عبد الله ابن سبأ: بين الحقيقة والأسطورة

شخصية تاريخية بين الحقيقة والأسطورة
تمثل شخصية عبد الله بن سبأ واحدة من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي المبكر. فهو في الرواية التاريخية السنية يمثل المحرك الخفي للفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان بن عفان ووقوع معركة الجمل وصفين، بينما ينفي كثير من المؤرخين الشيعة وجوده من الأساس، ويعتبرونه شخصية مختلقة لتحميل المسؤولية عن الأحداث الدامية التي شهدتها تلك الفترة. تقع شخصية ابن سبأ في منطقة رمادية بين التاريخ والأيديولوجيا، مما يجعل دراسة سيرته اختباراً لفهم كيفية كتابة التاريخ وتأثره بالصراعات المذهبية والسياسية.
من هو عبد الله بن سبأ؟ المصادر والرواية التاريخية
بحسب معظم المصادر التاريخية السنية، مثل كتاب "تاريخ الطبري" و "أنساب الأشراف" للبلاذري، فإن عبد الله بن سبأ كان يهودياً من صنعاء باليمن، أظهر الإسلام في عهد الخليفة عثمان بن عفان. يُنسب إليه أنه بدأ بالترحال بين الأمصار الإسلامية (مثل الكوفة والبصرة ومصر والشام) داعياً إلى أفكار جديدة ومثيرة للقلق.
أبرز ما تُنسب إليه هذه المصادر من أفكار هي:
1. الوصية والرجعة: ادعى أن النبي محمداً (ص) سيعود إلى الدنيا، كما يعتقد المسيحيون في عودة المسيح، وهي فكرة "الرجعة" التي لم تكن معروفة في الإسلام آنذاك.
2. الوصاية لعلي: قال بأن لكل نبي وصياً، وكان وصي النبي محمد هو علي بن أبي طالب، متهمًا بأن الخلفاء الثلاثة السابقين قد اغتصبوا هذا الحق.
3. الغلو في علي: في مرحلة لاحقة، وصل به الأمر إلى القول بألوهية علي بن أبي طالب، وهو ما يُعرف بـ "الغلو"، وقد روى المؤرخون أن علياً نفسه، عندما بلغه هذا القول، أمر بحرقه وأصحابه بالنار عندما أنكروا الرجوع عن قولهم.
هذه الرواية تصوره كعقل مدبر استطاع استغلال الاستياء الشعبي المتصاعد ضد سياسات عثمان بن عفان، وحوله من احتجاج سلمي إلى ثورة مسلحة انتهت بقتل الخليفة.
الجدل حول وجوده: بين الإنكار والإثبات
الخلاف حول شخصية عبد الله بن سبأ هو أحد أعمدة الخلاف التاريخي بين المدرستين السنية والشيعية.
· الرأي السني (مؤيد للوجود): يستند أهل السنة إلى كثرة الروايات التي ذكرتها المصادر التاريخية المبكرة والمعتبرة عندهم.他们认为 أن هذه الروايات متواترة المعنى، وتشكل ركيزة أساسية لفهم كيفية تحول الصحابة على عثمان وكيف تم تنظيم الحركة التي حاصرته في بيته. يرون أن إنكار وجوده هو محاولة لتبرئة الفاعلين الحقيقيين في تلك الأحداث المصيرية.
· الرأي الشيعي (نافٍ للوجود): ينفي العديد من المؤرخين والعلماء الشيعة، قديماً وحديثاً، وجود عبد الله بن سبأ من الأساس. ويستندون في ذلك إلى عدة حجج:
· ضعف السند: يرى الباحثون الشيعة أن جميع الروايات عن ابن سبأ تصل إلى راوٍ واحد هو "سيف بن عمر التميمي"، الذي اتهمه الكثير من علماء الجرح والتعديل، حتى السنة، بالكذب والوضع والضعف.
· الاختلاق السياسي: يعتبرون أن شخصية ابن سبأ مختلقة من قبل سيف بن عمر وأمثاله، بتواطؤ من السلطة الأموية، بهدف تشويه صورة الثورة على عثمان وتحويلها من حركة احتجاج شرعية قادها صحابة أجلاء إلى مؤامرة يهودية خبيثة. وبذلك يتم تحميل المسؤولية لشخصية وهمية بدلاً من تحميلها للصحابة الذين خرجوا على عثمان.
· عدم وجود ذكر في مصادر معاصرة: يشيرون إلى أن الأحداث المهمة مثل مقتل عثمان ووقوع معركة الجمل لم يرد فيها ذكر لابن سبأ في روايات أخرى أكثر قرباً من الزمن مثل روايات الشيخين المفيد والمسعودي (في بعض كتبه).
الدور التاريخي المنسوب له وأثره على الأحداث
بغض النظر عن حقيقة وجوده، فإن الدور الذي نسجته له المصادر التاريخية كان محورياً في تفسير أحداث الفتنة. يُصوَّر ابن سبأ على أنه:
· صانع الرأي العام: استغل السخط الاقتصادي والسياسي ضد سياسة عثمان في تعيين أقاربه (بنو أمية) في المناصب الهامة، وصاغ هذا السخط في قالب عقائدي، يحول الخلاف من اجتهادات سياسية إلى قضية دينية تتعلق بالوصاية والإمامة.
· منظِّر الثورة: يعتبر المؤسس الفكري لأول حركة معارضة منظمة في التاريخ الإسلامي، حيث قام بإرسال الرسائل والدعاة إلى الأمصار لتنسيق الجهود ضد الخليفة.
· ناشر بدعة "الغلو": تُنسب إليه بدعة الغلو في أهل البيت، والتي تطورت لاحقاً إلى عقائد لفرق شيعية مثل "السبئية"، والتي يعتقد بعض المؤرخين أنها نواة للفرق الغالية later on.
الخاتمة: بين أسطورة التأسيس وحقيقة التأثير
تبقى شخصية عبد الله بن سبأ لغزاً تاريخياً عصياً على الحل. بين مؤرخ يرى فيه اليد الخفية التي قلبت موازين التاريخ الإسلامي، ومؤرخ آخر يراه شبحاً اختلقه الرواة لملء الفراغات في رواية الأحداث وتعقيدها.
الحقيقة التي لا خلاف عليها هي أن "فكرة ابن سبأ" – بغض النظر عن كونه شخصاً حقيقياً أم لا – قد ترسخت في الوعي الجمعي الإسلامي وأثرت بعمق في كتابة التاريخ وتشكيل الهوية المذهبية. لقد أصبح رمزاً للمؤامرة الخارجية، وللتدخل الأجنبي (اليهودي تحديداً) في شؤون الأمة، ولبدعة "الغلو" التي حاربها أئمة أهل البيت أنفسهم.因此، فإن دراسة عبد الله بن سبأ ليست دراسة لشخصية تاريخية فحسب، بل هي دراسة لنمط في كتابة التاريخ وكيف يمكن لرواية ما أن تصبح حقيقة مؤثرة، حتى لو كانت أسطورة.