
"ظلال خلف النافذة"
الفصل الأول – الظل
كان الليل ثقيلاً، يضغط على صدر المدينة بصمتٍ خانق. الشوارع الفارغة بدت وكأنها تنام بعيون مفتوحة، تراقب كل من يجرؤ على السير فيها. في الطابق الرابع من مبنى قديم، جلست ليلى أمام نافذتها تحدق في الفراغ. كان هواء أغسطس خانقًا، ومع ذلك، شعرت بقشعريرة تسري في جسدها.
الساعة الحائطية تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل. في هذا الوقت تحديدًا، يحدث شيء غريب منذ ثلاثة أيام متتالية. في الليلة الأولى، ظنت أن الأمر مجرّد وهم سببه الإرهاق. في الليلة الثانية، أقسمت أنها رأت ظلًا يتحرك خلف النافذة المقابلة. لكن الليلة… كانت متأكدة أنها ليست وحدها.
حاولت إقناع نفسها أن هذه مجرد هلاوس، لكنها تعرف أن عقلها لا يلعب معها هذه اللعبة. فجأة، لمعت نقطة ضوء صغيرة في الشارع، بدت كعين تراقبها من بعيد. اتسعت عيناها وهي تقترب من النافذة ببطء. لم يكن هناك أحد، ومع ذلك… انعكس على زجاج النافذة ظل شخص يقف خلفها تمامًا.
تجمّدت في مكانها، قلبها يخبط في صدرها. لم تجرؤ على الالتفات. الصوت الخافت خلفها كان كتنفس بطيء. مدّت يدها نحو الهاتف على الطاولة، لكن أصابعها توقفت في منتصف الطريق، فقد شعرت بلمسة باردة على كتفها.
التفتت بسرعة، لكن الغرفة كانت فارغة. الباب مغلق، والهواء ساكن، وكأن شيئًا لم يحدث. وضعت يدها على قلبها تحاول تهدئة أنفاسها، لكنها لم تستطع تجاهل حقيقة أن تلك اللمسة كانت حقيقية.
عادت للنافذة، فرأت أن النقطة المضيئة في الشارع قد اختفت، لكن الزجاج كان يحمل أثرًا… بصمة يد غريبة، طويلة الأصابع، وكأنها ليست بشرية.
الفصل الأول – الظل (النهاية)
عادت ليلى تتراجع للخلف وهي تحدق في بصمة اليد الغريبة على الزجاج. كانت البصمة تلمع بضوء باهت، كأنها تصدره من نفسها. حاولت أن تلمسها بطرف أصابعها، لكن في اللحظة التي اقتربت فيها، سُمِع طرقٌ عنيف على باب شقتها.
قفز قلبها من مكانه، فالباب مغلق من الداخل، والوقت تجاوز الثانية والنصف صباحًا. تجمّدت في مكانها، وهي تنظر نحو الباب الذي اهتز مع كل طرقة. لم يرافق الطرق أي صوت نداء أو حديث… فقط الطرق، وبإيقاع ثابت، وكأن الطارق يعرف أنها واقفة تراقب.
اقتربت ببطء، ممسكة بمقبض الباب بيد مرتجفة. وضعت أذنها على الخشب، فلم تسمع شيئًا، حتى الطرق توقف فجأة. تنفست بعمق، لكنها لم تلحظ أن النافذة خلفها قد فُتِحت بصمت.
شعرت بنسمة هواء باردة تمر على عنقها، فالتفتت بسرعة… لترى الظل الذي كان على الزجاج، صار يقف داخل الغرفة، ملامحه مخفية، وعيناه تلمعان بلون أحمر خافت.
أطفأت الأنوار فجأة، وغرقت الشقة في ظلام دامس، آخر ما رأته كان ذلك الوجه يبتسم ابتسامة بطيئة، قبل أن يختفي كل شيء.
كان الليل يبتلع آخر خيوط النور، والريح تعصف بالمدينة الخالية كأنها تحمل معها صرخات مَن رحلوا. توقّفت خطوات "ليان" عند باب البيت القديم، الباب الذي بدأ كل شيء من خلفه. رفعت يدها لتطرقه… لكن الباب انفتح وحده، ببطء، وكأن أحدهم كان ينتظرها.
في الداخل، لم يكن هناك سوى الكرسي الخشبي المهتز في منتصف الغرفة، وعلى مقعده، ظلّها… يجلس.
ابتسم الظل وقال بصوتها تمامًا:
“تأخرتِ… كنتُ في انتظارك منذ البداية.”
ثم انطفأ كل شيء.
فجأة، شعرت "ليان" ببرودة تقطع أنفاسها، والهواء من حولها صار أثقل مما تحتمله. حاولت أن تتحرك، لكن قدميها التصقتا بالأرض كأن الظل يجرّها نحوه.
الكرسي توقف عن الاهتزاز، والابتسامة على وجه الظل تحولت إلى ملامح فارغة، بلا عينين… بلا فم.
همس في أذنها من مسافة مستحيلة:
“لن تغادري… لأنك كنتِ أنا منذ البداية.”
وفي اللحظة التالية، اختفى البيت، والمدينة، وكل شيء… ولم يبقَ سوى الظلام، والكرسي، وابتسامة تنتظر زائرًا جديدًا.