
“غرف الذاكرة
الفصل الأول:
فجوة في الذاكرة
استيقظ يوسف فجأة في غرفة نومه، محاطًا بظلال رمادية تنزلق فوق الجدران وكأنها انعكاس لشيء لا يُرى. قلبه يخفق بقوة، وعرقه البارد يتصبب على جبينه. لم يكن في الأمر مجرد كابوس عابر؛ كان هناك شعور عميق بأن شيئًا ما اختفى من داخله. جلس على حافة السرير، يحدّق في يديه المرتجفتين، ثم مدّ بصره إلى المرآة الصغيرة المعلقة أمامه، فوجد نفسه غريبًا عن ذاته.
مدّ أصابعه إلى ذراعه الأيسر، حيث لمس ندبة رفيعة لم يتذكر قط كيف ظهرت. ازداد القلق في صدره وهو يبحث في رأسه عن خيط يربط الأحداث، لكن فجوة مظلمة في ذاكرته بدت كحفرة لا قاع لها. فجأة، لم يستطع استدعاء ملامح خطيبته، ولا حتى اسمها الكامل. كان الأمر كما لو أن عقلًا آخر أعيد تشكيله داخله، تاركًا فراغًا يلتهم صور الماضي.
نهض يوسف مترنحًا وسار نحو النافذة، ليرى الشارع ساكنًا بطريقة غير مريحة. كل شيء بدا مألوفًا، ومع ذلك مشوّهًا كأن طبقة رقيقة من الزيف تغطي الواقع. أغلق عينيه للحظة، وإذا بصوت خافت يهمس من داخله: "هذه ليست حياتك." ارتجف، يبحث عن مصدر الصوت، لكنه كان وحيدًا في الغرفة.
حاول أن يهدئ نفسه بالعودة إلى ألبوم الصور على هاتفه، غير أن الصور بدت متصدعة، وجوه ممسوحة وأماكن بلا أسماء. ازداد إحساسه بأنه فقد أكثر من مجرد ذكريات؛ فقد هويته ذاتها. بدأ الصداع يطرق رأسه بعنف، ومع كل نبضة كان يسمع صدى صرخات بعيدة تتردّد في أذنيه.
وقف يوسف أمام المرآة مجددًا، فرأى انعكاس طفل يقف خلفه، يحدق بعينين واسعتين فارغتين. التفت بسرعة، فلم يجد أحدًا. حين عاد إلى النظر، كان وجهه هو، لكن مبتسمًا ابتسامة باردة لا يعرفها. في تلك اللحظة أيقن أنّ ما يحدث ليس مجرد نسيان عابر، بل بداية كابوس حيّ يتسلل إلى وعيه، محوّلًا حياته إلى متاهة مظلمة لا مخرج لها.
الفصل الثاني:
همسات الليل
جلس يوسف على أريكته القديمة محاولًا أن يلتقط أنفاسه بعد المشهد المروّع في المرآة. مدّ يده إلى كوب الماء بجانبه، لكنه توقف حين لاحظ ارتعاش أصابعه وكأنها ترفض الانصياع له. كان عقله يئن تحت ثقل أسئلة لا إجابات لها: من هو الطفل الذي رآه؟ ولماذا تبدو حياته وكأنها ليست له؟
عندما حلّ الليل، حاول يوسف أن ينام لعل النوم يطفئ نيران القلق. لكنه ما إن أغمض عينيه حتى وجد نفسه داخل ممر طويل مظلم، جدرانه مغطاة بذكريات ممزقة؛ صور أطفال يبتسمون ثم تختفي وجوههم، مشاهد لحوادث لا يتذكر أنه عاشها، وأصوات تهمس من العدم: “أعد إلينا ما سرقت… أعد إلينا ما سرقت.”
ارتجف يوسف وهو يتقدم في الحلم، يلمس الجدران فيجدها رطبة وكأنها تنزف. كل خطوة كانت أثقل من سابقتها، حتى رأى بابًا حديديًا يلمع في نهاية الممر. مد يده ليفتحه، لكن أصابعًا باردة أمسكت بمعصمه فجأة. التفت ليرى وجه رجل بلا ملامح، يحدق فيه بعينين فارغتين. استيقظ يوسف على صرخة مكتومة، مبللًا بالعرق وكأن جسده كله غُمر في بحر من الخوف.
أدار رأسه نحو الساعة فوجدها تشير إلى الثالثة صباحًا، إلا أن الغرفة لم تكن كما تركها. الكتب متناثرة على الأرض، والمصباح يتأرجح ببطء كما لو أنّ يدًا خفية حركته. في ركن الغرفة، بدا ظل طويل يتمايل رغم ثبات الأشياء. حاول أن ينهض لكنه شعر بثقل غريب يمنعه من الحركة، وكأن الهواء نفسه أصبح جدارًا يسحق صدره.
بدأت الهمسات تعود من جديد، أقرب هذه المرة، تنفذ مباشرة إلى أذنه: “ذكرياتك ليست لك… سنأخذ البقية.” ضغط يوسف يديه على أذنيه محاولًا حجب الصوت، لكن الهمسات تحولت إلى صرخات حادة تخترق جمجمته. شعر وكأن عقله يتمزق، حتى تهاوى على الأرض فاقدًا القدرة على التمييز بين الحلم والواقع.
حين انبلج الفجر، وجد نفسه مستلقيًا على الأرض، ممددًا بجانب الأريكة، والنافذة مفتوحة على مصراعيها. لم يعد متأكدًا إن كان ما عاشه حقيقة أم كابوسًا آخر. لكنه أدرك شيئًا واحدًا: الخطر لا يطارده في أحلامه فحسب، بل اخترق واقعه تمامًا، وصار يهدد بانتزاع ما تبقّى من ذاته.
الفصل الثالث:
الندبة
مع أول خيوط النهار، قف يوسف أمام المرآة محاولًا طرد بقايا الرعب الذي سكن ليله. لكن وجهه بدا أكثر شحوبًا، وعيناه غارقتان في دوائر سوداء عميقة. مدّ يده إلى ذراعه الأيسر ليلامس الندبة من جديد. كانت حادة وبارزة، كأنها جرح لم يلتئم قط، لا ذكرى لألمه ولا أثر لقصته في ذهنه. كلما مرّت أصابعه عليها شعر بوخز غريب، كأن الندبة تخبئ سرًا أعمق من مجرد إصابة.
جلس يوسف على الطاولة محاولًا تذكر أي شيء يقوده إلى ماضيه. قلب دفاتر قديمة، أوراق عمل، قصاصات صور… لكن شيئًا لم يبدُ مألوفًا. بعض الملاحظات مكتوبة بخط يده، غير أنه لم يتعرف على مضمونها. كان بين الأوراق ورقة صغيرة تحمل رمزًا غريبًا: دائرة داخلها خطان متقاطعات، وأسفلها تاريخ مكتوب بعد أسبوع من الآن. شعر برعشة تسري في جسده وهو يتساءل: أهو توقيت لحدث سيقع؟ أم موعد مع مجهول لا مفر منه؟
مع حلول الظهيرة، خرج يوسف إلى الشارع بحثًا عن أنفاس جديدة. لكن المدينة لم ترحمه؛ الوجوه بدت غريبة وكأنها تنظر إليه بعيون فارغة. كل خطوة كان يسمع معها خفقات غير قلبه، كأن صدى أنفاس شخص آخر يسير بجانبه. توقف عند مقهى صغير ليهدئ توتره، فلاحظ من خلف الزجاج انعكاس الطفل ذاته، يجلس على كرسي مقابل الطاولة، يراقبه بصمت. التفت سريعًا فلم يجد أحدًا، لكن الكوب بين يديه كان لا يزال يهتز كما لو أن شخصًا آخر قد لمسه.
عند عودته إلى شقته، وجد الباب مواربًا. تجمد في مكانه، يحاول استيعاب ما يراه. لم يترك الباب هكذا. دفعه ببطء ليدخل، فإذا بالأثاث مرتبكًا بطريقة مختلفة. كل شيء في مكانه لكن بزاوية مغايرة، كما لو أن أحدًا أعاد ترتيب حياته في غيابه. على الطاولة، وُضع دفتر أسود لم يكن موجودًا من قبل. فتحه بحذر، ليجد داخله جملة واحدة مكتوبة بخط مرتعش:
"هذه ليست ذكرياتك… لا تبحث."
تجمد يوسف وهو يقرأ العبارة مرات ومرات، متسائلًا: من ترك الدفتر؟ ولماذا يعرف ما يعانيه؟ عند تلك اللحظة، شعر أن الندبة على ذراعه تخفق وكأنها قلب صغير نابض داخل جسده، يذكره بأن الماضي لم يُمحَ تمامًا، بل ينتظر عودته بطريقة مرعبة.
الفصل الرابع:
دفتر الظلال
جلس يوسف أمام الدفتر الأسود، أصابعه ترتجف فوق الصفحات الفارغة إلا من تلك العبارة المريبة: “هذه ليست ذكرياتك… لا تبحث.” ترددت الكلمات في ذهنه مثل صدى عميق يتلاشى في فراغ داخلي، يثير فيه خوفًا لم يعهده من قبل. حاول أن يقنع نفسه بأن الأمر مجرد مزحة ثقيلة أو لعبة نفسية، لكن إحساسه الداخلي كان يصرخ بأن ما يراه حقيقة لا تقبل الشك.
أعاد يوسف إغلاق الدفتر ووضعه على الرف، محاولًا تجاهله. غير أن الهمسات عادت تتسرب إلى أذنه مع كل حركة يقوم بها. كان الصوت ذاته الذي سمعه في الحلم، يقترب أكثر فأكثر، حتى شعر وكأن صاحب الصوت يجلس إلى جواره. استدار بسرعة، فلم يجد سوى فراغ يبتلع أنفاسه.
قرر يوسف أن يخرج من الشقة ليبتعد عن تلك الهواجس. سار في الشوارع كالغريب، عيناه تلتقطان تفاصيل مشوهة: لافتات بلا حروف، أطفال يضحكون من دون أصوات، ورجل مسن يراقبه بنظرة جامدة حتى اختفى في الزحام. توقف عند مكتبة صغيرة جذبته بواجهة غريبة، وكأنها تعرف أنه يبحث عن أجوبة. دخل، فاستقبله عطر قديم يختلط برائحة الورق المتعفن.
اقترب من الرفوف، ليجد كتابًا ضخمًا يبرز بين البقية. مد يده ليسحبه، فاكتشف أن غلافه يحمل الرمز ذاته الذي وجده في الورقة صباحًا: دائرة يتقاطع داخلها خطان. فتح الكتاب فوجد صفحاته خالية تمامًا، إلا من صفحة وحيدة كُتب عليها: “الندبة هي المفتاح.”
ارتجف يوسف وهو يقرأ العبارة. رفع كم قميصه ليلقي نظرة على ذراعه، فإذا بالندبة تشتعل حرارتها فجأة، كأنها جرح أعيد فتحه. شعر بألم حارق يتسرب إلى أعماقه، ورأى للحظة خاطفة مشهدًا في ذهنه: غرفة مظلمة، مقعد معدني، وأصوات بكاء مكتوم. لكن الصورة اختفت سريعًا تاركة وراءها صداعًا شديدًا.
خرج يوسف من المكتبة مسرعًا، يحمل الكتاب معه دون أن يدرك كيف تجاوز البائع. كان قلبه يخفق بجنون، وصوت داخلي يكرر: “الندبة هي المفتاح… الندبة هي المفتاح.” عند عودته إلى شقته، وجد الدفتر الأسود وقد فتح من تلقاء نفسه، والعبارة تغيرت إلى:
“لقد بدأت ترى الحقيقة.”
تراجع يوسف إلى الخلف، ساقاه ترتعشان، بينما عقله يغرق في سؤال واحد: أي حقيقة على وشك أن يكتشفها، وهل سيتحمل مواجهتها؟
الفصل الخامس:
وجوه متصدعة
جلس يوسف على الأريكة، يحدق في الدفتر الأسود المفتوح أمامه. الكلمات التي ظهرت فجأة لم تفارقه: “لقد بدأت ترى الحقيقة.” حاول إقناع نفسه بأنها مجرد هلوسة بصرية، لكن الحبر كان واضحًا، والعبارة تزداد عمقًا كلما أعاد النظر إليها.
أمسك بالكتاب الذي جلبه من المكتبة، يقلب صفحاته الفارغة في يأس. تمنى أن يجد شيئًا آخر يرشده، لكنه لم يعثر إلا على الصفحة الوحيدة التي حملت الجملة الغامضة: “الندبة هي المفتاح.” بدا الأمر وكأنه رسالة مزدوجة، كأن شخصًا أو كيانًا ما يتلاعب به، يدفعه ببطء نحو هاوية مظلمة.
مع حلول المساء، جلس يوسف قرب النافذة، محاولًا استنشاق بعض الهواء. إلا أن الشارع بدا غريبًا، كما لو كان مسرحًا صامتًا. رأى امرأة تعبر الطريق، لكن ملامح وجهها بدت ممسوحة، وكأن شخصًا محاها من الوجود. ثم مرّت مجموعة من المارة، وجوههم متصدعة كالزجاج المكسور، وعيونهم تحدق فيه بفراغ مخيف.
أغلق يوسف النافذة مذعورًا، لكن انعكاس الزجاج أوقع قلبه في فزع أكبر: خلفه في الغرفة، كان الطفل نفسه جالسًا على الكرسي، ينظر إليه بعينين ساكنتين. التفت يوسف بسرعة، فلم يجد أحدًا، فقط الكرسي فارغ والهواء مشبع برائحة عتيقة أشبه بالعفن.
ارتفع دقات قلبه وهو يسمع طرقًا خفيفًا على الباب. تردد لحظة قبل أن يفتحه، ليجد لا أحد أمامه سوى ظرف صغير ملقى على الأرض. التقطه بيد مرتجفة، وفتحه ليجد بداخله صورة قديمة بالأبيض والأسود. الصورة تظهر غرفة مظلمة، تتوسطها طاولة معدنية عليها أدوات حادة. في زاوية الصورة، ظهر وجه مشوه يبتسم ببرود. وتحتها كتب بخط باهت: “لقد كنت هنا.”
شعر يوسف بالدوار، كأن الأرض اهتزت تحته. أيعقل أن يكون هو صاحب تلك الغرفة؟ أم أنه مجرد شاهد على جريمة لم يعرفها؟ حاول تمزيق الصورة، لكن الورق قاومه كأنه مصنوع من معدن رقيق. فجأة، سمع ضحكة حادة تتردد في الغرفة، قادمة من كل مكان ولا مصدر محدد لها.
تراجع إلى الخلف، الدفتر الأسود ما زال مفتوحًا على الطاولة، والكلمات تغيرت مرة أخرى أمام عينيه لتكتب:
“الهروب لم يعد خيارًا.”
الفصل السادس:
الغرفة البيضاء
لم ينم يوسف تلك الليلة. ظل جالسًا على الأرض، يراقب الكلمات التي تتبدل في الدفتر الأسود كأنها تنبض بالحياة. كلما أغلق عينيه سمع الهمسات تزداد قربًا، حتى شعر أن أنفاسًا غريبة تلامس رقبته. ومع اقتراب الفجر، استسلم للإرهاق، فسقط في نوم ثقيل حمله إلى كابوس جديد.
وجد نفسه في غرفة بيضاء قاحلة، جدرانها ملساء بلا أي تفصيل، تتوهج بإضاءة باردة لا يعرف مصدرها. في منتصف الغرفة جلس على كرسي معدني، مكبل اليدين بسلاسل صدئة. حاول أن يصرخ، لكن صوته خرج هامسًا واهنًا، وكأن الهواء لا يحمل سوى الصمت. أمامه ظهرت مرآة ضخمة عكست صورته، غير أن الانعكاس لم يكن مطابقًا.
رأى نسخة أخرى منه، بوجه أكثر شحوبًا وعينين متسعتين كأنهما حفرتان سوداوان. النسخة ابتسمت ببطء، ثم رفعت ذراعها الأيسر لتكشف عن الندبة ذاتها، لكنها مفتوحة تنزف سائلًا أسود كثيفًا. ارتجف يوسف وهو يرى الدم يتدفق عبر الزجاج، ليلطخ الأرضية البيضاء بظلال داكنة تتحرك مثل الدخان.
فجأة، ظهر الطفل ذاته في زاوية الغرفة، واقفًا بلا حراك. رفع إصبعه وأشار إلى يوسف، ثم همس بصوت حاد يملأ الفراغ: “أنت لست أنت.” مع هذه الكلمات، بدأت الجدران البيضاء تتصدع، خطوط سوداء تشقها من كل جانب. ارتجت الأرضية، وانفتح صدع واسع تحته، كاشفًا عن هاوية مظلمة يعلوها صراخ مكتوم.
استفاق يوسف على وقع سقوطه، ليجد نفسه ممددًا على الأرض في شقته، يلهث بجنون. العرق يبلل جسده، وصوت الطفل ما زال يتردد في أذنيه. حاول أن ينهض، لكن الألم في ذراعه اليسرى كان حارقًا. رفع كم قميصه ليتأكد، فوجد الندبة متورمة حمراء كأنها جرح طازج عاد لينزف من جديد.
توجه إلى الحمام محاولًا غسلها، لكن ما إن اقترب من المرآة حتى جمد مكانه. انعكاسه لم يتحرك معه، بل ظل واقفًا يحدق فيه ببرود. ارتسمت ابتسامة بطيئة على وجه الانعكاس، بينما يوسف على الجانب الآخر يتراجع مذعورًا. في تلك اللحظة، أدرك أن مرآته لم تعد مجرد زجاج… بل نافذة مفتوحة على كيان آخر يراقبه دون انقطاع.
الفصل السابع:
الطبيب الغامض
بعد ليلة مرهقة من الكوابيس والانعكاسات المريبة، قرر يوسف أن يلجأ إلى طبيب نفسي لعلّه يجد تفسيرًا لما يحدث. جمع شجاعته واتصل بأحد الأرقام التي وجدها على بطاقة قديمة بين أوراقه. صوت امرأة أجابته ببرود، وحددت له موعدًا في نفس اليوم، وكأنها كانت تتوقع اتصاله منذ زمن.
وصل يوسف إلى العيادة مع حلول المساء. المبنى بدا مهجورًا من الخارج، إلا أن الداخل كان مضاءً بإنارة صفراء خافتة، والجدران مزينة بصور أشجار عارية تتداخل فروعها في أشكال مزعجة. جلس في قاعة الانتظار، ولاحظ أن الساعة المعلقة على الحائط تشير إلى نفس التوقيت الذي رآه في الورقة الغامضة: بعد أسبوع من الآن. شعر برجفة تسري في جسده، لكن الباب فُتح فجأة، وخرجت امرأة ترتدي معطفًا أبيض.
كانت الطبيبة تدعى ليلى. شعر يوسف بشيء مألوف في ملامحها، لكنه لم يستطع تحديده. نظراتها ثابتة وهادئة، تكاد تخفي قلقًا دفينًا. دعته للدخول إلى مكتبها، حيث جلس أمامها على كرسي خشبي قديم. بدأت تسأله عن أحلامه، عن فقدانه للذكريات، وعن الندبة في ذراعه. كلما أجاب، دوّنت ملاحظات بخط متعرج، لكن عينيها كانتا تراقبانه أكثر من أوراقها.
قالت ليلى بصوت منخفض:
“أنت لا تعاني من فقدان ذاكرة طبيعي… بل هناك شيء انتُزع منك عمدًا. الندبة على ذراعك ليست جرحًا عاديًا، إنها مدخل.”
تجمد يوسف عند كلماتها. حاول أن يسأل: “مدخل إلى ماذا؟” لكنها صمتت لبرهة، ثم اقتربت منه وهمست: “إلى غرف الذاكرة.”
ارتبك يوسف، وتصبب عرقه بغزارة. أراد أن ينهض ويغادر، لكن ليلى وضعت يدها على الطاولة وأخرجت صورة مماثلة لتلك التي وجدها في الظرف. نفس الغرفة المظلمة، نفس الطاولة المعدنية. تحت الصورة، كان مكتوبًا بخط واضح: “لقد كنت هنا.”
نظر إليها بصدمة، فسألها بصوت مرتعش: “من أنت حقًا؟”
ابتسمت ليلى ببطء، ثم أغلقت الدفتر أمامها وقالت: “أنا آخر من بقي ممن يتذكرون.”
خرج يوسف من العيادة بخطوات متعثرة، قلبه يغلي بالأسئلة. كان يشعر أن هذه المرأة تعرف الكثير عنه، وربما أكثر مما يعرفه هو عن نفسه. لكن السؤال الأكبر ظل يطارد عقله: هل هي تحاول مساعدته فعلًا… أم أنها جزء من اللعبة المظلمة التي تلتهم ذاكرته؟
الفصل الثامن:
انعكاس الطفولة
عاد يوسف إلى شقته وهو يشعر بأن الأرض من تحته تتحرك بخطوات ثقيلة. كان عقله مشبعًا بكلمات ليلى، وبالصورة التي عرضتها عليه، تلك الغرفة المظلمة التي لا يعرف إن كانت من ماضيه أم مجرد فخ نفسي يُحاك له. جلس على الأرض، يتأمل الدفتر الأسود والكتاب الفارغ، محاولًا أن يجمع شتات وعيه.
مع حلول الليل، انطفأت الأنوار فجأة، ولم يبق سوى وهج خافت من القمر يتسلل عبر النافذة. حين رفع يوسف رأسه نحو المرآة، لم يجد صورته المعتادة. بل ظهر طفل صغير في حدود السابعة من عمره، يجلس القرفصاء، وملامحه نسخة مطابقة له. كان ينظر بعينين تملؤهما البراءة، لكن ابتسامته حملت قسوة غامضة.
اقترب يوسف من المرآة بخوف، وسمع صوت الطفل يخرج منها:
“لقد سرقوا طفولتك… سرقوا ما كنتُه. أنا بقاياك العالقة هنا.”
ارتجف جسده، محاولًا أن يفهم معنى الكلمات. هل يمكن أن تكون ذكرياته المفقودة مرتبطة بهذا الطفل؟ هل هو نفسه في زمن مضى؟ حاول لمس الزجاج، لكن السطح صار باردًا كالثلج، ثم بدأ يتشقق ببطء حتى انبعث منه صرير مزعج.
اندفع يوسف إلى الخلف، بينما الشقوق توسعت كأنها أبواب تُفتح. من خلالها لمح لمحات متقطعة: غرفة صف مدرسي فارغة، حقيبة مدرسية ملطخة بالدماء، وصوت معلم يصرخ باسمه. حاول أن يشيح بوجهه لكنه لم يستطع؛ المشاهد انغرست في رأسه بقوة جارحة.
ثم رأى نفسه طفلًا صغيرًا، جالسًا على طاولة معدنية، محاطًا برجال يرتدون معاطف بيضاء، يزرعون شيئًا غريبًا في ذراعه الأيسر. عندها شعر يوسف بألم حارق في ندبته، وكأن الجرح أعيد فتحه أمام عينيه. سقط على ركبتيه، يصرخ من شدة الوجع، بينما المرآة تنفجر إلى شظايا متناثرة، كل قطعة تعكس وجهه مبتسمًا بطريقة مريضة.
عندما انتهى الصداع وهدأ صوته، كان كل شيء في مكانه من جديد: المرآة سليمة، الغرفة هادئة، والليل ساكن. لكن يوسف أدرك أن ما رآه لم يكن وهمًا عابرًا. كان بابًا فُتح على جزء مدفون من حياته، جزء مظلم حاول عقله نسيانه بالقوة.
جلس متكئًا إلى الحائط، يلهث بصعوبة، ويداه تضغطان على ذراعه النازف. وفي داخله، دوى سؤال مرعب لا يريد مواجهته:
هل كان ضحية تجربة منذ طفولته… أم أنه كان مشاركًا فيها؟
الفصل التاسع:
صدى الصرخات
لم يستطع يوسف النوم تلك الليلة، فالأحداث الأخيرة ملأت رأسه بذكريات متداخلة، بعضها مأساوي، وبعضها مرعب بشكل لم يسبق له أن عايشه. جلس على حافة سريره، يحدق في الدفتر الأسود والكتاب الغامض، محاولًا أن يجد خيطًا يقوده إلى فهم ما يحدث له. لكن كل محاولة باءت بالفشل، فالأسرار كانت محاطة بغلاف من الظلام والكوابيس.
مع منتصف الليل، بدأ يسمع صدى صرخات بعيدة، تتخلل أصوات المدينة الهادئة. في البداية ظن أنها تأتي من الحي، لكنه سرعان ما أدرك أنها تصدر من داخله، وكأن جدران شقته تتنفس وتتحدث. ارتجف يوسف، وحاول أن يحد من دقات قلبه، لكنه شعر بالانجذاب إلى مصدر الصوت، صرخة مكتومة تتكرر بلا توقف: “اعرف نفسك… اعرف نفسك…”
نهض بحذر، وسار نحو المرآة الكبيرة التي بدأت تعكس ظلالًا متحركة. رأى فيها صورته، لكن ملامحه بدأت تتغير تدريجيًا، تتحول إلى وجوه غريبة، بعضها طفولي، وبعضها مشوه، وأحدها يحمل ابتسامة باردة مرعبة. كل وجه يهمس بشيء مختلف، كلمات غير مفهومة، صدى ذكريات ليست له.
لم يكن يوسف يعرف إن كان يحلم أم مستيقظًا، لكن شعورًا داخليًا قويًا أرغمه على الاقتراب من المرآة أكثر. فجأة، ظهر الطفل ذاته يقف خلفه، يهمس: “الندبة تعرف كل شيء… اتبعها.”
مد يوسف يده إلى ذراعه، ولمس الندبة. شعور غريب اجتاحه، كأنها نابضة بطاقة غامضة، موجة ألم حادة اجتاحت جسده، ترافقها ذكريات مبهمة: غرف مظلمة، أصوات تعذيب مكتومة، أشخاص مجهولون يزرعون شيئًا في جسده، وهو الطفل الضعيف الذي لم يكن قادرًا على الصراخ.
ارتجف يوسف وانهار على الأرض، صوته يختنق في حلقه، بينما المرآة بدأت تتصدع ببطء. الشقوق تنفتح، وتظهر خلالها أذرع تمتد نحوه، لكنها تختفي قبل أن يصل إليها، تاركة وراءها صدى الصرخات الذي يملأ الغرفة كلها.
عندما هدأ كل شيء أخيرًا، جلس يوسف على الأرض يلهث، ويده تضغط على ندبته. أدرك شيئًا مرعبًا: كل ما حدث له لم يكن صدفة، كل هذه الهمسات، الصراخ، الانعكاسات… كانت جزءًا من خطة أكبر لم يعرفها بعد. شيء عميق ومظلم يراقبه، يختبره، ويقوده ببطء نحو الحقيقة التي قد تدمره أو تحرره.
الفصل العاشر:
باب بلا مفتاح
حلّ الليل على شقة يوسف كما لو كان ستارًا أسود يخيم على كل شيء. لم يعد النوم خيارًا، فذكريات الطفولة والندبة والمرآة المطبوعة بالكوابيس كانت تسكن رأسه بلا رحمة. جلس على الأرض ممسكًا بالدفتر الأسود والكتاب الغامض، يحاول أن يجد خيطًا يربطه بالطفل الغريب الذي يلاحقه في كل انعكاس.
فجأة، سمع صوت طرق خافت على الباب. ارتجف، لكن الفضول دفعه إلى الاقتراب بحذر. فتح الباب، فلم يجد سوى ممر مظلم جديد، لا يشبه أي شارع أو زقاق يعرفه. الهواء بارد والرائحة غريبة، كأن الممر نفسه يتنفس. لم يكن الممر موجودًا من قبل، لم يكن ضمن شقته، ومع ذلك بدا مألوفًا بطريقة غريبة، كأنه مأوى منسية في ذاكرته.
أخذ يوسف خطوات حذرة، كل خطوة تصدر صدى طويلًا، حتى وصل إلى باب حديدي قديم. حاول فتحه، لكنه لم يفلح؛ الباب كان بلا مفتاح، بلا مقابض، كما لو أنه باب وهمي. رفع رأسه، فإذا بصوت الطفل ذاته يهمس من الظلام: “كل شيء يبدأ هنا… الندبة تعرف الطريق.”
مد يوسف يده إلى ذراعه، ولمس الندبة. فور ذلك، شعر بوخز حاد يمتد في جسده، وكأن ندبة قديمة بدأت تنبض بطاقة مجهولة، تفتح أمامه نافذة إلى ذكريات لم يرها من قبل. فجأة، ظهرت أمامه صور متقطعة: غرف مظلمة، أسرة مبتسمة اختفت من ذاكرته، أصوات مكتومة، وأشخاص يرتدون معاطف بيضاء يقتربون منه.
انحنى يوسف إلى الأمام، يحاول استيعاب ما يراه، لكن الصور بدأت تتحرك كأنها حقيقية، كل مشهد يجره أعمق إلى المتاهة، أعمق إلى الغرفة التي يراها في المرآة منذ البداية. شعر بأنه لا يمكن الهروب، وأن كل خطوة يخطوها تقربه من الحقيقة، مهما كانت مرعبة.
عاد إلى شقته بعد لحظات، يلهث، والباب الحديدي اختفى فجأة. جلس على الأرض، يتنفس بصعوبة، والدفتر الأسود مفتوح أمامه على صفحة جديدة كتب عليها بخط غريب: “الطريق يبدأ من الألم… فقط من يملك الشجاعة يكمل.”
ارتجف يوسف، وهو يدرك أن كل ما يحدث له ليس مجرد كوابيس، بل سلسلة اختبارات مخيفة تقوده نحو الغرفة التي تحمل الماضي كله. وكلما اقترب من فهم الحقيقة، كلما أدرك أنه لم يعد يملك خيارًا آخر سوى مواجهة الظلام الذي يختبئ داخله.
الفصل الحادي عشر:
أصوات من الظلام
استفاق يوسف في منتصف الليل على أصوات مكتومة تأتي من الزوايا المظلمة في شقته. في البداية ظن أنها مجرد انعكاسات لعقله المتعب، لكنه سرعان ما أدرك أن الصوت قريب جدًا، يحيط به من كل جانب. همسات مشوشة، صرخات مكتومة، واصوات خطوات ثقيلة تتنقل في أرجاء الغرفة، كأن كيانًا غير مرئي يراقبه بلا انقطاع.
اقترب من المرآة الكبيرة، قلبه ينبض بسرعة، ورعشة تخترق يديه. انعكاسه لم يكن كما هو؛ ظهرت عليه ملامح طفل صغير، عيناه واسعتان تلمعان ببراءة غامضة ومخيفة في الوقت ذاته. شعر يوسف بوخز حاد في ندبته، وكأنها تذكره بالأحداث المظلمة التي حاول عقله طمسها.
لم يلبث أن ظهرت أمامه صورة لمكان مألوف لكنه غريب: غرفة مظلمة، طاولة معدنية، أصوات مكتومة، ورجل يرتدي معطفًا أبيض يقترب منه ببطء. صرخ يوسف، لكن صوته لم يكن له، بل خرج مكتومًا من أعماق عقله، كأن أحدًا آخر يتحدث من خلاله.
سقط على الأرض يحاول التقاط أنفاسه، لكن الغرفة بدأت تتغير من حوله. الجدران امتدت، تشققت، وظلال سوداء زحفت عبر الأرض، مكونة أشكالًا متحركة تخاطبه بصوت غير مفهوم: “اعرف نفسك… واعرف الماضي…”
تذكر كلمات ليلى: “الندبة هي المدخل.” مد يوسف يده إلى ذراعه، ولمسها بشدة. فور اللمس، انفتح فجأة باب صغير في زاوية الغرفة، ينبعث منه ضوء باهت. تحرك نحو الباب ببطء، كل خطوة تزيد من رعبه، لكن أيضًا تمنحه شعورًا غريبًا بالقوة.
عندما عبر يوسف الباب، وجد نفسه في ممر طويل مظلم، جدرانه مغطاة بصور مشوهة من طفولته. كل صورة تحمل لحظة مأساوية أو مخيفة لم يتذكرها، لكن عقله بدأ يلمح نمطًا: كل الصور مرتبطة بالندبة، بكل الألم الذي أصابه، بكل الانكسارات النفسية التي عاشها في صمت.
وقف عند نهاية الممر، ليرى غرفة مضاءة بإضاءة صفراء باهتة. بدا الباب أمامه وكأنه يهمس له: “هنا الحقيقة… هنا يبدأ كل شيء.”
أدرك يوسف أن أمامه لحظة فاصلة: مواجهة الماضي المظلم بالكامل، مواجهة الذكريات المسروقة، والكيان الغامض الذي يختبئ خلف ندبته. وكل خطوة نحو الغرفة تعني مواجهة الرعب النفسي الأعمق، ومواجهة ذاته الحقيقية التي لم يعرفها قط.
الفصل الثاني عشر:
الغرفة المظلمة
وقف يوسف أمام الباب الأصفر الباهت، يحدق فيه بارتباك. شعوره بالخوف امتزج بشعور غريب من الفضول، كأن عقله يهمس له: “هذه هي اللحظة التي تنتظرها منذ البداية.” رفع يده المرتجفة، دفع الباب ببطء، فإذا بالغرفة تتكشف أمامه كما رآها في كل انعكاس وكل حلم: جدران مظلمة، طاولة معدنية في المنتصف، وأصوات مكتومة تتردد في الفضاء.
دخل يوسف بتردد، قلبه ينبض بسرعة لا يمكن السيطرة عليها. كل خطوة كانت تصدر صدى طويلًا، يملأ الغرفة برعشة غريبة. الضوء الباهت كشف عن أدوات مبعثرة على الطاولة، بعضها معدني وحاد، وبعضها يبدو كأدوات طبية غامضة. على الجدران، صور متفرقة لطفولته، مواقف لم يتذكرها، لكنها مزقت عقله فور رؤيتها.
اقترب يوسف من الطاولة، ولمس أحد الأدوات المعدنية، فإذا بوخز حاد في ندبته يسري في جميع أنحاء ذراعه. أغمض عينيه للحظة، وظهر له الطفل ذاته، يجلس على الكرسي الصغير في زاوية الغرفة. نظر إلى يوسف بعيون مليئة بالحزن والخوف، وهمس بصوت ضعيف: “كل شيء هنا لك… لتعرف من كنت، ومن أنت.”
بدأت الأصوات تتصاعد، صراخ مكتوم، همسات غامضة، صدى خطوات غير مرئي. شعر يوسف بالدوار، وكأن الغرفة تدور حوله، ممزوجة بالصور، الأدوات، والأصوات التي لم تكن موجودة في الواقع، لكنها أكثر واقعية من أي شيء عاشه.
مد يوسف يده إلى ندبته، ومع كل لمسة، ظهرت ذكريات جديدة: غرفة الصف المدرسي، رجال يرتدون معاطف بيضاء، طعنات غريبة، أصوات بكاء مكتوم. كل مشهد كان يثير الألم والخوف، لكنه كان جزءًا من نفسه، جزءًا لم يجرؤ عقله على مواجهته من قبل.
جلس يوسف على الأرض، يحاول أن يهدئ قلبه، بينما الغرفة تزداد سوادًا، والظلال تتحرك ككائنات حية. أدرك شيئًا واحدًا بوضوح: الحقيقة التي يخافها ليست مجرد ذكريات مسروقة، بل قصة حياته كلها، مظلومة ومشوّهة، تنتظر أن يواجهها كاملة.
ارتجف يوسف، يتنفس بصعوبة، ويده على ندبته، مدركًا أن اللحظة القادمة ستحدد مصيره: مواجهة الماضي المظلم بالكامل أو أن يغرق في الظلام الأبدي الذي يختبئ داخل نفسه.
الفصل الثالث عشر:
مواجهة الماضي
جلس يوسف على حافة الطاولة المعدنية، يحدق في الغرفة المظلمة التي بدا وكأنها صممت خصيصًا لتقوده إلى أعماق ذاته. الأصوات المكتومة حوله بدأت تتخذ شكلًا شبه مفهوم، صدى الصرخات أصبح أكثر وضوحًا، كأن ذكرياته المفقودة تحاول التحدث عبره.
مدّ يده إلى ندبته على ذراعه، وأحس بحرارة غريبة تتسرب إلى جسده. فجأة، انفتحت في عقله صور متقطعة من طفولته، كل صورة أقوى وأوضح: غرفة الصف، رجال يرتدون معاطف بيضاء يزرعون شيئًا في جسده، أصوات بكاء مكتوم، وأصوات صراخ لا يمكن تجاهلها. شعر وكأن الزمن نفسه يعود به إلى الوراء، ليعيده إلى لحظة فقدان براءته، لحظة بدأت فيها اللعبة المظلمة التي تحكم حياته.
ارتجف يوسف ووقف، محاولًا جمع شجاعته. في زاوية الغرفة، جلس الطفل ذاته، ينظر إليه بعيون مليئة بالحزن والخوف، همس بصوت ضعيف: “لكل ذاكرة باب… والندبة هي مفتاحك.”
اقترب يوسف بخطوات مترددة، كل خطوة تصدر صدى في الغرفة، وكل ظل يتحرك بطريقة مرعبة، لكنه لم يتراجع. وصل إلى الطفل، ولمس يده الصغيرة. عندها ارتجفت الأرضية، وظهرت أمامه سلسلة من الممرات المظلمة، كل ممر يحمل ذكريات مختبئة، صورًا للحظات من حياته لم يكن يتذكرها، وكلها مرتبطة بالندبة.
بدأ يوسف بالسير عبر الممرات، كل خطوة تكشف جزءًا من ماضيه: لحظة فقدان والديه، ألم الوحدة، الخيانة، الذكريات المسروقة، والكوابيس التي عاشها بصمت. كل مشهد كان يملأ قلبه بالخوف، لكنه أيضًا كان يحرره تدريجيًا من الغموض الذي سكن حياته.
وصل إلى نهاية الممر، حيث باب حديدي آخر. هذه المرة، لم يطرق أو يبحث عن مفتاح، بل وضع يده على ندبته، وتذكر كلمات ليلى: “الندبة تعرف الطريق.” عند اللمس، انفتح الباب ببطء، والضوء الأصفر الباهت يملأ الغرفة، ليكشف عن غرفة صغيرة، مليئة بالصور والمستندات والأشياء التي تعود إلى طفولته.
جلس يوسف على الأرض، يحدق في كل ما حوله، مدركًا أن مواجهة الماضي لم تعد خيارًا، بل ضرورة. كل قطعة من الغرفة كانت جزءًا من ذاته، من ذكرياته المسروقة، من هويته التي سُلبت منه. وهنا، أدرك للمرة الأولى أن القوة التي يحتاجها لمواجهة الظلام لا تكمن في الهروب، بل في مواجهة كل شيء… بلا خوف.
الفصل الرابع عشر:
أسرار مكشوفة
جلس يوسف وسط الغرفة الصغيرة، يحدق في كل شيء حوله، الصور، المستندات، والأشياء المبعثرة التي تنتمي لطفولته. كل قطعة كانت كنافذة مفتوحة إلى ذكريات لم يعرفها، ولم يستطع عقله أن يرفضها أو يتجاهلها.
بدأ قلبه يخفق بعنف وهو يلمس صورًا قديمة، يلاحظ وجوهًا مألوفة ومشوهة في الوقت ذاته. كل صورة تروي قصة مختبئة: والده يقف بعيدًا، والدته مبتسمة لكنها حائرة، ووجوه أطفال لم يتذكرهم، لكنهم كانوا جزءًا من لعبته المظلمة منذ البداية.
وفجأة، سمع صوت خطوات خافتة خلفه. التفت ببطء، فإذا بالطفل ذاته يقف في الزاوية، عيناه مليئتان بالحزن، وهمس بصوت ضعيف: “كل شيء كان مخفيًا عنك… لكن الوقت حان لتعرف.”
اقترب يوسف بخطوات مترددة، وكل خطوة تكشف أمامه صورًا جديدة، مستندات مكتوبة بخط يده لكنه لا يتذكر كتابتها. كلمات تتحدث عن تجارب وأحداث غريبة: عن اختبارات، عن ذكريات مسروقة، وعن مؤسسات غامضة اختطفت الطفولة، وغيّرت الحياة بطريقة لا يمكن التنبؤ بها.
جلس الطفل على الأرض، أشار إلى دفتر أسود آخر كان مخفيًا تحت الطاولة. قال بصوت منخفض: “هذا الدفتر يحمل الحقيقة كاملة. كل ما فاتك، كل ما نُزع منك… موجود هنا.”
فتح يوسف الدفتر بحذر، وبدأ يقرأ. الكلمات كانت حادة، واضحة، تصف تجربته منذ الطفولة وحتى اللحظة الحالية. كل سطر كان يفتح له نافذة على الماضي المظلم: الأطباء الذين أجروا التجارب، الرجال في المعاطف البيضاء، الألم، الخوف، وندبته التي لم تكن مجرد علامة عابرة، بل مدخل لكل ما حدث.
شعر يوسف بالدوار، لكن معه شعور غريب بالقوة. أدرك أن كل هذا الرعب لم يكن ليحبطه، بل ليقوده إلى الحقيقة. الحقيقة التي طالما هرب منها، التي حاول عقله طمسها، والتي كانت تنتظره في كل انعكاس، في كل حلم، في كل همسة.
وقف يوسف ببطء، ينظر إلى الغرفة المليئة بالذكريات، ويدرك أن ما يواجهه ليس مجرد الماضي، بل هو فرصة لإعادة نفسه، لإعادة السيطرة على حياته. كل خطوة لاحقة ستكون مواجهة مباشرة مع الرعب، ومع الظلام الذي اختبأ داخله سنوات طويلة.
الفصل الخامس عشر:
باب الحقيقة
وقف يوسف وسط الغرفة المملوءة بالذكريات والمستندات والصور، ويداه ترتعشان وهو يحمل الدفتر الأسود الجديد. كل صفحة يقرأها كانت تكشف طبقة أعمق من الماضي المظلم، كل كلمة كانت تحفر في عقله بصمة جديدة من الوعي والرعب معًا.
تذكر كلمات الطفل: “الندبة هي المفتاح… الطريق يبدأ من الألم.” مد يوسف يده إلى ندبته، وشعر بحرارة تتسرب إلى جسده بالكامل، وكأنها شعلة حية تحرق كل خوفه، لكنها تمنحه قوة غير متوقعة. فجأة، بدأ الباب الحديدي القديم في الزاوية يهتز، ينبعث منه ضوء أصفر باهت، وكأن الغرفة كلها تدعوه لعبور حاجز جديد نحو الحقيقة الكاملة.
اقترب يوسف بخطوات مرتعشة، كل خطوة تصدر صدى عميق في الغرفة، ويبدو أن الصور على الجدران تتحرك معها، تحاكي كل لحظة من ماضيه. رأى نسخًا من نفسه كطفل، كفتيه ملطختين بالخوف، وعيناه مليئتان بالدهشة والرعب، تحاكي كل تجربة نسيها أو تم نزعها منه.
وصل إلى الباب، وضع يده على مقبض بارد، واندفعت ذكريات الماضي فجأة في رأسه: غرفة الصف، المعاطف البيضاء، أصوات الصراخ المكتوم، التجارب، الألم، وكل لحظة شعور بالعجز والخوف. كان الأمر مخيفًا، لكنه أيضًا واضح؛ كل هذه الأحداث شكلت هويته، ولم يعد بالإمكان إنكارها أو الهروب منها.
فتح يوسف الباب ببطء، وكأنه يفتح صفحة جديدة في حياته. الضوء الساطع أغرق الغرفة، ليكشف عن ممر طويل يقوده إلى غرفة كبيرة، جدرانها مغطاة بالصور والمستندات وكل الأدلة على الماضي المسروق. الأصوات التي كانت تهمس في عقله تحولت إلى صمت مطبق، لكنه صمت مشحون بانتظار مواجهة الحقيقة.
جلس يوسف على الأرض، يتنفس بصعوبة، ويده على ندبته. أدرك أن كل ما واجهه حتى الآن كان اختبارًا، وأن هذه الغرفة، هذه الصور، المستندات، والدفاتر… هي طريقه لمعرفة ذاته بالكامل. كل خطوة تالية لن تكون مجرد اكتشاف، بل مواجهة مباشرة مع الماضي، مع الظلام الداخلي، ومع كل شيء حاول عقله دفنه سنوات طويلة.
ابتسم يوسف ببطء، لأول مرة منذ بداية هذه الكوابيس. كانت المرة الأولى التي شعر فيها أنه يملك القوة لمواجهة ما سيأتي، وأن النور الذي يلوح في نهاية الطريق ليس مجرد وهم، بل حقيقة تنتظره ليعيد نفسه بالكامل.
الفصل السادس عشر:
الانفجار الداخلي
جلس يوسف في الغرفة المضيئة، محاطًا بالصور والمستندات، ويداه ترتعشان من شدة التوتر. كل شيء حوله كان صدى لماضيه، كل قطعة من الذكريات تحمل ألمًا وكابوسًا لم يعرفه حتى الآن. لكنه شعر لأول مرة منذ زمن طويل بقوة غريبة تتصاعد بداخله، كأن كل رعب عاشه أصبح طاقة تقوده نحو المواجهة.
مد يوسف يده إلى ندبته، وأغمض عينيه، مسترجعًا كل لحظة من طفولته المظلمة: غرفة الصف، المعاطف البيضاء، التجارب الغريبة، أصوات البكاء المكتوم، وكل الأوقات التي شعر فيها بالعجز والخوف. كل مشهد كان يمر أمامه كفيلم حي، لكنه لم يعد طفلًا عاجزًا.
مع كل استحضار للذكريات، بدأت الصور على الجدران تتحرك، تتراقص وكأنها على قيد الحياة، وكل شخصية فيها تتحدث بلغة صامتة، تهمس له بما لم يستطع أحد قوله له من قبل: “واجه نفسك… لتعرف الطريق.”
شعر يوسف بانفجار داخلي، خليط من الخوف والغضب والقوة. صرخ في الغرفة بصوت لم يسمعه من قبل: صرخة حرية، صرخة تحدٍ لكل ما عاشه من ألم. الأصوات المكتومة التي كانت تحاصره لسنوات بدأت تتلاشى، تاركة وراءها صمتًا صاخبًا يملأ عقله بالوضوح.
اقترب من الطاولة المعدنية، وبدأ بمراجعة المستندات والصور بدقة، كل وثيقة كل صورة كل تفصيل كان مفتاحًا لفك اللغز الذي سجن حياته منذ الطفولة. أدرك يوسف أن النور الذي يلوح أمامه ليس مجرد إضاءة الغرفة، بل وعيه ذاته الذي بدأ يشرق من بين الظلال، قوة داخلية لم يعرفها من قبل.
نظر إلى الطفل ذاته الذي كان يقف في الزاوية منذ البداية، فابتسم له، وكأنهما شخص واحد الآن، متحدان: الماضي والحاضر، الألم والقوة، الرعب والوعي. أدرك يوسف أن هذه اللحظة هي البداية الحقيقية لاستعادة ذاته بالكامل، واستعادة السيطرة على كل ما فقده.
وقف يوسف ببطء، ويده على ندبته، وهو يشعر بأن الغرفة المظلمة المحيطة به بدأت تتلاشى تدريجيًا. كل خطوة يخطوها كانت مواجهة مباشرة مع الماضي، وكل خطوة كانت تمنحه وعيًا أكبر بقوة نفسه الحقيقية.
الفصل السابع عشر:
الغرفة الأخيرة
تقدم يوسف ببطء عبر الممر الطويل، والدفتر الأسود محمول في يده كمرشد وحيد. كل خطوة تخطوها قدماه كانت تصدر صدىً عميقًا، وكأن الممر نفسه يتنفس معه، يختبر عزيمته، ويجسّد كل مخاوفه المكبوتة منذ الطفولة.
وصل إلى باب ضخم مصنوع من الحديد القديم، مختلف عن أي باب رآه من قبل. ارتعشت يده وهو يضعها على المقبض، فارتجف كل جسده. تذكر كلمات الطفل: “الندبة هي المفتاح… الحقيقة بانتظارك.” مد يوسف يده إلى ندبته، ومع اللمس شعرت كأنه شحنة كهربائية تسري في جميع أرجاء جسده، وكأن جسده كله استيقظ فجأة من سبات طويل.
دفع الباب ببطء، ليجد نفسه في غرفة واسعة، جدرانها مغطاة بالصور القديمة، المستندات، وأدوات طبية غريبة. في الوسط، طاولة معدنية كبيرة تحيط بها ظلال غامضة، وعلى الطاولة صورة طفله الصغير، مغطاة بعلامات الحبر الأسود. شعور بالدهشة والرعب اجتاحه، لكنه لم يتراجع.
سمع يوسف صوتًا خلفه، التفت ببطء، فإذا بالطفل ذاته واقفًا، عيناه مليئتان بالحزن والغضب في الوقت ذاته. قال بصوت منخفض: “كل ما فاتك… كل ما تم أخذه منك… موجود هنا… الآن عليك مواجهته.”
بدأ يوسف في استعراض الصور والمستندات، كل صفحة تروي جزءًا من تجربته منذ الصغر: التجارب، الألم، الخيانة، والظلام الذي أحاط به سنوات طويلة. كل مشهد كان مؤلمًا، لكنه يكشف له الحقيقة التي طالما حاول عقلُه نسيانها.
مع مرور الوقت، شعر يوسف بالسيطرة تتسرب إلى داخله. كل ذكرى مؤلمة، كل صرخة مكتومة، وكل خوف دفين أصبح الآن جزءًا من قوته. الأصوات المحيطة بالغرفة بدأت تتلاشى، والظلال أصبحت مجرد انعكاسات لما واجهه بالفعل، ليس أكثر.
وقف يوسف أمام الطاولة، وضع يده على الصورة، وأغلق عينيه للحظة. شعر بوخز شديد في ندبته، وكأنها تفتح له بابًا داخليًا جديدًا، لتكشف له السر الأخير: ليس فقط الماضي من كان يحاصره، بل قوة حقيقية كامنة بداخله تنتظر أن يطلقها ليكمل رحلته.
ابتسم يوسف ببطء لأول مرة منذ زمن طويل، مستعدًا لمواجهة كل شيء… لمواجهة الظلام، الحقيقة، وكل الأسرار التي طال انتظار كشفها. كانت الغرفة الأخيرة ليست نهاية الرعب، بل بداية التحول الحقيقي لهويته.
الفصل الثامن عشر:
الضوء الخافت
وقف يوسف في الغرفة الأخيرة، والدفتر الأسود بين يديه، يحدق في كل صورة وكل مستند حوله. كل شيء حوله كان صدىً لماضيه، لكن هذه المرة، بدا أنه يمتلك القوة لفهم كل شيء، لكل لحظة ألم عاشها، لكل صرخة مكتومة.
بدأ الضوء الأصفر الباهت يتسلل من زاوية الغرفة، يكشف تفاصيل لم يلاحظها من قبل: أدوات طبية، دفاتر، وأوراق تحمل ملاحظات دقيقة عن حياته منذ الطفولة. أدرك يوسف أن كل هذه الأشياء لم تكن موجودة ليخيفه فقط، بل لتعلمه، لتكشف له أسرارًا عميقة عن ذاته، عن التجارب التي تعرض لها، عن الظلام الذي حاول أحدهم زرعه داخله منذ البداية.
جلس يوسف على الأرض، يتنفس بصعوبة، وأخذ يمرر يده على ندبته. فجأة، بدأ يشعر بانفعال داخلي غريب، وكأن ندبته لم تكن مجرد علامة جسدية، بل بوابة لكل ما مر به من ألم. ومع كل لمسة، ظهرت أمامه ذكريات جديدة، مؤلمة وقوية، لكنه هذه المرة لم يهرب منها، بل استقبلها بشجاعة.
الطفل ذاته ظهر أمامه مرة أخرى، لكن هذه المرة لم يكن ضعيفًا، بل كان جزءًا من يوسف، انعكاسًا لماضيه الذي طالما خاف مواجهته. همس له: “كل ما خفته، كل ما نسيته… هو ما سيمنحك القوة.”
بدأ يوسف يتنقل بين الصور والدفاتر، كل مشهد يكشف له الحقيقة بالكامل: التجارب، الأشخاص الذين كانوا وراء اختطاف ذكرياته، الأسرار التي حاولت السيطرة على حياته. كل شيء أصبح واضحًا الآن، كل ألم أصبح جزءًا من قوته، كل خوف تحول إلى شعلة تدفعه نحو التحرر.
رفع يوسف رأسه، ونظر حول الغرفة. الضوء الخافت أصبح أكثر إشراقًا، وكأن الغرفة كلها تستجيب لقوة وعيه الجديدة. الأصوات التي كانت تحيط به اختفت تمامًا، تاركة صمتًا مشحونًا بالقوة. أدرك أنه لم يعد طفلًا ضعيفًا عاجزًا، بل رجل يمتلك القوة لمواجهة كل ما جاء به الماضي، لمواجهة الظلام، ولمواجهة أي تهديد مستقبلي.
ابتسم يوسف أخيرًا، مدركًا أن هذه الغرفة لم تكن نهاية الطريق، بل بداية حقيقية للسيطرة على حياته، على ماضيه، وعلى ذاته. كل خطوة تالية لن تكون مجرد مواجهة، بل تحرير كامل لكل ما تم سلبه منه منذ الطفولة، بداية لتحوله النهائي
الفصل التاسع عشر:
المواجهة الكبرى
وقف يوسف في الغرفة المضاءة بالضوء الأصفر، والدفتر الأسود بين يديه، يشعر بقوة غريبة تتسرب إلى داخله من كل ذكرى مؤلمة واجهها. كل الصور، كل المستندات، كل الأدوات حوله لم تعد مجرد دليل على الماضي، بل أداة تمكين تمنحه القدرة على مواجهة الحقيقة النهائية.
سمع خطوات خلفه، التفت ببطء، فإذا بالطفل ذاته يقف أمامه، عيناه تلمعان بالإصرار والحزن معًا. قال بصوت منخفض: “لقد حان وقت المواجهة… كل شيء يجب أن يُكشف الآن.”
اقترب يوسف، مد يدَه إلى ندبته، وشعر بوخز حاد يمتد إلى جميع أرجاء جسده، وكأن ندبته لم تكن مجرد علامة جسدية، بل مفتاح كل ما يخصه: ذكرياته، ألمه، كل الخوف المكبوت. مع كل لمسة، ظهرت له صور حية لأحداث طفولته: غرفة الصف، الرجال في المعاطف البيضاء، التجارب الغريبة، كل صرخة مكتومة، كل لحظة فقدان للبراءة.
بدأ يوسف يصرخ بصوت مرتفع، صرخة تحرره من كل قيود الماضي، وتطلق القوة المكبوتة داخله. الأصوات المكتومة التي كانت تحاصره لسنوات بدأت تتلاشى، والظلال التي كانت تحوم حوله اختفت واحدة تلو الأخرى. أدرك أن كل ما واجهه كان اختبارًا لنفسه، وأنه الآن يمتلك القدرة على السيطرة على كل ما خفي عنه منذ الطفولة.
اقترب يوسف من الطاولة المعدنية، بدأ يراجع الصور والمستندات، كل صفحة تكشف له تفاصيل لم يعرفها، لكنه هذه المرة لم يشعر بالعجز. القوة التي اكتسبها من مواجهة ذكرياته المظلمة منحت عقله صفاءً، وعيًا كاملاً بما حدث له، ومن كان وراء ذلك، وكيف يمكنه استعادة حياته بالكامل.
وقف يوسف في منتصف الغرفة، أغمض عينيه للحظة، وشعر بانفجار داخلي هائل: مزيج من الغضب، القوة، والتحرر. كان الماضي أمامه، حاضرًا، لكنه لم يعد يسيطر عليه، بل أصبح جزءًا من قوته.
فتح عينيه، ونظر إلى الطفل ذاته بابتسامة، مدركًا أن هذه المواجهة الكبرى ليست مجرد مواجهة الماضي، بل بداية لتحول نهائي: استعادة هويته، السيطرة على ذاته، والتحرر من الظلام الذي كان يختبئ داخله منذ سنوات طويلة.
الفصل العشرون:
الخلاص
وقف يوسف في الغرفة الأخيرة، والدفتر الأسود بين يديه، والطفل ذاته يقف أمامه كرمز لكل ذكريات طفولته المظلمة. كل شيء حوله أصبح واضحًا الآن: الصور، المستندات، الأدوات، كل التفاصيل التي شكلت حياته منذ البداية.
مد يوسف يده إلى ندبته، وشعر بوخز شديد يمر في جسده كله. هذه الندبة لم تعد مجرد أثر جسدي، بل كانت المفتاح النهائي لكل ما حدث له. مع كل لمسة، انبثقت ذكريات حية: غرفة الصف، المعاطف البيضاء، التجارب الغريبة، أصوات البكاء المكتوم، كل ألم عاشه، وكل خوف دفين.
ابتسم يوسف بصوت هادئ، هذه المرة بدون خوف، بل بقوة جديدة تتصاعد داخله. أدرك أن مواجهة الماضي لم تعد تهديدًا، بل كانت طريقه للتحرر، طريقه لفهم ذاته كاملة، لاستعادة كل جزء منه حاول أحدهم سلبه.
الطفل ذاته اقترب، وجلس بجانبه، وقال بصوت منخفض: “كل شيء انتهى الآن… القوة داخلك، والحرية بين يديك.”
بدأ يوسف بمراجعة كل المستندات والدفاتر، كل صورة وكل مشهد. كل ما رآه كان يملأه بالقوة، كل ذكرى مؤلمة أصبحت أداة لتحرير ذاته. أدرك أن كل الرعب، كل الألم، كل الظلام، لم يكن ليهزمَه، بل ليجعله أقوى، ليعلمه مواجهة نفسه دون خوف.
وقف يوسف، واتجه إلى النافذة، أدار وجهه نحو ضوء الفجر الباهت الذي بدأ يتسلل إلى الغرفة. الهواء النقي دخل الرئتين، وكأنه يغسل روحه من كل أثر ألم، من كل كابوس، من كل تجربة سرقت منه البراءة.
ابتسم يوسف أخيرًا، ويده على ندبته، مدركًا أن الماضي لم يعد سجنًا له، بل درسًا، قوة، هوية جديدة اكتسبها. كل خطوة تالية في حياته ستكون مواجهة مباشرة للواقع، للظلام، ولأي تحدٍ قد يظهر، لكنه هذه المرة مستعد، قوي، ومتحرر.
جلس يوسف على الأرض للحظة، يشعر بالسكينة لأول مرة منذ طفولته. كل شيء انتهى، لكن كل شيء بدأ أيضًا: بداية جديدة لحياة لم تعد مهددة بأشباح الماضي، بداية لحرية حقيقية، بداية ليوسف الذي أصبح سيد ذاكرته، سيد ذاته، وسيد كل ما يختبئ داخله من قوة وإرادة لا تُقهر.