
أوبنهايمر: العقل الذي فجّر العصر النووي
النشأة والبدايات العلمية
وُلِد ج. روبرت أوبنهايمر في نيويورك عام 1904 لعائلة يهودية ألمانية مهاجرة. كان والده رجل أعمال ناجحًا في مجال المنسوجات، بينما كانت والدته رسامة. نشأ في بيئة ميسورة نسبيًا ساعدته على التفرغ للدراسة، وقد أظهر منذ صغره نبوغًا استثنائيًا في العلوم واللغات.
التحق بجامعة هارفارد حيث برع في الفيزياء والكيمياء واللغات الكلاسيكية، ثم أكمل دراسته في جامعة كامبريدج، قبل أن يتجه إلى جامعة غوتنغن الألمانية حيث تتلمذ على يد الفيزيائي الشهير ماكس بورن. هناك أسهم في تطوير ميكانيكا الكم، ونشر عدة أبحاث مهمة جعلت اسمه يتردد في الأوساط العلمية.

المسيرة الأكاديمية
بعد عودته إلى الولايات المتحدة، شغل أوبنهايمر منصب أستاذ في جامعة كاليفورنيا في بيركلي ومعهد كاليفورنيا للتقنية. تخصص في الفيزياء النظرية، وركز أبحاثه على مجالات متعددة منها الإلكترونات، الإشعاع الكوني، والثقوب السوداء، حيث كان من أوائل من أشاروا إلى فكرة "النجم المنهار" التي أصبحت لاحقًا أساس مفهوم الثقوب السوداء.
مشروع مانهاتن ودور أوبنهايمر
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، زاد القلق في الأوساط العلمية الأمريكية من احتمال أن ينجح العلماء الألمان بقيادة هايزنبرغ في تطوير قنبلة ذرية. ولهذا السبب، أطلقت الحكومة الأمريكية مشروعًا سريًا سُمّي "مشروع مانهاتن" سنة 1942، وكان الهدف منه تطوير سلاح نووي قبل ألمانيا.
تم اختيار أوبنهايمر ليكون المدير العلمي للمشروع، رغم بعض الشكوك حول خلفيته السياسية وصلاته السابقة باليسار الأمريكي. نجح في جمع نخبة من العلماء مثل إنريكو فيرمي وريتشارد فاينمان ونيلز بور، وأدار مختبر لوس ألاموس في ولاية نيومكسيكو.
في يوليو 1945، أُجري أول اختبار للقنبلة الذرية تحت اسم "ترينيتي"، وهو الحدث الذي غيّر مسار التاريخ. وبعد أسابيع قليلة، أُلقيت قنبلتا هيروشيما وناغازاكي على اليابان، ما أدى إلى إنهاء الحرب العالمية الثانية.
الصراع الأخلاقي
رغم نجاح المشروع، عاش أوبنهايمر صراعًا نفسيًا وأخلاقيًا عميقًا. فقد أدرك أن السلاح الذي ساهم في تطويره تسبب في مقتل مئات الآلاف من المدنيين. يُنقل عنه أنه استحضر مقولة من "الباغافاد غيتا"، الكتاب المقدس الهندوسي: "الآن أصبحتُ الموت، مدمّر العوالم."
بعد الحرب، أصبح رئيسًا للجنة الاستشارية للهيئة الأمريكية للطاقة الذرية، ودعا إلى وضع قيود دولية على انتشار الأسلحة النووية. لكنه عارض تطوير القنبلة الهيدروجينية، ما جعله عرضة لهجوم سياسي في فترة المكارثية (الخمسينيات). وفي عام 1954، سُحبت منه التصاريح الأمنية بعد جلسات تحقيق مثيرة للجدل اتهمته بعدم الولاء.
الإرث العلمي والفكري
رغم الجدل السياسي، ظل أوبنهايمر عالمًا بارزًا ومحاضرًا مُلهِمًا. فقد ساعد في تأسيس معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، الذي أصبح لاحقًا مقرًا لألبرت أينشتاين وغيره من كبار العلماء.
علميًا، كان لأوبنهايمر إسهامات في ميكانيكا الكم وفيزياء الجسيمات والنسبية العامة. أما على المستوى الإنساني والسياسي، فقد جسّد التناقض بين عبقرية العلم وقوة الأخلاق، إذ عاش طوال حياته بين المجد العلمي والندم الأخلاقي.
الوفاة والتكريم
توفي أوبنهايمر عام 1967 بمرض السرطان، لكن إرثه ظل حاضرًا. ففي عام 2022 أعادت الحكومة الأمريكية رسميًا الاعتبار له بإلغاء قرار سحب التصريح الأمني الذي لحق به في الخمسينيات. كما ألهمت سيرته كتبًا وأفلامًا، كان أبرزها فيلم "أوبنهايمر" (2023) للمخرج كريستوفر نولان، الذي أعاد تسليط الضوء على حياته ومأساته الإنسانية.
خاتمة
يظل روبرت أوبنهايمر شخصية معقدة تجمع بين العبقرية العلمية والدراما الإنسانية. فقد ساهم في إنهاء الحرب العالمية الثانية لكنه فتح الباب أمام سباق التسلح النووي الذي هدد البشرية كلها. إن سيرته تذكير حي بأن العلم، مهما بلغت عظمته، لا ينفصل عن القيم الأخلاقية، وأن القرارات التي يتخذها العلماء قد تغيّر مصير العالم بأسره.