت أننا قادرون على الإنتاج والمنافسة.
بل إن وجود شخص من ذوي الهمم في بيئة العمل قد يضيف قيمة حقيقية، لأنه يلهم الفريق بالصبر والإصرار، ويمنح المؤسسة صورة إنسانية أكثر.
---
رسالة للأهالي
أوجه رسالة خاصة لكل أسرة لديها طفل من ذوي الهمم: لا تُشعروا أبناءكم أن وجودهم "نقص" أو "حِمل". العائلة هي أول مصدر للقوة والثقة. إذا تلقى الطفل دعمًا نفسيًا من والديه، فلن تهزه كلمات الناس ولا نظراتهم. أما إذا كبر وهو يشعر أن أسرته نفسها تتحرج من وضعه، فسوف يصبح أكثر ضعفًا أمام المجتمع.
أبناؤكم يحتاجون الحب والاحتواء والفرصة، لا الشفقة ولا العزلة.
---
مستقبل أفضل ممكن
رغم كل الصعوبات، أؤمن أن المستقبل يحمل أملًا. بدأت أرى مبادرات صغيرة في المجتمع المدني لدعم ذوي الهمم، وبدأت بعض الجامعات والشركات تفتح أبوابها بشكل أفضل. صحيح أن الطريق طويل، لكن كل خطوة تُحسب.
إذا اجتمع الدعم الحكومي، والوعي الإعلامي، وتغيير الثقافة الأسرية، فسوف نصنع مجتمعًا يقدّر التنوع ويعامل الإنسان بما يستحقه، لا بما يفتقده.
انتظروني في باقي القصة و هل هناك معاقون عبر التاريخ الاسلامي هتعرفوا المقالة القادمة