
طه حسين: الفتى الكفيف الذي حوّل ظلام العمى إلى نور الفكر
طه حسين: الفتى الكفيف الذي حوّل ظلام العمى إلى نور الفكر
في تاريخ الأدب العربي الحديث، لا يسطع نجم مثل نجم طه حسين، عميد الأدب العربي، الذي تحدّى العمى والفقر والظروف الصعبة ليصبح رمزًا للنهضة الفكرية والثقافية في مصر والعالم العربي. وُلِد الفتى الكفيف في قرية صغيرة بالصعيد، لكنه أثبت أن العزيمة والإرادة قادرتان على تحويل الظلام إلى نور، والحرمان إلى إبداع.
البدايات القاسية
وُلد طه حسين عام 1889 في قرية "الكيلو" بمحافظة المنيا، وفقد بصره في سن مبكرة نتيجة إصابته بالرمد. لم يكن فقدان البصر نهاية لحياته، بل كان بداية رحلة مختلفة. فالطفل الصغير الذي حُرم من رؤية النور بعينيه، أضاءت بصيرته قلبه وعقله، فانكبّ على الاستماع والحفظ والتعلم.

رحلة العلم والمعرفة
أرسله والده إلى الأزهر الشريف حيث حفظ القرآن ودرس العلوم الدينية واللغة العربية. إلا أن عقله الطموح لم يرضَ بالتقليدية السائدة، فانتقل إلى الجامعة المصرية الحديثة، وهناك بدأ مرحلة جديدة من التمرد على الجمود الفكري. سافر بعدها إلى فرنسا، ليدرس في جامعة السوربون، ويتزوج من السيدة "سوزان" التي أصبحت رفيقة حياته وصوت عينيه الذي يرى به العالم.
مفكر النهضة وأديب الحرية
لم يكن طه حسين مجرد طالب علم، بل كان مشروع نهضة. كتب في الأدب والتاريخ والنقد والفلسفة، وخلّد اسمه بمؤلفات عظيمة مثل: الأيام، مستقبل الثقافة في مصر، حديث الأربعاء، وكتابه الجريء في الشعر الجاهلي الذي أثار جدلاً واسعًا.
كان يؤمن بأن التعليم هو حق للجميع، وصرّح مقولته الشهيرة: "التعليم كالماء والهواء"، ليصبح صوتًا مدويًا يدعو إلى العدالة الاجتماعية وإصلاح المجتمع.
تحدي العمى وصناعة المجد
طه حسين لم يرَ الدنيا بعينيه، لكنه أبصرها ببصيرته النافذة. حوّل ظلام العمى إلى نور من الفكر، وأثبت أن المعاق الحقيقي هو من يعجز عن الحلم والإرادة. تقلّد مناصب رفيعة منها وزارة المعارف (التعليم) وعضوية مجمع اللغة العربية، وظل طوال حياته مدافعًا عن الفكر الحر والعقل المستنير.
إرث خالد للأجيال
رحل طه حسين عام 1973، لكنه ترك تراثًا فكريًا وأدبيًا ينهل منه الجميع حتى اليوم. فقد كان رمزًا للإرادة الإنسانية، وعنوانًا للعقلانية والحرية، ومثالًا على أن الإعاقة ليست حاجزًا أمام العظمة، بل قد تكون دافعًا لتحقيق المستحيل.
النشأة المبكرة وظروف الكفاح
وُلد طه حسين في 15 نوفمبر عام 1889 بقرية الكيلو بمحافظة المنيا في صعيد مصر. في طفولته المبكرة أصيب بالعمى نتيجة إصابة في عينيه لم يُحسن علاجها، ففقد بصره وهو في سن صغيرة جدًا. إلا أن ذلك لم يمنعه من التوجه إلى الكُتّاب حيث حفظ القرآن الكريم كاملًا وهو لم يتجاوز سن العاشرة. كانت هذه البداية نقطة التحول الأولى، فقد اكتسب قوة الذاكرة والقدرة على الحفظ والفهم، وهو ما أهّله لاحقًا ليكون ناقدًا ومفكرًا بارزًا.
التعليم في الأزهر الشريف
انتقل طه حسين إلى القاهرة عام 1902 ليلتحق بالأزهر الشريف، حيث درس علوم الدين واللغة العربية والفقه. ورغم أنه استفاد من بعض العلوم، إلا أنه اصطدم بجمود المناهج التعليمية حينها، وعدم استجابتها لروح العصر، فبدأت تتشكل لديه نزعة التمرد الفكري والرغبة في الإصلاح. وكان تأثره الكبير بمحاضرات الشيخ الإمام محمد عبده وبعض رواد التجديد سببًا في تكوين شخصيته النقدية الجريئة.
تجربة الجامعة المصرية
مع تأسيس الجامعة المصرية عام 1908، التحق بها طه حسين ليبدأ فصلًا جديدًا في مسيرته العلمية. وهناك انفتح على آفاق واسعة من الفكر الغربي والعلوم الحديثة، وبدأ يشارك في الندوات ويلقي المحاضرات، حتى نال شهادة الدكتوراه عام 1914 عن رسالته حول "أبو العلاء المعري"، الذي كان بالنسبة له نموذجًا للشاعر الفيلسوف الذي تحدى إعاقته.
رحلة باريس والاطلاع على الفكر الغربي
بعد نيله الدكتوراه من الجامعة المصرية، أُرسل في بعثة علمية إلى جامعة السوربون بفرنسا، حيث درس التاريخ والآداب وحصل على الدكتوراه الثانية عن "الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون". وخلال تلك الفترة تعرّف على الثقافة الأوروبية الحديثة واطلع على مدارس النقد والفلسفة الغربية، كما التقى هناك بزوجته الفرنسية "سوزان بريسو"، التي كانت رفيقة دربه وعينه التي أبصر بها العالم. وقد لعبت دورًا أساسيًا في حياته، إذ دعمت مسيرته العلمية والأدبية، وكانت تقرأ له وتكتب ما يُمليه.
عودته إلى مصر وريادة التنوير
عاد طه حسين إلى مصر محمّلًا بأفكار جديدة ورؤية إصلاحية جذرية، فأصبح أستاذًا للتاريخ والأدب في الجامعة المصرية. ومن أبرز إنجازاته تأليف كتابه الشهير "في الشعر الجاهلي" عام 1926، الذي أثار جدلًا واسعًا بسبب جرأته في مناقشة قضايا التراث الشعري والديني، لكنه فتح بابًا جديدًا للنقد العلمي القائم على العقل والتحليل بدلًا من التسليم المطلق.
وزيرًا للمعارف: "التعليم كالماء والهواء"
في عام 1950 تولّى طه حسين وزارة المعارف (التربية والتعليم حاليًا)، وهناك أطلق عبارته الشهيرة: "التعليم كالماء والهواء حق لكل إنسان". فعمل على نشر مجانية التعليم، وفتح أبواب الجامعات لأبناء الطبقات الفقيرة، إيمانًا منه بأن النهضة الحقيقية تبدأ بالعلم والمعرفة، وليس بالثروة أو السلطة.
مؤلفاته وإرثه الأدبي
ترك طه حسين تراثًا ضخمًا من المؤلفات في الأدب والنقد والفكر والتاريخ والسيرة الذاتية، أبرزها:
الأيام: سيرته الذاتية التي جسّد فيها رحلة كفاحه من القرية إلى قمة الفكر.
مستقبل الثقافة في مصر: كتاب حدّد فيه رؤيته لمستقبل مصر الثقافي والتعليمي وربطه بالثقافة العالمية.
في الشعر الجاهلي: الذي أثار جدلًا لكنه أسس لمفهوم النقد العلمي.
حديث الأربعاء: مقالات نقدية تناول فيها الشعراء والأدب العربي القديم.
هذه المؤلفات وغيرها جعلت منه رمزًا للتنوير ورائدًا للفكر الحديث في العالم العربي.
طه حسين والجرأة الفكرية
تميز طه حسين بجرأته الاستثنائية في مواجهة الأفكار التقليدية الجامدة، فلم يخشَ الصدام مع المؤسسات أو الشخصيات الكبيرة، بل آمن أن الإصلاح لا يتم إلا عبر النقد الحر والاعتماد على العقل. كان يرى أن وظيفة المثقف ليست ترديد ما قاله السلف، بل إعادة النظر والتجديد بما يتلاءم مع حاجات العصر.
وفاته وإرثه الخالد
رحل عميد الأدب العربي في 28 أكتوبر 1973، بعد أن ترك للأمة إرثًا لا يُقدّر بثمن. لم يكن مجرد كاتب أو وزير، بل كان مدرسة فكرية متكاملة، ورمزًا للإصرار والإرادة. لقد أثبت للعالم أن الكفيف قد يرى ببصيرته ما لا يراه المبصرون بعيونهم.
خاتمة
قصة طه حسين هي قصة انتصار الإنسان على ظروفه القاسية. فقد واجه العمى والفقر والجمود الفكري، لكنه تغلب عليها جميعًا ليصبح واحدًا من أعظم رموز الفكر العربي الحديث. وهكذا ظل "الفتى الكفيف" شاهدًا على أن الإرادة الصلبة والعقل المستنير قادران على تحويل ظلام العمى إلى نور الفكر، وأن الإعاقة لا تُقاس بما ينقص الجسد، بل بما يفيض به العقل والروح.