«أمنمحات الثالث: مهندس ازدهار المملكة الوسطى وباني معجزات الفيوم»
أمنمحات الثالث
صورة لتمثال امنمحات الثالث من المرمر في متحف اللوفر
الحاكم السادس للأسرة الثانية عشرة خلال المملكة الوسطى، حكم خلال العصر الذهبي الذي تميز بالإنجازات الثقافية، الاقتصادية، والمعمارية. تميزت فترة حكمه بالسلام، والاستقرار، والمشاريع المعمارية الكبيرة، وكل منها ألقى الضوء على مهارته وقدرته الإدارية.
الحياة الأولى وتوليه العرش
في عهد أمنمحات الثالث، خضعت مصر لإصلاحات إدارية هامة وحملات عسكرية، ضمنت هذه الجهود أساسًا مستقرًا للحكم المستقبلي. كان شريكًا مع والده لما يقارب من 20 عامًا، وخلالها تولّى مسؤوليات متزايدة وربما حصل على تدريب قيّم في الحكم. تميز الحكم المشترك بالانتقال السلس للسلطة مع تولي أمنمحات الثالث ملكًا على مملكة مستقرة ومزدهرة بعد وفاة سنوسرت الثالث.
مدة الحكم والتسلسل الزمني
تمثال لامنمحات الثالث يرتدي جلد النمر في المتحف المصري
حكم أمنمحات الثالث على الأقل 25 عامًا، وتشير الأدلة إلى أنه ربما حكم 46 عامًا. هذا الحكم الطويل سمح له بالقيام بالعديد من المشاريع الطموحة وأسس بحزم إرثه. وثق حكمه في قوائم الملوك من العصور اللاحقة مثل قائمة الكرنك، أبيدوس، قائمة سقارة، وكذلك في بردية تورين التي تسرد فترة حكم تزيد عن 40 عامًا.
الإدارة والحكم
اتسمت إدارة أمنمحات الثالث بالكفاءة والتركيز على الحكم المركزي. شهد حكمه تعيين مسؤولين مهرة منهم الوزير خيتي ووزير الخزانة "عنخر نوفرت"، الذين أدّوا أدوارًا حيوية في إدارة شؤون الدولة. أشرف هؤلاء المسؤولون على مشاريع البناء، ورحلات التعدين، والبعثات التجارية، في مهام تعكس مدى تطور البيروقراطية.
سجلات المملكة الوسطى مثل المراسلات والعقود تُظهر المستوى العالي من التنظيم الإداري في عهده.
الابتكارات المعمارية وبرنامج البناء
أمنمحات الثالث هو الأكثر شهرة ببرنامجه الواسع للبناء، وخاصة في منطقة الفيوم، حيث أنشأ معابد ضخمة كرّست للإله سوبك (إله التمساح)، كما تم حفر وتوسيع بحيرة موريس، وهو المشروع الذي حوّل المنطقة إلى مركز زراعي خصب.
كانت هذه المشاريع إعجوبة هندسية هيدروليكية ساهمت في أمن الغذاء المصري والازدهار الاقتصادي.
المتاهة ومعابد هوارة
من أشهر إنجازاته إنشاء مجمع المعبد الجنائزي بالقرب من هرمه في هوارة، والذي يُشار إليه غالبًا باسم "المتاهة". احتفى به مؤرخون قدماء مثل هيرودوت وسترابو لعظمته المعمارية. لم تكن المتاهة معبدًا جنائزيًا فحسب، بل مركزًا إداريًا ودينيًا مهمًا.
هرم أمنمحات الثالث
شيد أمنمحات الثالث هرمه الأول في دهشور، والمعروف باسم الهرم الأسود، لكنه عانى من مشاكل في البناء بسبب تسرب المياه الجوفية مما تسبب في عدم الاستقرار.
وبالرغم من هذه التحديات، حوّل أمنمحات الثالث جهوده إلى هوارة، حيث أنشأ هرمه الثاني الذي أصبح مثواه الأخير، وتميّز بتصميم أكثر دقة، وعالج المشكلات التي واجهها في دهشور.
ارتبط معبده الجنائزي بمعبد المتاهة، مما عزز من أهمية هوارة كمركز للنشاط الديني والإداري.
أنشطة التعدين واستغلال الموارد
تميز حكم أمنمحات الثالث بالاستخدام الشامل للموارد الطبيعية، وشملت أنشطة التعدين والمحاجر مواقع رئيسية:
شبه جزيرة سيناء: رحلات إلى وادي المغارة لاستخراج الفيروز والنحاس.
وادي الحمامات: لاستخراج حجر الشست لصنع التماثيل والبناء.
وادي الهودي: لاستخراج الكوارتزيت لصناعة المجوهرات الذهبية.
أسوان والنوبة: للحصول على الحجر الرملي والجرانيت الأحمر والدوليريت لبناء المعابد والتماثيل.
هذه الجهود دعمت مشاريع البناء الضخمة لأمنمحات الثالث وساهمت في الازدهار الاقتصادي للمملكة الوسطى، كما حققت سياساته الإدارية استخدامًا فعّالًا للموارد مما مكّن من تنفيذ مشاريع عامة واسعة النطاق واستصلاح الأراضي في الفيوم، وإنشاء نظام زراعي يدعم الإنتاج ويوفر فائضًا غذائيًا يحقق الاستقرار للمملكة.
البعثات التجارية
أرسل بعثات تجارية إلى بونت ومناطق أخرى، مما أثرى مصر بالبضائع النادرة مثل البخور، الذهب، والمعادن الثمينة.
النشاط العسكري المحدود
بخلاف أسلافه مثل سنوسرت الثالث الذي اشتهر بحملاته العسكرية، شارك أمنمحات الثالث في القليل من الأنشطة العسكرية. سمح السلام والاستقرار في عهده بتوجيه الموارد نحو الإنشاءات، واستغلال الموارد، والتحسينات الإدارية.
الحملة العسكرية الوحيدة المسجلة خلال حكمه كانت بعثة إلى النوبة في العام التاسع من حكمه، ولم تُذكر فيها أي معارك كبرى.
المساهمات الهندسية والعلمية
تُعد بردية ريند الرياضية (بردية ريند الهندسية) من أهم القطع الأثرية في تاريخ الرياضيات المصرية، ويُعتقد أن مؤلفها يعود إلى عهد أمنمحات الثالث. هذه الوثيقة تُظهر مدى تطور المعرفة العلمية في مصر خلال المملكة الوسطى.
الأسرة والخلافة
تزوج أمنمحات الثالث من الملكة "مرسعنخ الثالثة" و"حتحورنفرو". دُفن كلاهما في هرم دهشور، ويُحتمل أن ابنته "سبك نفرو" كانت خليفته بعد وفاة "أمنمحات الرابع" الذي حكم لفترة قصيرة.
كانت سبك نفرو أول امرأة تتولى العرش في الأسرة الثانية عشرة.
الإرث الفني
مساهمات أمنمحات الثالث الفنية تشمل نحو ثمانية تماثيل تتراوح بين الواقعية التعبيرية والأشكال المثالية. هذه الأعمال تعكس انحرافًا عن التقاليد الصارمة للأسر السابقة وتُظهر اهتمامًا أكبر بتفاصيل الملامح الإنسانية.
استُخدم في منحوتاته الحجر الرملي، والديوريت، وسبائك النحاس، مما يدل على تنوع الأدوات والأساليب الفنية في عهده.
الإرث والتأثير التاريخي
ترك حكم أمنمحات الثالث الطويل والمثمر تأثيرًا عميقًا على مصر. ابتكاراته المعمارية، خصوصًا في الفيوم وهوارة، وضعت معايير جديدة للبناء.
سياساته الاقتصادية والإدارية وإدارته الحكيمة للموارد حققت ازدهارًا واسعًا، بينما سمح استقراره الداخلي بازدهار المملكة ثقافيًا وماديًا.
ورث خلفاؤه مصر مزدهرة، مما جعل عهده فترة حاسمة في تاريخ المملكة الوسطى.
الخاتمة
حكم الفرعون أمنمحات الثالث يمثل ذروة إنجازات المملكة الوسطى. مشاريع البناء الضخمة، والإصلاحات الإدارية، والسياسات الاقتصادية شكلت إرثًا من الازدهار والابتكار.
ورغم قلة نشاطه العسكري، إلا أن تركيزه على السلام والتنمية الداخلية جعل مجتمعه من أكثر عصور مصر استقرارًا وازدهارًا.
يظل أمنمحات الثالث شخصية محورية في تاريخ مصر القديمة، وقد اكتمل في عهده النشاط المعماري والحركة الثقافية.
