
رسالة من قلب لا ينبض
رسالة من قلب لا ينبض
المقدمة
في إحدى ليالي الشتاء القارسة، كان الصمت يلفّ أروقة المستشفى العتيقة ككفنٍ شاحب. وحده صوت جهازٍ يعلن بخطوطٍ متعرجة أن قلباً ما زال يقاوم الموت. الغرفة ضيقة، بيضاء أكثر مما يحتمل البصر، تفوح منها رائحة مطهّرات لا تخفي آثار الفقد. على السرير جسدٌ نحيل لفتاةٍ لم تتجاوز الخامسة والعشرين، أنفاسها بطيئة، وعيناها نصف مغمضتين كأنهما تبحثان عن آخر خيط ضوء.
إلى جوارها جلس دفتر قديم، جلده متشقق وأطراف أوراقه باهتة. بدا واضحاً أنه ليس مجرد أوراق، بل قلب آخر يخفق بالكلمات. حين فتحته الممرضة، وجدت في الصفحة الأولى جملة كتبت بخطٍ مرتعش:
"إلى من يقرأني بعد أن يسكنني الصمت: هذه رسالتي الأخيرة من قلب لا ينبض."
البداية: حين يلتقي القلب بالقلب
تحكي الفتاة: "كنت أؤمن أن للحياة موسيقى خفية، يعزفها القلب بدقاته. أسرع حين نحب، يهدأ حين نخاف، ويتعثر حين نفقد. وقلبي لم يعرف الغناء إلا حين أحببت."
التقت بآدم في مكتبة صغيرة، حين سقط كتاب من يديها فأمسكه قبل أن يرتطم بالأرض. ابتسامة عابرة فتحت بينهما باب الحكاية. تبادلا كتباً وأحاديث، ثم مواعيداً في مقاهٍ متواضعة وحدائق الجامعة. كانت تكتب على هوامش دفاترها: "الحب كتاب بلا غلاف"، فيرد مبتسماً: "لكنني أريد أن أكون عنوانه."
سريعاً، امتلأت أيامهما بالأحلام؛ بيت صغير قرب البحر، مكتبة تضج بالكتب، وأطفال يملأون المكان ركضاً وضحكاً. كان الحب يزهر في كل كلمة بينهما.
لكن القدر كان يخبئ قسوته. مرض القلب الذي لازمها منذ الطفولة بدأ يعلن تمرّده. زيارات الطبيب صارت أكثر من لقاءاتهما، وحبوب الدواء احتلت مكان القهوة في حقيبتها. حاولت أن تخفي ضعفها عن آدم، لكن ذات مساء سقطت بين يديه في الطريق، فعرف الحقيقة كاملة.
الصراع: بين الحب والموت
"كان يرى ضعفي ولا يهرب. كان يمسك بيدي المرتجفة كأنها أعظم قوة في الدنيا. لكنني كنت أعلم أن الوقت يسرقني منه شيئاً فشيئاً. وكنتُ أخشى أن أتركه معلّقاً بين الأمل واليأس."
رفض أهلها في البداية ارتباطها بآدم. قالوا له: "ابحث عن حياة أسهل، هي لن تعيش طويلاً." لكنه تحدّاهم:
– "الحياة ليست طول عمر، بل عمق حب. وأنا اخترت أن أعيش معها ولو يوماً واحداً."
ليالٍ كثيرة قضتها في صراع داخلي. كانت تستيقظ على آلام صدر حادة، فتجد رسالة منه: "نامي مطمئنة، سأكون بجانبك حتى في أحلامك."
لكنها لم تكن مطمئنة. كانت تمزق رسائل كتبتها له، لأنها خافت أن يرى ضعفها. أرادت أن يتذكرها ضاحكة، لا منحنية على سرير المستشفى.
المحاولة الأخيرة: عملية القلب
جاء اليوم الحاسم. الأطباء قرروا أن تخضع لعملية زراعة قلب، ربما تكون فرصتها الأخيرة. ليلة العملية جلست مع آدم، نظرت في عينيه وقالت:
– "إن لم أعد بعد هذه الليلة، فاعلم أنني أحببتك بما يفوق نبضي."
– "ستعودين… وسنكتب فصلاً جديداً."
ابتسمت رغم دموعها، وهمست: "إن فشلت… أكمل القصة وحدك."
دخلت غرفة العمليات، وكانت كلماته آخر ما سمعته. الساعات مرّت ثقيلة، وقلوب أهلها وآدم معلقة بباب الغرفة. لكن الطبيب خرج برأسٍ مطأطأ: العملية فشلت.
القرار: كتابة الرسالة الأخيرة
بعد أيام قليلة من بقائها على قيد الحياة بفضل الأجهزة، طلبت قلماً ودفترها القديم. كتبت:
"في النهاية، أدركت أن قلبي لن يصمد. الأطباء كانوا صريحين، والأيام أثبتت ذلك. لذا، قررت أن أكتب هذه الرسالة، لا لأحزن من يقرؤها، بل لأترك أثراً لا يمحوه الغياب."
تذكرت لحظاتهم على البحر، حين سألت: "إن رحلتُ قبلك، هل ستتذكرني هنا؟" فأجابها: "كيف أنساكِ؟ البحر سيكون وجهك، والريح صوتك، والسماء دموعك."
فكتبت له: "آدم، إن قرأت هذه الكلمات يوماً، فاعلم أنني لم أتركك إلا لأنني لم أستطع البقاء. قلبك يستحق حياةً كاملة، ضحكاتٍ طويلة، وأطفالاً يملؤون بيتك بالركض. لا تجعل موتي يقيدك، بل اجعل حبي لك سبباً لتعيش أكثر."
النهاية: الصمت الذي يتكلم
حين وصلت الممرضة إلى السطر الأخير، وجدت الكلمات متقطعة، كأنها كتبتها في آخر لحظات وعيها:
"قلبٌ توقف لا يعني أن الحب قد توقف. فالحب لا يحتاج نبضاً ليظلّ حيّاً."
في اللحظة نفسها، رنّ جهاز المراقبة بنغمة مستمرة، معلناً النهاية. رحلت وهي مبتسمة، كأنها أخيراً استراحت من معركة طويلة.
أثر الرسالة
في اليوم التالي، حضر آدم بعينين منهكتين. حين علم برحيلها، أعطته الممرضة دفترها. جلس قرب السرير الفارغ، فتح الرسالة، وكل كلمة اخترقت قلبه كسكين وبلسم في آن واحد. بكى حتى بلل الصفحات، لكنه حين بلغ السطر الأخير، مسح دموعه وهمس:
"لن أنساكِ… وسأعيش كما أردتِ."
خرج من الغرفة، وخطواته أكثر ثباتاً. لم يعد وحيداً، فقد تركت له رسالتها لتكون دليله.
الخاتمة: حياة بعد الموت
مرت سنوات. صار آدم كاتباً معروفاً، يكتب عن الأمل والحب والحياة والموت. في كل كتاب كان يضع إهداءً واحداً: "إلى القلب الذي علّمني كيف يعيش رغم أنه لم ينبض طويلاً."
في إحدى حفلات التوقيع، اقتربت منه فتاة صغيرة وسألته:
– "هل القلوب المريضة تموت أسرع؟"
ابتسم بحزن وربت على رأسها:
– "لا يا صغيرتي… القلوب لا تموت أبداً، بل تترك رسائل تبقى خالدة."
هكذا، تحققت وصيتها. لم تُختصر في كلمة "مريضة"، بل صارت رمزاً للحب الذي يتجاوز حدود الجسد. فرسالتها من قلب لا ينبض منحت الحياة لقلوبٍ كثيرة لم تكن تعرف أنها قادرة على الحب رغم كل شيء.
