رواية عشق عظيم

رواية عشق عظيم

Rating 0 out of 5.
0 reviews

رواية عشق عظيم – الفصل الأول

في أحد شوارع القاهرة العشوائية، كنتُ أقف هناك وحيدة، أحتضن حقيبة كبيرة أثقلت كتفيّ بما تبقّى لي من متاع الدنيا.

مرحبًا، اسمي عِشق… وهذه حكايتي.

كنتُ تائهة منذ الصباح، أبحث بعينين مُرهقتين عن مكان يأويني، عن زاوية صغيرة تُخفيني من قسوة هذا العالم. قلبي كان مثقلاً بالحزن، والبرد يزحف إلى داخلي أكثر مما يزحف إلى جسدي.

كان الليل يزحف ببطء على أزقّة القاهرة العشوائية، والظلام يُثقل السماء كأنّه يتواطأ مع الخوف الذي بدأ يتسلّل إلى قلبي.

وقفتُ في منتصف الطريق، أتمتم بصوتٍ متهدّج:

عشق: “يا الله… مش عارفة أعمل إيه دلوقتي… الوقت بدأ يليل ومش لاقية مكان أبات فيه…”

لم يكد صدى كلماتي يتلاشى حتى سمعته، صوت رجلٍ عجوز يقترب مني، نبرته متصنّعة بالود:

الرجل العجوز: “بتدوري ع حاجة يا بنتي؟”

رفعتُ بصري إليه برجاءٍ يائس:

عشق: “آه يا عمّو… من فضلك، متعرفش شقّة للإيجار؟ أو حتى أوضه صغيرة يكون إيجارها قليل؟”

غير أنّ عينيه كانتا تفضحان ما يختبئ داخله. فقد تحدّث صمته قبله، كأنه يبوح بما يدور في خاطره:

“أوبا… شكلها جاية لوحدها. وماله يا مزّة، تيجي عندي… أهو ليلة عنب وسيجارة حشيش متروحش كده وخلاص.”

اقترب أكثر وهو يقول بملامح زائفة:

الرجل العجوز: “آه يا بنتي… أعرف. تعالي عندي… في شقتي هتلاقي مكان تنامي فيه.”

شعرتُ بالقشعريرة تتسلل إلى جسدي، وخاطري يصرخ: “ماله ده؟… شكله مش مظبوط!”

فأجبتُه مترددة:

عشق: “لأ لأ يا عمّو… شكرًا، خلاص أنا هتصرف.”

لكن صوته تبدّل فجأة، وصار مزيجًا من التهديد والوقاحة:

الرجل: “تتصرفي إيه!! بقولك تعالي معايا أحسنلك… بدل ما تيجي بالعافية… وأهو يا حلوة نقضي وقت لطيف مع بعض.”

ارتجفتُ، والغضب يتقد داخلي:

عشق: “إنت راجل قليل الأدب… عيب على سنّك! ده إنت قد أبويا.”

وما إن لفظتُ كلماتي، حتى لمحته يُخرج سلاحًا أبيض من بنطاله، يلوّح به بنظراتٍ مسمومة:

الرجل: “إنتِ اللي اخترتي يا قطة…”

حينها جمد الدم في عروقي، والخوف أحكم قبضته على صدري. تساءلتُ في داخلي بمرارة: “لماذا يحدث كل هذا في يومٍ واحد؟! أوَّلًا أُطرد من بيتي كالغريبة، والآن هذا الرجل يهدد حياتي… ما الذي فعلتُه لأستحق كل هذا؟”

صرختُ مذعورة أحاول استجماع شجاعتي:

عشق: “إنت بتعمل إيه يا عم إنت؟! إنت كده هتودّي نفسك في داهية… هتتسجن، ويمكن تتعدم لو عملتلي حاجة… ابعد عني!”

لكن ضحكته المقيتة اخترقت أذني:

الرجل: “بعينك يا حلوة… ده أنا مصدّقت. يلا قدامي، بيتي مش بعيد… وصدقيني هنتبسط.”

لم يكن أمامي خيار سوى التخلّي عن حقيبتي، خشية أن تُبطئ خطواتي. أطلقتُ لقدميّ العنان، أركض بكل ما تبقى في داخلي من قوة، أهرب من ذلك الوحش الذي يتنكر في هيئة بشر.

ركضتُ طويلًا، أطرافي تتثاقل وأنفاسي تتلاحق. وعندما التفتُّ خلفي لم أره… لعلّه لم يستطع اللحاق بي. لكن سرعان ما تملّكني شعور أشد قسوة: “أين أنا الآن؟! يا إلهي… لقد تهت! الليل قد حلّ، والظلام يزداد كثافة… وأنا بلا حقيبة، بلا مأوى، بلا أحد…”

 

image about رواية عشق عظيم

 

 

وفي جهةٍ أخرى، بعيدًا عن ارتجافي وسط العتمة، كان هناك من يراقبني عن بُعد، يُمسك بهاتفه ويتهامس بنبرةٍ واثقة:

الرجل: “أيوه يا فندم… أنا شايفها أهي. … لأ لأ يا فندم، هتبقى في المخزن كمان ساعة، متقلقش… كل اللي أمرت بيه هيتم.”

وما لبث أن اقترب منه آخر، صوته متحمّس كمن ينتظر لحظة الصيد:

رجل آخر: “ها يا زين، هنخطفها إمتى البت دي؟”

زين: “أنا لسه قافل مع الباشا الكبير… وهنخطفها دلوقتي. يلا روحوا هاتوها.”

وفي تلك اللحظات، كنتُ أقف وسط الطريق، مُنهكة من الركض، أتنفّس بصعوبة، والخوف يسيطر على كل خلية في جسدي. لم أعد قادرة على التفكير إلا في النجاة. وبينما أنا على وشك الانهيار، وقع بصري على شابين يسيران في الاتجاه المقابل

شعرتُ بشيءٍ من الاطمئنان، وقلتُ في نفسي: “سأسألهم عن الطريق… ربما يدلّاني أين أنا الآن.”

لكن… لحظة! إنهما يتجهان نحوي مباشرة… خطواتهما تزداد سرعة… وملامحهما لا تبشّر بخير.

ارتجفتُ، وتراجعتُ للخلف بارتباك، قبل أن أصرخ مذعورة:

عشق: “يا إلهي… إنهم يقتربون مني! هل من الممكن… آه!! أبعد عني يا حيوان!”

غير أن صرختي لم تنفع، إذ باغتني أحدهم وأمسكني بقوة، فيما صاح الآخر:

زين: “يلا… حطّها في العربية بسرعة! مش عايزين شوشره.”

قاومتُ بكل ما أوتيت من قوة، لكن قبضاتهم كانت أثقل من قدرتي على الانفلات. صرتُ كدميةٍ صغيرة تُسحب بعنف إلى السيارة السوداء التي كانت تنتظر على جانب الطريق، وانغلق الباب خلفي بصوتٍ حادٍ كحكمٍ نهائي.

… وبعد ساعةٍ كاملة، كنتُ هناك، في مكانٍ موحشٍ يُشبه القبور أكثر مما يُشبه المخازن. رائحة العطن تُخنق الأنفاس، والصمت يقطعه وقع أقدامهم وهم يحيطون بي.

زين: “خلي وشّها متغطي كده لحد ما تفوق… وكمان اربطوها في الكرسي ده كويس، لحد ما البيه ييجي.”

الرجال: “حاضر يا زين بيه.”

لم أكن أسمع سوى أصواتهم… وأشعر بالحبال تُشدّ على معصمي بقسوة، حتى كدتُ أفقد الإحساس بهما. كنتُ هناك… أسيرةً في عتمةٍ حالكة، لا أعلم ما ينتظرني، سوى أن القدر يجرّني إلى طريقٍ مجهول لا مفرّ منه.

كنت قد بدأتُ أستفيق ببطء، وكأنني أُسحب من هوّةٍ مظلمة لا نهاية لها. رأسي يئن من الألم كطبولٍ تقرع في صدري، وكل شيء حولي غارق في العتمة. حاولت أن أفتح عينيّ… لكنني لم أرَ شيئًا. لحظة! وجهي… مُغطّى!

ارتجفت أنفاسي وأنا أستعيد آخر ما حدث: شابان يقتربان مني، منديل مبلل يُطبق على فمي وأنفي، ثم السواد التام. عندها فقط ضربتني الحقيقة كالصاعقة: لقد خُطِفت…!

“من فعل هذا بي؟ ماذا يريدون؟ هل سيقتلونني؟”

ترددت تلك الأسئلة كطعنة متكررة في عقلي، بينما الخوف يلتهم ما تبقى من شجاعتي. لقد انتهى كل شيء… عائلتي تخلّت عني، تركوني وحيدة، والآن ها أنا أسيرة في مكان مجهول، لا أعرف مصيري.

وفجأة، اخترق سكون المكان صوتُ بابٍ ثقيل يُفتح. تجمد دمي في عروقي، وأصغيت بكل حواسي المرتعشة.

زين: “شكلها فاقت… روح بلّغ البيه الكبير.”

الرجل: “حاضر يا زين بيه.”

وقع خطواتٌ ثابتة أخذ يقترب ببطء، حتى ظهر أمامي. لم أره بوضوح، لكنني شعرت بظله يبتلع المكان كله. كان طويل القامة، يقارب المتر وتسعين، جسده متينٌ كجدارٍ من الفولاذ، وعضلاته مشدودة تُظهر قوته دون مبالغة. كتفاه عريضتان وصدره كالجبل، يكسوهما ثوبٌ أسود فخم جعل هيبته أكثر رهبة، وأضفى على حضوره مهابةً مريبة، ووسامةً قاتلة لا تخلو من القسوة.

تقدّم بخطواتٍ محسوبة، لا يتحدث، لا يبتسم، فقط عيناه الثاقبتان تتفحّصانني من خلف ذلك القناع الأسود من الغموض.

زين: “عظيم بيه… أهلا بحضرتك.”

لم يردّ سوى بإيماءةٍ صغيرة من رأسه.

زين: “هي شكلها فاقت أهي يا باشا.”

أشار له بإصبعه في صمتٍ حاد، فأدرك زين أنه يأمره بالخروج، فانسحب على الفور.

تملكني الذعر، وأنا أرتجف على الكرسي المقيّد، لا أستطيع الكلام بسبب اللاصق الذي يخنق فمي. من هذا الرجل؟ ماذا يريد مني؟

اقترب أكثر، حتى شعرت بحرارة أنفاسه فوق وجهي، وانحنى قليلًا ليقول بصوتٍ منخفض لكنه يحمل في طياته قوة الحديد:

عظيم: “بقا إنتي بقا اللي بتتحديني؟”

ارتعش جسدي كله… فقد بدا صوته أشبه بحكمٍ لا مفرّ منه.

يتبع..... 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

1

followings

0

followings

0

similar articles
-