
الأسطورة: المنبع الذي تتفرع منه الكثير من الحكايات
الأسطورة: المنبع الذي تتفرع منه الكثير من الحكايات
ترجع أهمية دراسة الأسطورة إلى أنها المنبع الذي تتفرع منه الكثير من الحكايات وهي (حكاية إله أو شبه إله أو كائن خارق) يفسر بمنطق الإنسان البدائي ظواهر الحياة والطبيعة والكون وأوليات المعرفة، وهي تنزع في تفسيرها إلى التشخيص والتمثيل والتجسيم، وتشبه المادة في أنها لا تكاد تفنى أو تنعدم، وإنما تتعدد صورها وأشكالها ومضامينها ووظائفها) إذ تكمن في أعماق النفس الإنسانية وتؤلف ذلك الحشد الهائل غير المنظم من العقائد والرواسب والأوهام والخرافات.
ومن العسير أن نضع تعريفاً للأسطورة يجمع عليه العلماء المتخصصون، ذلك أن الأسطورة واقع ثقافي ممعن في التعقيد، تختلف حوله وجهات النظر فهي " تروي تاريخاً مقدساً، وتسرد حدثاً وقع في عصور ممعنة في القدم، عصور خرافية تستوعب بداية الخليقة".
ولقد أصبحت الأساطير مادة خصبة من مواد الدراسة الإنسانية ولها علم قائم بذاته هو علم (الميثولوجيا) أو علم الأساطير، وتعد بمثابة المنبع أو الأصل الذي تتفرع منه الحكاية.
انقسم علماء اللغة إزاء هذاالعلم إلى قسمين كبيرين:
الأول: جعل الشمس المحور الأكبر للأساطير وعلى رأسهم ماكس مولر الذي ذهب إلى أن الأسطورة نشأت عن عيب في اللغة، يجعل للشيء الواحد أسماء متعددة، مما أدى إلى الخلط، وجعل الناس يعتقدون أن الآلهة المتعددة ليست إلا صورا من إله واحد ، كما جعلتهم يتصورون الإله الواحد في صورة آلهة متعددة.
والثاني: جعل الظواهر الجوية هي التي حفزت الإنسان البدائي إلى محاولة تفسيرها بمنطقة المعتمد على التجسيم والتشخيص والتمثيل.
ذهب العالم روبرنسون سميث إلى أن الأساطير كانت بمثابة العقيدة في الديانات القديمة، وأنها تستمد وجودها من الشعيرة، وأن هذه القاعدة تنطبق على الأساطير جميعها على اختلاف الشعوب والعصور. ومعنى ذلك أن أسلافنا الأقدمين كانوا يعتقدون في هذه الأساطير عن عقيدة. ويحتفلون برموزها عن إيمان، أما نحن اليوم في أثناء دراستنا لها نجردها من مادتها المقدسة، ونخضعها للتفكير والتحليل. ومع أن الظروف التي تتألف منها حياتنا تستنكر الاعتقاد بمجتمع الآلهة المتعددة، ومجتمع أنصاف الآلهة وأنصاف البشر، إلا أن الباحثين يحاولون العكوف على دراسة الأساطير لكي يتبينوا منهج الإنسان القديم في التفكير وفي السلوك، وأثر هذا المنهج على الإنسان الوسيط والحديث.
استطاعت الأساطير أن تلهم الأدباء والشعراء على مر العصور أعمالاً فنية عظيمة. ولا بد من الاعتراف أن التراث الأسطوري بهذه الصفة الأدبية – وإن أصابه الغموض والتحوير – مفتاح فهم الحضارات القديمة، بل أساس كثير من الأفكار الأنثروبولوجية الهامة.
ويؤكد باحثو الأساطير أنه لا توجد الآن أساطير كاملة، ولا توجد أنظمة أسطورية كاملة، وإنما هناك حطام أساطير، وهناك بقايا مترسبة كالبقايا الأثرية المطمورة.
ولعل السبب في انتهاء عصر الأساطير، هو أن العقلية التي أنشأتها قد انتهت، وأن العقل البشري قد اتجه إلى الواقع، واهتم بتحليل الظواهر واكتشاف قوانينها.
وفي سائر الأساطير تلمع أشياء مثل: هكتور – أودسيوس- أوديب – بجماليون – وإيزيس . ولنأخذ مثلا هذه الأسطورة التي رواها مكس مولر في كتابه عن الأساطير المصرية القديمة، وهي تدور حول رغبة إيزيس معرفة الاسم الحقيقي للإله فترصدت طريقه اليومي . وانتظرت حتى بصق على الأرض ، فأخذت التراب الممزوج بلعابه، وصنعت منه جسما على هيئة ثعبان دسته في طريق العودة، فلما مر الإله رع بالثعبان لدغه، وسرى ا لسم في بدنه العظيم كأنه ألسنة النار، وحاول الإله العظيم أن يتكتم الآلام المبرحة، لكن الألم كان أقوى منه، فراح يصيح بمخلوقاته من الآلهة أن تهرع إليه، وقال لها: (لقد لدغني شيء رديء لا يعرفه قلبي ولم تره عيني ولم تصنعه يدي).
وجاءه ا لآلهة وأنصاف الأرباب، وجاءته إيزيس تواسيه وتناجيه أن يقول لها اسمه الحقيقي، لتستخدمه في (الرقية) وتمنيه أن تذهب هذه الرقية بالآلام، وباح لها رع بأنه (خبري في الصباح، ورع في ال ظهيرة، وآتوم في المساء). وألقت إيزيس بالرقية فشفته من لدغة الثعبان.
هذه الأسطورة تبدو للذهن المعاصر حكاية خرافية لا قيمة لها، لكن علماء المأثورات أولوها وأولوا الأساطير بعامة أهمية قصوى، فلم يروا فيها سذاجة، بل رأوا فيها محاولة قديمة بذلها الإنسان الأول ليعرف أسرار الكون.
وسنحاول هنا أيضا أن نتناول أسطورة إيزيس وأوزوريس، وهي تصور كيف فقدت أيزيس زوجها قتيلاً على يد شقيقه ست الحاقد عليه، في مؤامرة حاك خيوطها مع اثنين وسبعين من زمرته، إذ صنع تابوتاً في حجم أوزوريس ودعاه إلى حفل عام أعلن فيه أنه سيهدي التابوت لمن يستطيع ولوجه، ولم يكد أوزوريس يلج الصندوق حتى أسرع المتآمرون بإحكام إغلاقه وألقوا به في النيل، وما لبث أن شاع النبأ فانتاب إيزيس حزن عميق حلقت على أثره شعرها، وارتدت ثياب الحداد، وجدت في البحث عن رفاته، فإذا بها تعثر على حطامه.
ويبدو من استعراض أحداث هذه الأسطورة وشخوصها أنها اعتمدت على أشخاص ثلاثة: إيزيس وابنها حورس في جانب، وست في الجانب المقابل، غير أن شخصية إيزيس تطغى على الأحداث، بل إن الأحداث تبدأ منها وتنتهي إليها.
وقد انطوت هذه الأسطورة على جوانب فلسفية بالغة العمق، كما كشفت عن كثير من تقاليد البيئة المصرية في ذلك الوقت، من شيوع للسحر واتخاذ التعاويذ وسيلة للتحصين ضد الشر. كما كشفت عن رسوخ عادة الأخذ بالثأر بحيث كان يصعب على المصري – ولعله لا يزال إلى حد ما – أن يقبل بسطوة الدولة بديلا عنه في أن يأخذ ثأره بيديه.
كما فسرت هذه الأسطورة كثيرا من الظواهر التي عرضت للمصري القديم كتحنيط الموتى ، وفيضان النيل، ودورة الحياة ومطابقتها لدورة الشمس، وكانقسام التربة وجدبها ثم عودتها للحياة.
والواقع أن هذه الأسطورة انفرط عقدها إلى مجموعة من العادات والتقاليد والمعارف، وحولها تدور حكايات وقصص قد تقصر وقد تطول، فقد كتب بلوتارخوس رسالة عن إيزيس عرض فيها لشخصية إيزيس في صورة متكاملة جمعها مما عثر عليه مسجلاً على جدران المعابد، فوجه الأنظار إلى ضرورة الاهتمام بها.
كما كتب هـ. وإيزمان مسرحية بعنوان انتصار حورس ، أبرز فيها شخصية إيزيس وابنها حورس، كما أبرز انتصار الخير على الشر، وجعل إيزيس تسيطر على أحداث المسرحية، وأبرز أهم جانبين من جوانب شخصيتها جانب المرأة الأرملة المتعطشة لدماء قاتل زوجها، حتى ينتهي الأمر بمقتله ثم تعلن فرحتها بانتصار ابنها (أعداؤك يركعون لك وقد تحطموا إلى الأبد، أنت أيها المنتقم لأبيك) ولا ينتهي بها الأمر إلا بعد أن توزع أوصال ست وتحرق رفاته كرمز لاستئصال الشر من جذوره. وجانب الأم القلقة وعلى ولدها، المتدفقة حناناً عليه المصممة على تتويجه ملكاً، فيتم لها ذلك بعد مقتل ست.
وقد ظلت إيزيس حية في أذهان الشعب المصري حتى ألهيت مشاعر كتابه المحدثين، فأخرج توفيق الحكيم الأسطورة في عمل درامي بعنوان إيزيس ، وأبرزها في صورة إنسانية جديدة متمشية مع طبيعة العصر.