شتاء الغربة (مذكرات)
فجر الرابع عشر من ديسمبر..
الشتاء غريب هذه السنة .. و أنا أغرب مما كنت ..لست في خط الإستواء و لا توجد رمال الخيران ( مجرى مياه الامطار ) حولي .. المباني عالية مخيفة ، هادئة ،لم أعتد وحشتها.. غرفتي في الطابق الثاني تطل على شارع الشهّارين قليل المارة ..تستمتع القطط لوحدها بالكآبة المحيطة و بقايا الطعام غير الملائم لها ..ليست غرفتي العظيمة محرابي للتعبُّد و ملتقى أصدقائي العابسين ..حديقتي للتنزه و رمالي للسمر .. خلوتي المبنية من الجالوص المزخرفة بالشقوق المعبرة عن دواخلي ..
تركت مرتبة الاسفنج التي زادت من وحشتي و جعلت من المجلس (الكنبة) متكأ لي ..
لا أطفئ هاتفي ابداً .. حفظت إيقاع أنفاس زملاء السكن الغارقين دائما في سُبات عميق و أشاهد معهم أحلامهم التي لن تتحقق ..
أصارع واقعي بذكرياتي لكنها مخيفة تلك الذكريات المُرة المنفية بأمري و الثائرة علي..
أتعرى أمامي مني و أراني باهتاً كاللامعنى ..
كيف لتلك الفتاة ألا ترى نقاء هذه الروح و معاناتها .؟
ألا تسمع هذا الأنين المخفي داخل مزاحي لها .. ؟
هل تستمتع برؤيتي منهزماً و أنا أغازل أطيافها السائحة في فراغ الخرطوم؟
بين الجبل و مقرن النيلين تتمايل أسكنها و تسكنني و بيننا النيل من منابعه الى مصبه بعدا
ليست الوحيدة التي لا ترى و تزيد مني بهتاناً و زيفا ..
تحيط مرقدي الوحشة بأفكار أخرى و تكهنات لا علم لي بمصدرها ..
مثلاً مهاتفة ذلك الرجل الجميل النقي طيب القلب لي و مدحه الدائم و نظراته المليئة بالأمل كأنه يعلم كل شئ .. هو ملاك للآخرين أما بالنسبة لي فهو كائن متوحش ..
لأنه لم يرى إنكساري و إنهزامي و وحشتي و ضعفي و قلة حيلتي يراني فقط كما يريد هو ..
يا ترى هل هذا الأمر خفي لهذه الدرجة.؟
هل أنا الوحيد الذي يستطيع رؤية هذا الشئ ؟ و في الأساس هل يوجد شئ ؟
في هذه اللحظة ذلك الرجل الأعرج الغني الذي يرمق الجميع بنظراته الغريبة التي تطال المصلين عندما يأتون للمسجد الذي بناه على نفقته يرفع آذان الفجر و ينهي تساؤلاتي مؤقتاً .