رواية الأسود يليق بك الفصل الثامن
الأسود يليق بك
أحلام مستغانمي
الفصل الثامن
لم يبق للحفل سوى ساعات, حينما بلغها أن أحدهم قد اشترى جميع بطاقات الحفل قبل أيام. لم تصدق الخبر ! كيف لشخص واحد أن يحتكر الحفل, ويحرم الناس من حضورها؟ سألت من هو هذا الرجل ؟
- لقد حضر أحدهم ودفع المبلغ بإسم إحدى الشركات.
أحست بأن هذا الرجل يهين سخاءها بثرائه. لقد تنازلت عن أجرها من هذا الحفل, وتبرعت به لصالح العمل الخيري رغم حاجتها للمال.
كانت الساعه التاسعة تماماً حين جاء من يخبرها أن تبدأ الحفل. وجدت في احترام الوقت عزاء لكرامتها. إذن لقد حضر السيد الكريم على الوقت. بدأت الفرقة العزف تمهيداً لظهورها، ثم أطلّت على المسرح كبجعه سوداء داخل ثوب أسود, وشعر أسود مرفوع إلى أعلى. كانت فاتنة. لقد اختارت طلتها تلك لتبهر به جمهور مصر, لكنها تجمدت على المنصة وهي تتأمل المشهد الغريب.
بالتزامن مع ظهورها, كان رجل فى الخمسين من عمره أنيق المظهر يدخل القاعة, محاطاً بمرافقيه. أخذ الرجل مكانه فى منتصف الصف الرابع. ثم حياها بحركة من رأسه وبدا جاهزاً لسماعها. أخذت قراراً بألا تحييه قبل أن تشرع في الغناء. وستغني لمدة ساعه ونصف فقط, ولن تسأله ماذا يفضل أن يسمع. حاولت ان تضبط مشاعرها. وتبقى على هدوئها, أن تغني للكراسي الشاغرة, كما لو كانت ملأى, لكن في نهاية كل أغنية, كان تصفيق اليدين الوحيدتين يطيح أوهامها .
إنحنت انحناءة كاملة, رداً على وقوفه عند انتهاء الحفل, ووقفت الفرقة خلفها تحييه. أثناء ذلك, جاء أحد الموظفين وقدم لها باقة التوليب إياها. لم تشغلها تلك المفاجأة. فهي تتلقى تلك الورود منذ أشهر بعد كل حفل تقدِّمه. إلا أن قلبها خفق حين حضرت فتاة وقدمت لها وروداً حمراء غاية فى الفخامة. استنتجت أنها منه.
غادرت إلى غرفتها محبطة. فلم يكن هناك أحد ليهنئها أو ليشكرها. فقد كان كل من موظفي المسرح فى وداع السيد الكريم.
غادرت الى الفندق تحمل باقة التوليب معها. في الفندق, كانت نجلاء تهم بوضع الورود في المزهرية عندما عثرت على بطاقه صغيرة ملصقة بالباقة, مكتوب عليها (هل تقبلين دعوتي للعشاء غداً؟ حتما ستتعرفين عليّ هذه المرة. أنتظرك عند الساعة الثامنة على مركب الباشا ) هذه المرة لم تستطع إخفاء فرحتها ..
تهيأت لموعده بزينة بسيطة. ذهبت إليه كفراشة السواقي. دخلت المطعم وألقت نظرة على مكانٍ لا يخجل من إشهار فخامته. فكّرت أنه ربما لم يحضر بعد, أو أنه موجود ويريد أن يختبرها مثل المرة الماضية, فهي لا تعرف شكله !!
قررت أن تقلب قوانين اللعبة وأن تجلس على طاولة شاغرة, وليحضر هو إليها طالما أنه يعرفها. كانت تلحق النادل, حين وجدت نفسها أمام تلك الملامح, التي حفظتها لمدة ساعة ونص وهي تغني له. إنه هو, الرجل الذي غنت له أمس. وقف وسلم عليها وقبّل يدها وقال : إن سعادتي لكبيرة أن ألقاك اليوم أيضاً. قبل أن ترد أو تسترد أنفاسها, كان النادل يسحب لها الكرسي. جلست وهي تفكر بالرجل الآخر. علّق بعد أن لاحظ ارتباكها : هل يزعجك شيء ما ؟ ثم أردف وقال : أشكرك على سهرة البارحة, لقد أسعدني أن أنفرد بصوتك.
- هل أحببت الأغاني التي غنيتها.
- أحببت أن تغني لي وحدي.
كانت تحدث نفسها أيظن نفسه إله إغريقى يجلس أمامي !! ما تريده الآن حقاً, هو أن تعرف من يكون هذا الرجل ولماذا لم يحضر الآخر ؟
-أردت أن تتعرّفي عليّ من ضوئي لا من خدعة الأضواء... لكنّ قلبك لم يدلّك عليّ تلك المرة أيضاً!
-أقال أيضاً ؟ شهق قلبها من هول المفاجأة. إنه هو إذن ..هو من حجز القاعة لنفسه. أيكون ثرياً إلى هذا الحدّ, هل فرغ العالم من النساء لتغدو هي وحدها هاجسه ؟...
إنه يوفر عليها كثيراً من الأسئلة, إنه يتكلم عنها أفضل منها, لا بد أنه استسقى ما يريد معرفته عنها من خلال مقابلاتها التلفزيونية وأخبارها الصحفية. كان في بالها السؤال الأهم : ولكن لماذا التواليب بالذات... وذلك اللون البنفسجي؟
- ربما كنتِ تفضيلينها حمراء, كتلك التى احتضنتها بالأمس ببهجة. قدّم لها بطاقة عليها إسمه الكامل فقط. ثم كتب عل ظهرها رقم هاتفه وقال: "كلميني متى شئت".
شعرت أنها كمن فاز باليانصيب, وأنها تملك الرقم السحري, وكذلك الإسم الذي حيّرها لعدة أشهر.
حين عادت إلى الفندق سألتها نجلاء هل كان وسيماً ؟ أجابت : بل كان الوقت وسيماً به. لم تكن هالة فى الواقع معنية بثرائه, بل بافتقارها إلى الصبر معه.
حين هاتفته بعد أيام, كان قد غادر القاهرة, ولن يكون من السهل العثور على عنوان لموعدهما هذه المرة. لقد كانت حياتها ساكنة إلى أن جاء وألقى فيها حجراً فى بركة أيامها الراكدة. إنها لا تنكر منذ لقاءهما فى ذلك العشاء, لا تنتظر إلا هاتفه ...
في بيروت انتظرت أن تحل ضيفة على برنامج تلفزيوني, عله يعرف بوجودها, ولكن لم يأتِ منه لا هاتف ولا ورود. دهمها حزن شديد من فقدان شيء عزيز, واجتاحها الآسى. إنتهت ليلتها وحيدة فى غرفة في ذلك الفندق الفاخر, وحيدة مع عذاب الإنتظار.
يتبع