حديث مع نورس: حين يصبح الإصغاء علاجاً

حديث مع نورس: حين يصبح الإصغاء علاجاً

Rating 0 out of 5.
0 reviews
image about حديث مع نورس: حين يصبح الإصغاء علاجاً

ليس كل طبيب يحمل شهادة... أحياناً يكفي جناح نورس

كان البحر هادئاً في ذلك النهار، ماؤه يلمع تحت أشعة الشمس كمرآة واسعة، تعكس زرقة السماء وصفاء الأفق. على سور الميناء جلس رجل في منتصف العمر، متعب الملامح، يرتدي قميصاً برتقالياً ويضع حقيبة ظهر باهتة الألوان على كتفه. اسمه عزيز، موظف سابق فقد عمله منذ أشهر، بعد أن أُغلقت الشركة التي كان يعتمد عليها لإعالة نفسه وأسرته.

منذ ذلك اليوم صار كل شيء قاتماً. يبحث عن عمل هنا وهناك، يطرق أبواباً لا تُفتح، ويعود مثقلاً بالخذلان. كل يوم يزداد شعوره بالغربة وسط الناس، حتى صار يظن أن الحياة تسير في طريق آخر وهو بقي عالقاً في الظل.

أخذ يتأمل المارة من حوله: سياح يلتقطون الصور، صيادون يصلحون شباكهم، وأطفال يركضون نحو بائع المثلجات. كل واحد يبدو منشغلاً بحياته، ولا أحد يلتفت إلى الرجل الجالس على السور كأنه غير موجود.

ضحك عزيز بمرارة وقال لنفسه بصوت خافت:

– الطبيب النفسي يطلب أربعمائة درهم في الساعة... وأنا لا أملك حتى ثمن نصف وجبة.

وبينما كان يردد كلماته، حطّ نورس أبيض كبير بجانبه على السور. التفت إليه بدهشة، ثم ابتسم ساخراً:

– حتى الطيور جاءت لتسخر مني؟

لكن النورس لم يتحرك. ظل واقفاً ينظر إليه بعينين ثابتتين. مدّ عزيز يده إلى حقيبته وأخرج خبزاً يابساً كان يحتفظ به. كسر قطعة صغيرة وألقاها، فانقضّ النورس والتقطها سريعاً، ثم عاد ليقف في نفس المكان، وكأنه يطالبه بالمزيد.

قال عزيز مبتسماً بفتور:

– معاملة غير عادلة... أنا أطعمك وأنت لا تفعل شيئاً.

توقف لحظة، ثم تابع بصوت يشبه الهمس:

– أو ربما... أنت الذي ستسمعني.

كانت تلك بداية حوار غريب. جلس عزيز على السور مستنداً إلى حقيبته، بينما ظل النورس واقفاً بقربه، كأنه مستعد للإصغاء.

قال الرجل وهو يزفر:

– تعلم يا صديقي، أحياناً أشعر أنني أختنق. فقدت عملي، الديون تحاصرني، عائلتي تنظر إليّ وكأنني عبء، والناس لا يرون سوى قشرتي الخارجية. كل يوم أشعر أنني أصغر من أن أواجه هذا العالم.

أطلق النورس صرخة قصيرة، فابتسم الرجل وقال:

– ها أنت تقول لي: تكلّم، أنا أستمع.

واصل كلامه بحرارة، بعدما انفتحت شهيته للبوح:

– أنام قليلاً وأستيقظ كثيراً، رأسي يدور بأسئلة لا تنتهي: كيف أدفع الإيجار؟ كيف أشتري طعاماً؟ هل أنا السبب في كل ما حدث؟ في أي لحظة فقدت الطريق؟

أسند رأسه على يده وأردف:

– بل أحياناً أفكر أن أنهي الأمر كله. البحر أمامي، وبخطوة واحدة يمكن أن تختفي معاناتي.

فجأة، رفرف النورس بجناحيه وضرب بهما السور، واقترب أكثر من الرجل. بدا وكأنه يصرخ في وجهه: لا تفعل!

ارتجف عزيز، ثم رفع عينيه إلى الطائر وقال مبتسماً بارتباك:

– هل تحاول أن تردعني؟ أن تذكرني بأن الحياة ليست ملكي وحدي؟

بقي النورس ينظر إليه بثبات، فعاد الرجل يتنفس بعمق. لأول مرة منذ شهور شعر أن هناك من يعارض فكرة استسلامه، حتى لو كان مجرد طائر.

مرّت لحظات من الصمت، يسمع خلالها خرير الأمواج وصفير الرياح، بينما قلبه يهدأ شيئاً فشيئاً.

قال أخيراً:

– أتعلم يا صديقي؟ ربما لا أحتاج إلى أربعمائة درهم لأتحدث إلى طبيب. ربما ما أحتاجه حقاً هو أذن تسمعني... دون أحكام، دون نصائح جاهزة، ودون مقابل. وأنت فعلت ذلك اليوم.

مدّ قطعة أخرى من الخبز للنورس، الذي تناولها بلمح البصر. ثم أضاف بابتسامة صغيرة:

image about حديث مع نورس: حين يصبح الإصغاء علاجاً

– غداً سأجرب من جديد. سأطرق باباً آخر، وسأبحث عن عمل، ولو كان بسيطاً. قد لا أنجح بسرعة، لكن على الأقل سأقاوم. لن أترك البحر يأخذني.

وقف الرجل، وشدّ حقيبته على كتفه، وألقى نظرة طويلة على الأفق. النورس ما زال واقفاً، يرمقه بعينين لامعتين، وكأنه يودّعه.

لوّح له بيده قائلاً:

– شكراً أيها الطبيب المجاني... لقد أنقذتني من الغرق.

وبينما كان يسير وسط الزحام، ارتفع النورس محلقاً فوقه، يرفرف بجناحيه كأنما يرافقه في خطواته الأولى نحو بداية جديدة.

image about حديث مع نورس: حين يصبح الإصغاء علاجاً

العبرة

ليس كل طبيب يحمل شهادة، فالإصغاء قد يكون دواءً، والبوح بداية شفاء، والأمل قد يولد من أبسط التفاصيل… حتى من وقوف طائر نورس على حافة الميناء.

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

14

followings

5

followings

30

similar articles
-