
بين المقامة والقصة
بين المقامة والقصة
يثير شكل المقامة وأسلوبها القصصي اللبس حول ما إذا كانت تعد ضرباً من القصص، أم أنها لون متميز عنه، فإذا كانت القصة تهدف من خلال الغرض الذي تنسج حوله إلى معالجة بعض القضايا الاجتماعية أو الأخلاقية أو السياسية فإن المقامة أيضاً وبتركيز أشد تهدف إلى الوعظ والإرشاد. وهي معان تدخل في مجالات القيم الاجتماعية والدينية.
فالمقامة عبارة عن لون من القصص اللغوي، عمد فيه مؤلفه إلى إبراز المهارة اللغوية، وحشد ألوان من الأساليب الشائعة في العصر العباسي من سجع وغيره مع إضفاء عنصر التشويق القصصي حتى يقبل عليها الناشئة، فإن القصة تقوم على فكرة يستمدها القاص من مشاكل المجتمع وتجاربه في الحياة في أسلوب سهل بسيط ولا بد أن تتوفر فيها من العناصر الفنية ما لا يمكن أن تستقيم بدونه.
فالقصة تقوم أساسا على سلسلة من الأحداث المتشابكة المترابطة في تسلسل منطقي، حتى تصل إلى الذروة أو التشابك والتعقيد، ثم تأخذ طريقها إلى الحل أو النهارية تدريجياً بينما تقوم المقامة على حدث بسيط الهدف منه إعطاء العبرة والعظة.
وعلى حين تتخذ المقامة بطلا وراوياً هما من نسج الخيال، نجد القصة تقوم أساساً على شخصيات واقعية بعضها يقوم بدور البطولة في تطوير الحدث وتسلسله والبعض الآخر يقوم بدور ثانوي لخدمة الهدف، ولا بد أن تكون هذه الشخصيات قادرة على التفاعل مع الأحداث في صورة تبرز فيها عواطفهما وانفعالاتها وما يعتريها من غرائز وأهواء ومشاعر وأفكار.
وبينما تعتمد القصة على الحوار بين الشخصيات في أسلوب يعبر عن نفسية كل شخصية وطريقة تفكيرها، ويكشف عن المستوى الاجتماعي والثقافي لكل منها، ومدى تفاعلها مع الأحداث، نجد المقامة تقوم على الرواية وسرد الوقائع في أسلوب يتسم بالبراعة في استعمال السجع والغريب من اللفظ.
وإذا كانت القصة ترتبط بمكان وزمان محددين تقع فيهما الأحداث. حتى يستطيع القارئ استيعاب الجو العام للقصة، وفهم الحالة النفسية للشخصية فإن المقامة لا ترتبط بزمان أو مكان فهي تقوم على إبراز حيلة من أجل الشحاذة.
وعلى هذا فإن الفروق بينهما تبدو جوهرية بحيث لا تجيز الخلط بين المقامة لها ومنهجها الخاص وبين القصة ولها بناؤها الفني المميز.
ولا يغيب عن فطنة الدارس والقارئ أن الأدباء المحدثين قد نأوا بجانبهم عن التطرق لهذا اللون من الفنون باعتبار أن المقامة لم تعد تساير روح العصر، فلا الشحاذة ولا الحيلة يستهويان أحداً في عالم اليوم، وأصبح موضعها بالتالي سجلات التاريخ الأدبي فحسب، وعلى العكس من ذلك فإن القصة إذ تستجيب لتنوع الثقافات وتعدد الموضوعات بما يتمشى مع الواقع فقد نمت وازدهرت ولا تزال قواعدها العريضة من محبي هذا الفن آخذة في الانتشار والاتساع.
الخاتمة:
يتضح من خلال المقارنة بين المقامة والقصة أن كليهما يشكّلان ركنين بارزين من أركان الأدب العربي، لكل منهما خصائصه وأهدافه الفنية والتربوية. فالمقامة برزت كفن بلاغي يعكس قدرة الكاتب على توظيف السجع والمحسنات البديعية لخدمة المعنى، بينما جاءت القصة لتعكس حياة الإنسان ومشكلاته وتجسيد واقعه في إطار حكائي ممتع. ومع تطور العصور، ظلت المقامة شاهداً على براعة الأدباء في صياغة اللغة، في حين تطورت القصة لتصبح فناً أكثر قرباً من حياة القارئ وأكثر تعبيراً عن قضاياه اليومية.
التوصيات:
الحفاظ على المقامة بوصفها تراثاً أدبياً أصيلاً يُبرز جماليات البلاغة العربية.
تشجيع قراءة القصص القديمة والحديثة لما لها من دور في تنمية الخيال وصقل القيم الإنسانية.
الموازنة بين الفنين في التدريس والبحث، بحيث يتعرّف الدارس على خصائص المقامة ودلالاتها، وعلى أهمية القصة في التعبير عن المجتمع.
الاستفادة من التقنيات الحديثة لإحياء المقامات والقصة معاً عبر المسرح، والإذاعة، والمنصات الرقمية.
تشجيع الكتاب الشباب على الجمع بين جماليات المقامة وسردية القصة لإبداع نصوص جديدة تمزج بين التراث والحداثة.