ليلة الفاجعة كما عشتُها...
ليلة الفاجعة كما عشتُها...
في مساء يوم الجمعة 22 صفر 1445 هـ/ 8 شتنبر 2023، في تمام الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق (23:10) وأنا بمكتبي بالبيت أحرر مقالاتي وأتصفح الإنترنيت كعادتي، وكان عَشاؤنا جاهزا. وبينما أنا على هذه الحال أحسستُ بقوةٍ أزت البيت أزا، وحجوتُ مكتبي مصعدا يقلني إلى طابق علوي في عمارة شامخة. ودلني صوت الأسقف على أن الأرض اعتراها زلزالٌ عنيفٌ، وفرت الزوجة من حيث تقعد قاصدة الصغيرين، وفي لحظة وجيزة أمسكت بهم كافة ولزمنا موضع باب المكتب لا أسفل السقف، وهو سلوك يحد من خسائر الأرواح حين يتعلق الأمر بطابق واحد، وأنى لذلك أن يفيدنا ونحن في عمارة تضم ثلاثة طوابق فضلا عن الطابق تحت أرضي؟! ولكنها غريزة حب البقاء. حينها كنا نردد "باسم الله، الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله"، وقد اعترانا رعبٌ لم نشعر بمثله قط. وكانت نظراتُ ابني الصغير تقول لي: ما الخطبُ؟ وكان يصوبها إلى تارة وإلى أمه تارة أخرى دون أن ينبس بأي كلمة، وهو يعلم أنه لم يقترف أي شيء، وما زاد تشويشه أنه لا يجد لسؤاله أي جواب.
غير بعيد سمعنا عويلا وولولةً، تلاها هروب جماعي عشوائي ففكرنا بدورنا في الانصراف، ولكن باب الشقة موصدٌ، وما زاد تشويشنا أن الباب مغلقٌ بإحكام رغم فتح أقفاله. فتحته الزوجة بعنف، ولا تدري كيف فُتح، وانصرفتْ حاملة الابن الصغير، فانصرفتُ بعدها حاملا الابن البكر، وفي ذلك مجازفة أيما مجازفة.
في مدخل العمارة التي نقطنها دراجات هوائية لأبناء الجيران، وقد أسقط رج الأرض إحداها، وفي لحظة خروجي حاملا الابن وقعتْ قدمي بين الأقطاب الحديدية لعجلتها فكبحت ركضي كبحا، وسقطتُ أرضا، وحالت دراعي دون ارتطام رأس الابن بالأرض. ومن تلك القوة العنيفة اعترى ساقي وأصابع قدمي جرحٌ عميقٌ لم أشعر به حتى حشرَنا القدر الإلهي في ساحة 20 غشت بتارودانت.
من الجيران من أخرج سيارته في لحظة وجيزة وجمع أفراد أسرته كافة فغادر المكان. ومنهم من فر دون أن يحدد وجهته، وآخرون في حشود يُطمئِن بعضُها بعضًا، وفي يد كل منا هاتف يتصل بمخاطب ما من دون جدوى.
قصد الجميعُ ساحةَ 20 غشت، وفي أكتافهم بعض الأفرشة، وقليل منهم من سوى جُبَّتَه، ومنهم من خرج من دون نعال، وصلنا الوجهة المقصودة، وملامح كل منا توحي بالهلع والتوتر. وفي تلك الساحة وقعت عيناي على أناس عرفوا حقا معنى الرأفة، كما وقعت عيناي على أناس أدركوا معنى التآزر، وآخرين اكتفوا بحمل ما يرونه أغلى ما عندهم. فهذا رجل يخرج جوادين ويسوقهما بين الناس قاصدا المكان الآمن لحياته وحياة الجوادين. وهذه فتاة تحمل قفصا به عصفوران، وآخرون يشاركون الأفرشة مع مَن خرج من دون فراش، ... بعد دقائق معدودات عرف المكان اكتظاظا بانضمام أناس آخرين، كما حلت به عناصر من رجال الأمن.
أمضينا ما تبقى من تلك الليلة هناك، وقد تركنا في البيت عشاءَنا، وكان الجو باردا، وكنتُ رفقة أسرتي الصغيرة غير بعيد عن موضع قعود جيراننا. نام من نام وسهر من سهر. وفي تلك اللحظات أمعنتُ النظر في تلك الجروح التي أحدثتها في ساقي أسلاك العجلة التي أسقطتني أرضا في لحظات زلزلة المنازل. لقد كان همي كان عميقا، ولم أولِ لها أي اهتمام، ولم أبد تجاهها أي قلق. هناك تعرفنا على أسرة وافدة من إيغرم، تقول سيدة منها إنهم رغبوا في السفر لزيارة عائلة بتارودانت، وكانوا مترددين في سفرهم، أيسافرون يومه أم يؤجلون السفر، ولكن استقر لهم الرأي على السفر يوم الثامن من شتنبر ليشهدوا الخطب كما شهدهم غيرُهم. إنهم يريدون ونحن نريد، والله يريد، ولم يكن سوى ما يريد.
سمعنا أذان الفجر، وعدنا حيث انصرفنا، ولكن السهوم لم يفارق وجوهنا. تركتُ الصغار رفقة أمهم، وانصرفت قاصدا المسجد بعد أن طمأنتهم أن المنزل سليم من التصدعات. رأيت رأس مئذنة الجامع الكبير مخربا، وجانبها قد انزاح قليلا عن المسجد، وتذكرتُ جهودَ السعديين في تشييد هذه المعلمة الدينية العريقة، وازداد توتري ودخلت المسجد.
كان صوتُ الإمام على غير عادته؛ صوت يعبر عن هول وفاجعة يعلم الله كيف قضى ليلته بدوره. ولما انفلتنا من الصلاة، تأملت دعائم المسجد الكبيرة، وهي دعائم سميكة بنيت بالجبس والحجارة على يد أمهر العمال في العهد السعدي بالمدينة. ولاحظت أن جلها سليم، وبعضها اعتراه تشوه خصوصا في القاعدة.
عدتُ إلى منزلي ونمت نوما عميقا من تعب وأرق شديدين. ثم حل الصباح ورأيت سلوكات الرودانيين وهم في طوابير بالمخابز وقد اعتراهم هيجانٌ لم أرَ مثله قط، إذ عرفتِ المدينةُ أزمةً في الخبز خلقها أناسُها، وكلما بحثت عن مخبزة وجدتُ الطابور بها أطول من سابقه، وبعد بحث مضن تمكنت من إحضار الخبز.
علمتُ أن السكان في البوادي التابعة للإقليم في حالة يرثى لها، ويعانون الويلات من كل ناحية: جوع، وتعب، وعطش، ومبيت في العراء. فكيف لمن خلق أزمة في الخبز وسط المدينة التي لم تسجل أي خسارة في الأرواح أن يبعث الخبز لمن هم في أمَس الحاجة إليه؟!
دامت أزمة الخبز قرابة ثلاثة أيام، وتمكنا من صنع الرغيف بالبيت على عادتنا، ولكن الفضول تملكني لأرى تصرف الناس أمام المخابز، وقد رأيت أناسا أحضروا أكياسا كبيرة كما لو كانوا يستعدون لزفاف أو عقيقة، وقد أعجبني سلوك عامل في مخبزة عتيقة غير بعيدة عن مقر سكني حين حدد لكل زبون خمس خبيزات مهما كان طلبه. وثمة أفران عصرية تبيع الخبزة الواحدة بثلاثة دراهم ونصف، وفيها رأيت العراك والخصام لا لشيء إلا لسوء تنظيم الدور!
أخبرني أبي بهول الكارثة التي حلت بقرى تابعة لإقليم تارودانت، تلك الكارثة التي أودت بحياة أناس، وبهائم، كما أسقطت بنايات عمرت قرونا. وثمة قرى لقي فيها ساكنوها حتفهم كافةً، وثمة قرىً لم ينجُ من الفاجعة بها سوى رجلٍ أو طفلٍ واحدٍ.
قضى جل ساكنة المدينة ثلاث ليال بعد ليلة الفاجعة، فضلا عن ليلة أخرى بعد مرور أسبوع، وفي ذلك ضربٌ من التشاؤم خصوصا لدى ضعاف الإيمان. في تلك الليالي الثلاث لم يهدأ بال للمغاربة من مختلف ربوع المملكة، فانهالت على القرى شاحنات محملة بالأغطية والمواد الغذائية، وتتوالى سيارات الإسعاف بصوت منبهاتها لنقل الجرحى إلى مشفى المختار السوسي، وما أحدثته تلك الأصوات في أسماعي فذاك حديث آخر.
آلمني جدا ما شهدته من تصرفات من قِبل بعض الناس من رمي لمخلفات الأطعمة في أرضية الساحة، وثمة مخلوقات أخرى تستغل الفرصة لسرقة حقائب النُّوم من الناس، وبينما أنا أراقب صغاري - في ليلة من تلك الليالي الثلاث- وقد ناموا نوما عميقا بعد لعب بريء ساعات طوالا، سمعت نشالا قال لزميله وهما يتجولان في الساحة: "نام الجميع".
استفحلتْ روحُ التضامن بين المغاربة كافةً، كما استفحل الجشعُ من لدن قساة الأفئدة الذين تملَّكهم الطمعُ للحصول على مواد غذائية، وأفرشة، وخيام كانت وجهتها المناطق المنكوبة، وتم تحويل مسار الشاحنات التي تقلها إلى وجهات غير معنية. ولست أدري كيف يحلو لأولئك طعم ما تم حصوله من دون استحياء ولا حشمة.
وعلى ذكر المساعدات المادية كانت بلدتي ضمن القرى التي وصلتها تلك المساعدات، ولحسن الحظ أن الخسارة شملت العمران لا الناس، وكانت ترتاد مصحة بالمدينة كل ثلاثاء وكل جمعة بحكم استفادتها من حصص الغسيل الكلوي، وقد أتتني ذات يوم بكمية قليلة من التمور تقول إنها حصلتها من بعض المساعدات التي وزعت على الناس ببلدتي، وهي تمور عادية، ولكن وقعها في نفسي كبير، وكلما وقعت عليها عيناي بالمطبخ تذكرت ما يكابده الناس في الخيام، كما تذكرت المضاضة التي يكابدها من فقد أحبته في ثوان معدودات.
بلغني أن منطقة أنزال- جماعة تيزي نتاست، نالت نصيب الأسد في الخراب، ومن ساكنتها طالبٌ من قدامى معهد محمد الخامس للتعليم الأصيل -وكان من تلامذتي القدامى- وأخبرني خلال تواصلي معه أنه فقد شقيقه وأمه، كما اعترت جروح بليغة أباه أدخلته في غيبوبة أياما عدة، وقد آلمني جدا ما أصاب التلميذ من صعوبة في النطق ومن مضاضة نفسية لا يشعر بها سواه. كما أن طالبا آخر من البلدة نفسِها أصيب بسكر في ساقه عجل بنقله إلى المشفى. وكلا الطالبين استعاد عافيته الآن، وأحمد الله تبارك وتعالى على ذلك.
ما آلمني اليوم أن الفاجعة مر عليها حول كامل بالتمام والكمال، ولا تزال أسرٌ عديدة تقطن الخيام. وسبحان مدبر الأحوال، عاش الأطلس الكبير فاجعة الزلزال في الثامن شتنبر، ويمر حولٌ ليعيش الجنوب الشرقي في التاريخ نفسِه فاجعة الفيضان. نسأل الله أن يتقبل عمل كل من مد يد العون لمتضرري الفاجعتين، وأن يتغمد الشهداء كافةً بواسع رحمته، ويرزق ذويهم الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون.