“حمام الدور الرابع”
“حمام الدور الرابع”

حمامات الكلية بتاعتنا مسكونة.. ده اللي قالته جيسيكا صاحبتي اللي في سنة رابعة، وبما إني لسة في سنة أولى فكان لازم اسمع من اللي أكبر مني بكل خضوع، ومين فينا مدخلش الكلية وكان زي التايه في البحر، وطالب سنة رابعة بالنسباله كان طوق النجاة اللي فيه بوصلة هتوجهه ناحية الشط..
ابتسمت على كلامها بس هي ركزت أوي على فكرة إن كل الطلاب في الكلية بتاعتنا عارفين الموضوع ده، لا وكمان كذا طالبة حصلتلهم مشاكل وأغمى عليهم في حمام الكلية..
بس أنا مكنش عندي أي مشكلة في الموضوع ده أصلًا، لان مدرجات الكلية بتاعتنا كانت في مكان بعيد عن مبنى الكلية، غير إن لكل مدرج حمام، ومبنى الكلية تقريبًا مهجور، هتلاقي فيه مكاتب المعيدين والدكاترة اللي مبتتفتحش أصلًا، وأنا مش الطالبة الدحيحة اللي كل شوية هتروح للمعيدين مكاتبهم يعني، تقريبًا مش هدخل المبنى ده أصلًا لحد ما اتخرج..
وأهي هعتبرها حكاية زي أي حكاية ومع انشغالي بالكلية تناسيت تمامًا الموضوع، وبدأت رحلة الكفاح مع مناهج هي أصعب من المرحلة الثانوية بمراحل، لحد ما جه امتحان الميد تيرم بتاع مادة العلوم السياسية، ودكتورة المادة دي كانت تشترك مع الشيطان في صفة، الشيطان مش عاوزنا ندخل الجنة، ودي مش عايزانا ننجح في مادتها مهما حصل..
كانت بتتلكك عشان تخليك تشيل مادتها، بل وبتتفنن في ده، وأنا كنت واعية للموضوع ده ومش حمل إني أشيل مادة وأنا لسة في سنة أولى، عشان كدا ذاكرت كويس جدًا، وحفظت كل الأسئلة اللي ممكن تيجي، وده خد مني مجهود جبار، وبدأ الامتحان وقدرت أحله كله تقريبًا بدون غلطة واحدة، ولما راجعت الأسئلة تاني لقيت إني الحمد لله مقفلة المادة تمامًا..
بس للأسف أسبوعين بس وراجعت الدكتورة معانا نتايج امتحان الميد تيرم، واللي كانت نتيجته نص درجات المادة كلها..
ولقيت نفسي جايبة أقل من نص الدرجة، ومش أنا بس دا نص الطلاب كدا، اتصدمت، وغضبت جدًا، أنا عندي يقين إني أستحق الدرجة النهائية أصلًا، وخلصت المحاضرة وطلعت أقعد ع الكافيتريا وأنا مصدومة، أنا كدا مُطالب مني أجيب درجة نهائية في الامتحان النهائي، وده مستحيل مع واحدة زي دي، يعني أنا كدا شيلت المادة، ولقيت نفسي قايمة ورايحة على مبنى الكلية، كان لازم أحط حد مع الدكتورة دي، بالنسبة ليا على الأقل..
مكنتش لسة أعرف حد من المدرج اللي بيشيل ألف طالب ده فروحت لوحدي، مشيت كتير لحد ما بعدت عن التجمعات ووصلت مبنى الكلية، المبنى كان في آخر الحرم الجامعي، مبنى تحسه عامل زي المشرحة، مهجور، وقديم ومتهالك، فاضي وصامت بطريقة غريبة، كأن إدارة الجامعة معندهاش علم بيه..
دخلت المبنى وحسيت بشعور غريب، كأني انفصلت عن الواقع، أو اتنقلت في بوابة زمنية، عارف شعورك لما تدخل مقابــ,,ـــــبر في عز الضهر وقت الصمت التام، أو تمشي في صحرا لوحدك خالص، ده كان إحساسي..
طلعت السلم لقيت عاملة نظافة وحيدة قاعدة لوحدها خالص، سألتها عن مكتب دكتورة عديلة قالتلي إنه فوق في الدور الرابع، طلعت الدور الرابع ولقيت نفسي تقريبًا لوحدي خالص، المبنى على شكل دائري وأنت بتدور معاه وتعدي على مكاتب المعيدين والدكاترة..
فضلت أمشي بهدوء واقرأ الأسماء اللي على الأبواب لحد ما وصلت لباب مكتوب عليه
د/ عديلة سيف الدين..
كنت عارفة من الطلاب إنها دايمًا بتخلص محاضراتها وتيجي المكتب بتاعها، وكما توقعت خبطت على الباب وأذنت ليا بالدخول، دخلت وابتسمت بخجل..
ـ مساء الخير يا دكتورة..
ـ مساء الخير، نعم؟؟
ـ أنا طالبة عند حضرتك و…
ـ وجبتي درجة زي الزفت صح؟!
ـ أيوة يا دكتورة بس أنا حليت صح و…
ـ وأنا هستقصدك بقا وأديكي درجة وحشة مثلًا..
ـ ممكن نراجع ورقتي و…
ـ مش هراجع زفت ويالا بقا عشان عندي شغل..
كلامها كان مهين جدًا لشخصية حساسة زيي، وكأنها بتطردني من المكتب، خرجت وأنا حاسة إني اتجرحت في كرامتي، ليه الإنسان يبقا بالسوء ده، غصب عني لقتني بقف على جمب وبلتقط أنفاسي، وغصب عني لقيت دموعي بتنزل مني..
مشيت بسرعة عشان مضمنش حد يشوفني وانا ببكي، بس لحظات وحسيت بمغص شديد في بطني ولقيت نفسي بتألم جدًا، بصيت في آخر الدور لقيت حمام، ودخلته فورًا..
الحمام كان قذر بكل معنى الكلمة، كأنه مهجور، فيه حوض كبير وقدامه مراية تشوف نفسك فيها بالعافية، والسيراميك كان كله أسود من الطين اللي عليه، السقف كان متهالك تحس إنه هينهار، وهتلاقي جوة تلت حمامات صغيرين كل حمام له باب بيتقفل..
دخلت حمام منهم وأنا قرفانة جدًا وقفلت عليا الباب، كنت وقتها حاسة إن فيه سكاكين بتقطع في بطني، شوية وفوجئت بصوت خطوات دخلت الحمام، حسيت بقلق كبير جدًا، أنا معرفش أنا هنا في حمام خاص بالولاد ولا البنات، وكمان اللي برا ده ولد ولا بنت..
كتمت أنفاسي وسكت خالص، ومن خلال الفتحة اللي تحت الباب لمحت ضله وهو واقف زي الصنم قدام باب حمامي الصغير خالص، ومن خلال الفتحة دي شوفت صوابعه، كان حافي، بس مش دي المشكلة، اللي برا ده كانت صوابعه سودة كأنها متفحمة..
فضلت قاعدة مكاني مبتحركش، كأني اتشليت حرفيًا، حتى بطني وقفت عن الألم، فضلت أبص للصوابع دي واللي كانت طويلة ومخيفة برعب، شوية وسمعت خطوات واختفى الصوت بعدها، خدت نفس عميق جدًا وقمت من على التواليت ولبست هدومي.فتحت الباب بالراحة خالص ملقتش أي حد، خدت نفس عميق وقولت يمكن وجع بطني خلاني أتخيل، وقفت قدام الحوض وفوجئت إن الحنفية بتنزل مية، غسلت إيدي وهديت شوية و….
وشوفت في المراية القذرة حاجة واقفة ورايا، كأنه شيطان أسود عليه طين وله قرون، شهقت ولفيت بسرعة ملقتش حد، رجعت بصيت للمراية ملقتش حاجة، حسيت إني لازم أخرج من المكان فورًا..
بس اللي مخدتش بالي منه إن باب الحمام الخارجي كان اتقفل، مع إني سايباه مفتوح، والمرعب إني لما جيت أفتحه مفتحش معايا، اتوترت أوي وحاولت بعنــ,,ـــــف بس مفتحش، خبطت بكل قوتي وناديت بس لا حياة لمن تنادي..
ومن ورايا سمعت حركة، بصيت ورايا وأنا باخد نفسي بسرعة لقيت باب الحمام الصغير اللي كنت فيه مقفول وفيه حركة جاية من جوة، بدأت أقرب وأنا رجليا فاقدة اتزانها، جسمي بيتنفض وقلبي بيدق بسرعة، قربت أكتر وأكتر وبإيد فاقدة الحياة دفعت الباب وفتحته..
وصرخت بأعلى صوت، كأني بتعذب في قلب الجحيم، أنا شوفت نفسي جوة الحمام، قاعدة على التواليت، أيوة أنا بهدومي وشكلي اللي حفظاه صم..
سبت الباب فاتقفل من تاني لوحده، فضلت أخبط على الباب الخارجي بكل عنــ,,ـــــف وصراخ بس لا حياة لمن تنادي..
قعدت على الأرض بعد ما أعصابي كلها انهارت ولزقت ضهري في الباب، وبدأت أسمع صوت ترانيم غريبة، كأنه فيلم لعبدة الشيطان، كلام غير مفهوم جاي من الحمامات الصغيرة، ولقيت تعبان طويل جدًا وأسود طالع بكل هدوء من الحمام اللي أنا كنت فيه، وبعد كدا لقيت واحدة شبهي جواه..
حسيت بحرارة رهيبة وإني خلاص همــ,,ـــــوت من اللي بشوفه ده، والتعبان ده كان فين، في التواليت ولا أيه، الفكرة بس خلت جسمي ينكمش على نفسه وقلبي يخبط في ضلوعي، ولسة صوت الترانيم كان شغال، وبدون مقدمات لقيت التلت حمامات الصغيرين أبوابهم اتفتحت وطلع منهم كائنات شبيهة بالشياطين، تكوينهم زي البشر وعندهم قرون وجسمهم أسود، هنا كنت خلاص هتجيلي سكتة قلبية، اتنفضت من مكاني وفضلت أخبط على الباب بكل هيستريا لحد ما اتكسر في إيدي وطلعت أهرب زي اللي بيهرب من الجحيم…
خرجت من مبنى الكلية كله واترميت على الأرض قدام المبنى كنت بمــ,,ـــــوت، جسمي كله بيعرق، قلبي هيقف، قعدت كتير أوي مش قادرة أنطق، يمكن ساعة كاملة لحد ما رجلي بدأت تقدر تشيلني من تاني..
قمت عشان أمشي من المكان كله وفوجئت بالدكتورة نازلة من المبنى، بصتلي وأنا قدام مبنى الكلية وقالتلي:
ـ أنتي لسة هنا، مش قولتلك أمشي..
وقتها لقيت فكرة جهنمية بتدور في راسي..
ـ يا دكتورة أنا شوفت حاجة غريبة في حمام الدور الرابع..
ـ شوفتي أيه؟!
ـ شوفت حد رامي صور ليكي في الحمام..
ـ أنتي بتقولي أيه؟!
ـ أيوة يا دكتورة، صور كتير أوي لحضرتك..
ـ تعالي وريني كدا..
ـ لا أنا لازم أمشي عشان اتأخرت عايزة تطلعي تشوفي براحتك..
سيبتها ومشيت وأنا حاسة بطاقة غضب رهيبة تجاها، راقبتها من بعيد واللي كنت متوقعاه حصل، لقيتها طلعت المبنى تاني، أتمنى تشوفي اللي أنا شوفته..
……………….
تاني يوم بالليل بقيت أحسن كتير، فتحت الفيس اتصفح لقيت بوست على جروب الدفعة بيقول إنهم لقوا الدكتورة عديلة مغمى عليها في حمام مبنى الكلية وإنها في المستشفى..
بصراحة حسيت بشماتة تجاها، وإن قررت محضرش ليها أي محاضرة لنهاية الترم، ولو لابد فأنا هنزل بعد كدا من غير ماكياج وواثقة إنها استحالة هتعرفني من وسط ألف طالب، ده إذا دورت عليا تاني..
وفجأة جت في بالي فكرة غريبة، لقيت نفسي بدور على جوجل عن تاريخ إنشاء كليتنا، بس مقدرتش أوصل لأي معلومات خالص، ولقيت نفسي ببحث على الوتباد والفيس بوك وتويتر عن كلمة الكلية المسكونة، وكتبت اسم كليتي، وبالصدفة البحتة لقيت مقال لطالبة مخلصة الكلية كانت كتباه..
الأرض دي كانت ملك للعائلة الملكية في مصر، ولما قامت ثورة ٥٢ فضلت الأرض دي مركونة كتير أوي لحد ما الحكومة صادرتها وقررت تبني عليها جامعة، بس المشكلة كانت في مقابــ,,ـــــبر اليهـ ..ـود اللي عليها، واللي الحكومة هدتها عشان تعرف توسع مساحة الجامعة، وحظ مبنى الكلية بتاعتنا اتبنى فوق المقابــ,,ـــــبر دي، عشان كدا هتلاقي المبنى فيه طاقة شر رهيبة، هتلاقي المعيدين والدكاترة مبيروحوش هناك، هتعرف إن فيه كوارث حصلت لطالبات في حمام الكلية دا، بل وفيه ناس بتسمع صوت ترانيم جاية من جوة، بس إدارة الكلية كانت دايمًا بتسكت، إلا الدكتورة عديلة غريبة الأطوار واللي كانت بتروح لوحدها تقعد في مكتبها في المبنى، يقال إنها مريضة نفسيًا، ويقال إنها مبتدخلش الحمام عشان كدا مبيحصلهاش مشاكل، ده كل اللي أعرفه، والله أعلم..