
ظلال أورلاند: ولادة القوة والحب
الفصل الأول: ظلال أورلاند
ليانارا كانت تقف على حافة أحد الأبراج العائمة، عينيها الزرقاوان تتلألأان كنجوم الليل، وشعرها الأسود الطويل يتطاير مع الرياح. قلبها كان يدق بعنف، ليس خوفًا، بل تحديًا. كل خطوة في هذه المدينة المعلقة بين الغيوم كانت محفوفة بالخطر، وكل نفس يحمل في طياته وعدًا بالمغامرة… وربما بالموت.
أورلاند، المدينة العائمة، لم تكن مجرد مكان، بل عالم قائم على السحر، على القوة، وعلى الأسرار المدفونة في أروقة الأبراج المعلقة. الأسواق العائمة تعج بالتجار الذين يبيعون كتب التعاويذ القديمة والأسلحة المزخرفة، وصرخات الزبائن تتداخل مع أزيز السحر الذي يخرج من الحصون العالية.
كايان ظهر فجأة من بين الغيوم، هابطًا بخفة على جناح معدني عائم، سيفه يتلألأ بضوءٍ خافت، وعيناه الخضراوان تحملان لمحة من دعابة لا يفهمها إلا ليانارا. كان يجمع بين الجرأة والجنون، قلبه المتمرد يخفي وراءه مشاعر لا يستطيع التعبير عنها إلا بين صمت الغيوم.
– "أعتقد أن السماء اليوم تحب أن تكون شاهدة على لقائنا… أم أنك تخافين من الرياح فقط؟" قال كايان بابتسامة خفيفة.
– "لا أستطيع الخوف من شيءٍ يلمس قلبي، أما أنت… فدعك من الرياح." أجابته ليانارا ببرود ممزوج بتحدٍ، مع أن عينيها كانت تخفي أكثر مما تظهره الكلمات.
لم تكن هذه مجرد محادثة عابرة. كل كلمة، كل نظرة، كانت تمثل معركة صامتة، حربًا بين الخوف والرغبة، بين الماضي المظلم والمستقبل الغامض.
وفجأة، ارتفعت صيحات الإنذار في أورلاند. ملاك الظل أطلق جنودها المظليين من أبراجها السوداء، يحلقون بخفة بين الأبراج، ويستعدون للانقضاض على كل من يقف في طريقهم.
– "كايان، الآن! لا مجال للمماطلة!" صرخت ليانارا، مدفوعة بحسها القتالي الذي لا يعرف الخوف.
– "وأنا معك حتى النهاية… لكن بعد المعركة، سأطالبك بشرح تلك العيون التي لا تنطق." أجاب كايان، وابتسامته لم تفارقه رغم شرور المعركة التي بدأت تحيط بهم.
انطلقت المعركة، وكانت الرياح تعصف بالسيوف، والشرر يتطاير بين الجيوش المتصارعة. كل ضربة، كل سحر، كان يحمل في طياته قصةً عن الحب والخيانة، عن القوة والضعف، عن قلبين يحاولان البقاء معًا وسط الفوضى.
بينما كانوا مشغولين بالقتال، ظهر أحد الحلفاء فجأة مع شفرة مظلمة موجهة نحو ليانارا. صرخت بدهشة، لكن كايان تصدى للتهديد بسرعة لا تصدق، مستخدمًا سيفه ليصد الخطر عن يدها. تلك اللحظة لم تكن مجرد حماية جسدية، بل كانت لحظة إعلان ضمني: لا أحد يستطيع الاقتراب منها دون أن يدفع الثمن.
بعد أن هدأت الرياح وأصبحت السماء هادئة قليلًا، جلسا على حافة برج عائم، ينظران إلى أفق أورلاند الممتد بلا نهاية. كان الغروب يحمر السحب ويغمر الأبراج بضوء ذهبي دافئ. ليانارا أمالت رأسها على كتف كايان، وهو يضع يده برفق حول كتفها.
– "لم أظن أن قلبي يستطيع أن يشعر بالأمان… مع كل هذا الجنون من حولنا." همست ليانارا.
– "أنا هنا… وسأبقى، مهما حاول الظل أن يفرقنا." قال كايان بصوت منخفض وحنون، وكانت كلماته كنسمة هادئة في عالم مليء بالريح والعواصف.
لم يكن الحب بينهما مجرد مشاعر، بل كان قوة خفية، قوة تجعلهم يقفون أمام الموت والظلام، قوة تجعلهم يواجهون الخيانة والخطر بلا تردد.
ومع غروب الشمس، ومع تصاعد الظلال في أورلاند، كانا يعرفان شيئًا واحدًا بوضوح: المعركة لم تنته بعد، والرحلة الحقيقية قد بدأت للتو…
مع أولى أنفاس الليل، بدأت الأبراج العائمة في أورلاند تتلألأ بألوان ساحرة. الأضواء الكريستالية المتدلية من السقوف، والمصابيح الطافية بين الغيوم، جعلت المدينة تبدو وكأنها قلب ينبض في السماء. ولكن، رغم جمال المشهد، كان الظلام يحبو بين الزوايا، يحمل في طياته خطر ملاك الظل وجنودها الذين لم ينسحبوا بعد.
ليانارا وكايان نزلا إلى أحد الشوارع المعلقة، حيث الأسواق القديمة والضيقة، الممتلئة بالأكشاك التي تعرض كتبًا مهترئة، وتعاويذ قديمة، وأسلحة لم تُر منذ قرون. كان كل صوت، من صياح البائعين إلى أزيز السحر، يختلط مع صدى خطواتهم، كما لو أن المدينة نفسها تراقبهم، وتختبر عزيمتهم.
ليانارا شدّت رداءها حول كتفها، وعينيها تراقبان كل حركة، كل ظل، كل همسة من الرياح التي قد تخفي شيئًا قاتلًا. شعرت أن هذا المكان يحمل ذكريات الماضي المظلم، ذكريات حاولت دفنها بعيدًا عن قلبها. أما كايان، فكان يبتسم بخفة، وكأن كل خطر يمر هو مجرد لعبة، لكنه في أعماقه يعرف أن المدينة اليوم ليست صديقة لأحد.
"ليانارا… كل شيء هنا يشبه لغزًا،" قال وهو يراقب إحدى الزوايا الداكنة، "حتى الرياح تحمل أسرارًا… وربما تهديدات."
ردّت عليه، بصوت خافت وهادئ: "أنا أعرف ذلك… لكن الرياح لا تملك القدرة على كسر إرادتي."
هما سارا بصمت، لكن فجأة، انبثق من الظلام رجل غريب المظهر، عينيه كالليل، يلبس رداءً أسود متدليًا. كانت يده ممتدة نحو كتاب قديم على أحد الأكشاك، لكن ليانارا توقفت قبل أن يصل إليه.
– "من أنت؟" سألت، صوتها صارم، قلبها يدق بشدة.
الرجل لم يرد مباشرة، بل ابتسم ابتسامة باردة، ثم اختفى بين السحب والظلال، كأنه كان جزءًا من المدينة نفسها. شعرت ليانارا بقشعريرة تمرّ على عمودها الفقري، وشعرت أن الأسرار في أورلاند أكبر مما توقعت.
كايان أمسك بيدها للحظة، وقال: "لا تقلقي… سنعرف من وراء هذه اللمحات الغامضة. كل شيء سيظهر في وقته."
بعد دقائق، وصلا إلى برج الحكيم القديم، مكان لم يجرؤ كثيرون على دخوله، مليء بالكتب التي تتكدس على الأرض والرفوف، والشموع الطافية التي تضيء برفق. الحكيم، رجل مسن ذو لحية بيضاء طويلة، نظر إليهما بعينين تحملان عمق السنين وحكمة لا يمكن نسيانها.
– "ليانارا… كنت أعلم أن هذا اليوم سيأتي. ما تبحثين عنه ليس مجرد سحر… إنه مفتاح قلبك وروحك."
ليانارا شعرت بارتباك، لم تتوقع أن يعرف الحكيم اسمها، أو يعرف ما يختبئ في قلبها.
– "كيف تعرف اسمي؟" همست، "وكيف تعرف ما أبحث عنه؟"
– "لقد كنت أراقبك منذ سنوات، كل خطوة خطوتها كانت مؤشراً على قوتك الحقيقية… والآن حان الوقت لتعرفي من أنت بالفعل."
الحكيم مد يده وأعطاها كتابًا قديمًا، غلافه مرسوم برموز غريبة، صفحات متآكلة تحمل أسرارًا عن السحر الذي يجري في دمها منذ ولادتها، وعن ماضي مظلم حاولت نسيانه لكنها لم تستطع.
ليانارا فتحت الكتاب، وشعرت بدفق قوة غير معتادة يملأ جسدها، شعور بالخوف، بالدهشة، وأيضًا بالإثارة. كانت تعرف أن ما ستكتشفه قد يغير كل شيء في حياتها، وأنها لن تعود كما كانت.
كايان وقف بجانبها، يراقبها بعينين تلمعان بالفضول والحب. لم يكن هناك كلام، فكل شيء كان واضحًا في صمت اللحظة: قوة، خوف، ولحظة لا تنسى بين قلبين في عالم مليء بالمخاطر.
وفجأة، ارتفعت أصوات خطوات خلفهما، كانت جنود الظل تتسلل إلى الداخل، أصداء حوافرهم على الأرض تشبه صدى الموت.
– "كايان… إنهم هنا!" صرخت ليانارا، قلبها يرفرف، سيفها يتلألأ بضوء خافت.
– "لن يقتربوا… ليس قبل أن يندموا." أجاب كايان، وحركة يده كانت كافية لتوجيه ضربة أولى تحذرهم.
بدأت معركة داخل البرج، سيوف تتقاطع، سحر يتطاير في الهواء، والكتب القديمة تتحرك وكأنها تحاول حماية نفسها. في كل ضربة، شعرت ليانارا بوجود كايان بجانبها، كحارس وقلب نابض، وكل حركة من حركاته كانت مزيجًا من القوة والحماية والعاطفة المكبوتة.
بعد هدوء العاصفة، جلسا معًا على شرفة البرج، يراقبان المدينة المعلقة في الغيوم. الغروب كان يسكب ألوانه على الأبراج، وكان هناك شعور بالطمأنينة رغم أن الظلال لا تزال تحوم حولهما.
– "لم أظن أن قلبي سيخفق هكذا…" همست ليانارا، رأسها مائل على كتف كايان.
– "أنا هنا… وسأبقى مهما حدث." قال كايان، وهمسته كانت كأنها وعد خالد في عالم لا يرحم.
وكانا يعرفان شيئًا واحدًا بلا شك: رحلة الظلال قد بدأت للتو، والحب، كما القوة، سيختبران معركة الحياة والموت معًا…
يتبع……….