براعته في الكلام والبيان: "أبو عثمان الجاحظ: شيخ المتكلمين وسيد البيان."

براعته في الكلام والبيان: "أبو عثمان الجاحظ: شيخ المتكلمين وسيد البيان."

Rating 0 out of 5.
0 reviews

براعته في الكلام والبيان: "أبو عثمان الجاحظ: شيخ المتكلمين وسيد البيان"

" أبو عثمان الجاحظ شيخ المتكلمين، إن تكلم حكى " سحبان" في البلاغة، وإن ناظر ضارع "  النظام " في الجدال، وإن جد خرج في مسك " عمر بن عبد قيس"، وإن هزل زاد على " مزبد"، حبيب القلوب، وشيخ الأدب".

" أبو عثمان الجاحظ شيخ المتكلمين، إن تكلم حكى " سحبان" في البلاغة، وإن ناظر ضارع "  النظام " في الجدال، وإن جد خرج في مسك " عمر بن عبد قيس"، وإن هزل زاد على " مزبد"، حبيب القلوب، وشيخ الأدب".

مقال جاد، لا بد منه، لهذا المقام الظريف:

كان التشريع المدني من أهم ما شغل المفكرين الإسلاميين، بعد أن انتشروا في البلدان المفتوحة، وأخذوا من حضارة الأمم الأخرى بنصيب وافر ، لكن النصوص التشريعية المقررة – مهما تناهت في التفصيل – لا يمكن أن تستوعب ظروف الحياة برمتها، لأنها نامية متطورة متغيرة. من هنا اشتدت الحاجة إلى القياس لتطبيق الشريعة بروحها، وازداد اللجوء إلى الإقبال على فنون الحضارة، ولا سيما في الأقطار التي ظلت فيها الحضارة الأعجمية راسخة الأصول، نظير العراق وفارس.

وهذا ما استتبع تفاوتاً في الحاجة إلى الاستعانة بالرأي لاستنباط الأحكام الجديدة. ولم يكن ذلك النزوع إلى التوسع في النظر الفكري مقصوراً على مسألة التشريع وحدها في الرسالة الجديدة، وإنما تناول مسألة العقائد أيضاً؛ فحاولوا التوصل إلى أسسها العقلية، وتعرف أصولها الفلسفية. ولقد أدى ذلك كله إلى ظهور فرق متعددة، كان لكل منها آراء اجتهادية خاصة دافعت عنها بنوع من النظام الفكري المتسق، أطلق عليها اسم (علم الكلام).

وإذاكان الجاحظ إماما من أئمة الكلام، وزعيما من زعماء المعتزلة، وعالما محيطا بمعارف عصره، أصيلها ودخيلها، والعلم والتحقيق، والأخبار والأساطير، وراوية من رواة اللغة وآدابها وأخبارها، فإنه كان فوق ذلك كله، كاتبا أديباً بكل ما تتضمنه هذه الصفة من رهافة الحس، وخصوبة الخيال، وقوة الملاحظة، ودقة الإدراك، والقدرة على التغلغل في دقائق الموجودات، واستشفاف الحركات النفسية المختلفة، والتمكن من العبارة الحية النابضة، والتصوير الكاشف البارع الذي يبرز الصورة بشتى ملامحها وألوانها وظلالها ببساطة وجمال.

وتأسيساً على ذلك فإن الجاحظ فنان أصيل مبدع بكل ما تنفسح له هذه الصفة من معانٍ وقيم وصفات. ولعل أبرز هذه الصفات الفنية التي تشف عنها روح الجاحظ هي الظرف، بكل ما في الظرف من المُزاح والدّعابة والسخرية والمرح والضحك.

والسخرية من أجلى الصفات التي يمتاز بها الجاحظ في كتابته حين يأخذ في النقد والتصوير، بل إنها من أكثرها شيوعاً في آثاره الجمة  المختلفة حتى إن القارئ المتمرس به ما يكاد يبرئ قطعة من قطعه الفنية، أو خبراً من أخباره، من أن يكون مشوباً بروح السخرية. وإن في جوهر تلك العقلية الجاحظية الجبارة، وثنايا هذا العالم الزاخر الفسيح الذي انبسطت عليه أفياء الحقيقة، والتقت فيه ألوان العلوم والمعارف، تتراءى لنا روح الجاحظ، وهي روح مرحة طروب، ونفس فكهة متطلقة، ومزاج متهلل متفائل، وابتسامة وضيئة لا يطغى عليها العبوس.

وما أصل هذه الروح إلا طبيعة الجاحظ ومزاجه النزاع إلى الضحك. لذلك نجده يدعو، باستمرار وإلحاح، إلى الضحك والمزح والفكاهة. ومن ذلك أنه كان يرى أن الميل إلى المُزاح وتقبله إنما يكون من سهولة الخُلُق وسماحة النفس ورحابة الأفق، وهو القائل" من يغضبُ من المزاح إلا كزُّ الخُلُق، ومن يرغبُ عن المفاكهة إلا ضيِّق العَطَن !".

وكان يحامي عن الهزل ويفضل المزح:" أول ما أذكر من خصال الهزل ومن فضائل المزح أنه دليل على حسن الحال، وفراغ البال، وأن الجد لا يكون إلا من فضل حاجة، والمزح لا يكون إلا من فضل غنىً ، وأن الجِدّ نَصَب والمزح جمام، والجدّ مبغضة والمزح محبّة؛ وصاحب الحِدِّ في بلاءٍ، ما كان فيه، وصاحب المزح في رخاء إلى أن يخرج منه.

والجدّ مؤلم، وربما عرّضك لأشدّ منه، والمزحُ مُلِذّ وربما عرضك لألذ منه، فقد شاركه في التعريض للخير والشر، وباينُه بتعجيل الخير دون الشر. وإنما تشاغل الناس ليفرغوا ، وجَدُّوا ليهزلوا ...". ولقد ضحك الجاحظ كثيراً، وأضحك أكثر.

ومذهبه في الضحك والإضحاك هو مذهب الفنان الخالص والعالم العاقل الذي يخلط الجد في الهزل، ويمزج ا لحقيقة الجافة بالنكتة المرحة؛ وهمه في ذلك أن يحبب إلى قارئه مطالعة الكتب؛ فكان لا يني يستطرد ويحشد للموضوع الواحد ما كان يتداعي في ذاكرته من أقوال وأشعار وآراء ونوادر. فكان كما قال القاضي الباقلاني:" يوشّح كلامه ببيت سائر، وفصل نادر أو حكمة ممهدة منقولة، وقصة عجيبة مأثورة". وكان الجاحظ يرى أنه:" لو كان الضحك قبيحاً من الضاحك، وقبيحاً من المضحك، لما قيل الزهرة والحَلْي والقصر المبنيّ كأنه يضحك ضحكاً".

ويعلل الجاحظ أهمية الضحك بأنه " شيء في أصل الطباع، وفي أساس التركيب؛ لأن الضحك أول خير يظهر من الصبي، وبه تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه الذي هو علة سروره ومادة قوته". فنرى بذلك أن ولع الجاحظ بالضحك والفكاهة ما هو إلا من مظاهر نزعته الفنية، يصدر فيه عن طبيعته المرحة وحسه المرهف. ولذلك نراه لا يفتأ يدافع عن الضحك والظرف ويحتج لهما ويلح في إثبات فضلهما، وبيان حسناتهما، ويجعلهما جوهراً في كل ما كتب وألف. وما أكثر ما كان ينبه قارئه إلى ذلك ، فيقول له:" ولك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبين حجة طريفه (أي جديدة)، أو تعرف حيلة لطيفة (أي دقيقة خفيّة) أو  استفادة نادرة عجيبة. وأنت في ضحك منه إذا شئت، وفي لهوٍ إذا مللت الجدِّ". فكان الجاحظ يدرك أن الجد قد يورث الكلل ويُصيب النفس بالسأم والملل، فكان يرى بصدق أنه :" لا بد لمن  استكده الجِدُّ من الاستراحة إلى بعض الهزل". وكان أخوف ما يخافه أن يملّ القارئ كتبه فينصرف عنها، فجعل همه أن يحليها بالنوادر ويطيبها بالمضحكات، ليبقى أبداً" مستفيداً مستطرفاً" وما غايته من ذلك كله إلا أن نستفيد خيرا. فالعلم والمعرفة في نظر الجاحظ متعة وفائدة، فجعل ما يكتبه:" بعضه يكون جماماً لبعض، ولا يزال نشاطه (أي القارئ) زائداً. ومتى خرج من آي القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية سداد. ثم لا يترك هذا الباب – ولعله أن يكون أثقل، والملال إليه أسرع – حتى يفضي إلى مزحٍ وفكاهة، وإلى سخف وخرافة" ولكنه يؤكد تأكيدا لا لبس فيه:" ولستُ أراه سخفاً، إذ كنت إنما استعملت سيرة الحكماء وآداب العلماء". وما ظرف الجاحظ إذاً، إلا عنوان مروءته وأدبه. ولذلك فإننا نراه يؤكد دوما أن غايته من كل ما كتب هو: " الموعظة والتعريف والتفقه والتنبيه"، ويحذر القارئ من أن يغلطه في ما يقرؤه ما يراه، في أثنائه، من مزح لم يعرف معناه، ومن بطالة لم يطلع على غورها، ولأي جد احتمل ذلك الهزل، ولأي رياضة تُجُشِّمَتْ تلك البطالة، فلا يدري حينئذٍ: " أن المزاح جِدّ إذا اجتُلِبَ ليكون عِلَّة للجدّ، وأن البطالة وقار ورزانة إذا تُكُلِّفِتْ لتلك العاقبة". وكان الجاحظ يعلم علم اليقين أن " من كان صاحب علم ممرناً، وأليف تفكير وتنقيب ودراسة، وكان ذلك عادة له، لم يضره النظر في كل فن من الجد والهزل ليخرج بذلك من شكل إلى شكل. لأن الأسماع قد تمل الأصوات المطربة والأوتار الفصيحة والأغاني الحسنة إذا طال ذلك عليها". وما سخرية الجاحظ ، بعدُ، إلا سخرية الذهن الدقيق، والذوق الرفيع المهذب، والفن الخالص. من هنا ندرك مدى الحيوية التي تتميز بها كتب الجاحظ ونوادره، كما ندرك مدى البهاء الذي ينبعث من أدبه فيشع ويسطع بالجمال البسّام الذي يترقرق براقاً ناصعاً ينشر الحبور في الروح، ويُشيع الإنبساط والمرح في النفس. كيف لا، وهو القائل:" والله ما تركت النادرة ولو قتلتني في الدنيا، وأدخلتني النار في الآخرة".

ولكن الجاحظ، مع ذلك، كان يرى أن للضحك مقداراً، وللمزح حداً لا ينبغي تجاوزهما، لأنه:" متى جازهما أحدٌ، وقصر عنهما أحد، صار الفاضل خطلاً، والتقصير نقصاً . فالناس لم يعيبوا الضحك إلا بقدر، ولم يعيبوا المزح إلا بقدر. ومتى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي جُعل له الضحك، صار المزح جداً، والضحك وقاراً".

كذا غلبت النادرة الجاحظ، فكان، كما قال راثيه وأجمع عليه معاصروه ولاحقوه، أظرف المتكلمين ومقيم طريق الظرف أبد الدهر، وإمامه الفدّ فجاء أدبه ظريفاً حافلاً بالنقد التهكمي والهجاء الساخر المضحك اللذين يرومان تنبيه القارئ والسامع إلى العيوب والنقائص " فإن نبهه التصفح لها على عيب قد أغفله عرف مكانه فاجتنبه".

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

478

followings

607

followings

6669

similar articles
-