
وكنت أظنك لى
وكنت أظنك لى
لم أكن أؤمن بالصدف كثيرًا، لكن لقائي بك جعلني أراجع كل ما آمنت به من قبل. كنتُ أعتقد أن الناس يأتون في حياتنا ثم يمضون، بلا أثر يذكر، غير أن حضورك كان مختلفًا، كأنك وُجدت لتُحدث الفوضى الجميلة التي لم أعهدها من قبل.
كان أول لقاء بيننا عابرًا، لم أتوقع أن يمتد الخيط الرفيع بيننا إلى هذا الحد. صوتك الذي تسلّل إلى أعماقي، وضحكتك التي كانت تُشبه المطر حين يلمس أرضًا عطشى. شيئًا فشيئًا، صرتَ أنتَ الحديث الذي لا ينتهي، والفكرة التي لا تغادر رأسي، والنبض الذي يعيدني إلى الحياة بعد كل انكسار.
كنتَ لي الحلم المؤجل، والوطن الذي طالما بحثت عنه بين الوجوه، والمرفأ الذي ظننت أنّه سيحميني من تيه الدنيا. كنتَ لي معنى الأمان، وصوت الاطمئنان في داخلي حين يضج العالم من حولي. وكنتُ أظن أنني أخيرًا وجدت الشخص الذي أستطيع أن أتكئ على كتفه دون خوف من سقوطٍ جديد.
كنتُ أحكي لك عن ضعفي، عن مخاوفي، عن كل ما يؤلمني، وكنتَ تستمع وكأنك خُلقت فقط لتكون لي. حتى أنني صدّقت وهمي، وظننتك حقًا لي. كل مساء كنتُ أكتب لك رسالة لا يقرؤها سواك، رسالة من قلبٍ أعطاك نفسه دون قيد أو شرط.
لكن شيئًا ما تغيّر. لمحتُ في عينيك ذلك الغياب الذي لا يخطئه عاشق. لم تعُد كلماتك لي كما كانت، ولم تعُد تبتسم لتفاصيلي الصغيرة كما اعتدت. كان الفتور يتسلل بيننا بهدوء، كخنجرٍ بارد يمر على القلب دون أن يترك دمًا، لكنه يترك وجعًا لا يُحتمل.
وذات مساء، قلتها ببساطة، وكأنك لم تكسر شيئًا بداخلي: “لم أعد أراك كما كنت، وربما لم تكن لي يومًا كما ظننتِ.”
تجمدتُ مكاني، لم أعرف بماذا أجيب. كيف لإنسانٍ أن يُطفئ بضع كلمات نارًا أشعلها في روحك منذ زمن؟! كيف له أن يمضي بخفة، بينما يتركك غارقًا في عمق الخيبة؟ كنتُ أريد أن أصرخ، أن أتمسك بك، لكني شعرت أن أي كلمة ستخرج من فمي ستزيدني انكسارًا.
ليالٍ طويلة قضيتها أفتش في ذكرياتي معك، أبحث عن اللحظة التي انطفأ فيها كل شيء. هل كان خطئي أنني أحببتك أكثر مما يجب؟ أم كان خطئي أنني صدّقت أن الأحلام يمكن أن تصبح حقيقة؟ كنتَ حاضرًا في كل تفاصيل يومي، حتى في غيابك. كنتُ أراك في الكتب التي أقرؤها، في الأغاني التي أسمعها، في الطرقات التي أسير فيها. حتى الفراغ صار يحمل ملامحك.
مرت الأيام بعدها ثقيلة، لم يعُد العالم كما كان. كل الأغاني أصبحت تُذكّرني بك، كل الأماكن صارت غريبة دونك. حتى كوب القهوة الصباحي لم يعُد له الطعم ذاته. كنتُ أحاول أن أُقنع نفسي أنّني أقوى من غيابك، لكن الحقيقة أنني كنتُ أُهزم في كل ليلة أمام ذكراك. كنتُ أبكي بصمت كي لا يراني أحد، وكأنني أخشى أن ينكشف ضعفي أمام العالم.
واليوم، وبعد مرور وقت لا يُحصى، جلستُ أكتب عنك. أكتب عن الحلم الذي انتهى قبل أن يكتمل، عن الوجع الذي علّمني أن لا شيء في هذه الحياة يُؤخذ كأمرٍ مُسلَّم به. أكتب عنك لأنّ الكتابة وحدها تُعيدني للحياة، ولأنني حين أكتب، أستطيع أن أصرخ دون أن يسمعني أحد.
كنتَ البداية التي منحتني الأمل، والنهاية التي منحتني الدرس. واليوم لم أعُد ألومك كما كنتُ أفعل، بل ألوم نفسي لأنني سلّمت قلبي لليدين الخطأ.
وها أنا أضع النقطة الأخيرة في حكايتي معك، وأهمس في داخلي:
“وكنتَ أظنك لي... لكنك لم تكُن سوى غريبٍ عابرٍ تركني أتعلم أن لا أحد يبقى إلى الأبد.”