زينة الجنة ، ولكن.... !..

زينة الجنة ، ولكن.... !..

0 التقيمات

  تألقت عيناها بوميض غريب، إذ حانت اللحظة بعد صبـر السنين. شردت. ما أطول ساعات الإنتظار !؛ فما بالك بسنين؛ إرتهنت بها، وعاشت في ثناياها، وراحت تعدّها؛ ساعة تلو ساعة، ويوما بعد آخر. إنفطر قلبها، وكاد يفريه الأنين، والغصة في الحلق تكاد تخنقها. تقرّحت جفونها؛ فلم تغمض عيناها عن صورة ابنتها الشهيدة، ولا يطأها الكرى إلا إذا غُلب عليها. ولا راحة، إذ تتقلب على فراش الشوك !. لا يهنأ لها عيش؛ فلا تستسيغ شرابا، ولا تلذ طعاما إلا ما يسدّ رمفها، ولولا إيمانها لعزفت عنه حتى تلقى حتفها، وتلحق بإبنتها ذات الستة أعوام. لم تضحك مرة، إلا بعض ابتسامة زائفة تتوارى خلفها أسارير المحيا، وحتى لا يُفتضح أمرها، وتبلغ الأعين ما يجري في الأعماق !. لم تعرف الخداع أو الزيف، ولم تتخذهما ذات مرة، فليسا من شيمتها، إلا أنها مُجبرة، فالأمر جدّ خطير وبالغ السرّية؛ فلا تفوه به حتى لنفسها، وإلا أحبط التدبير قبل الأوان!، وانهار الأمل، عندئذ يكون الموت أخف وأهون !. كانت تستمرئ آلام الصبر، ولم تكن تعاني من مرض نفسيّ !، الأمرُ أيضا مرتهن بالمرام. 

  انقضت سنين الصبر. لاح الأملُ فى الأفق. الثأرُ هو الأملُ المرتقب، وهو الداعي للإنتظار. غدا يُسدل الستار عن المشهد الأخير، ثم تدع نفسها لآلام الفراق. ستذرف الدمع مدرارا، وتذرف الدم إن جفت الدموع !. البيت المقابل من طابق واحد. الزغاريد تنطلق منه على أشدها؛ ما أعذبها، إذ تؤجج المشاعر، وتزكي سعير القلب !، وما أحبها وإن شقت سمعها، وأصابه الصمم !. كم كانت تخشى أن تخفت النار ويخمد الحريق !. أو تغلب عليها جبلة الصفح، أو تُطفئ الأيام لهيب الثأر !. غدا ينطلق الذئب من سجنه، ويتنسم هواء الحرية. لقد مرت سنين السجن مرّ السحاب. ما أحبّ الغد، وما أثقل الساعات إليه !. 

  أطاحت بها الذاكرة إلى سنين مضت. رغْيٌ وصخبٌ وضجيجٌ في قاعة المحكمة التي تغصّ بالخلق، فالحدث رهيب وكارثيّ، والقضية تستفز الرأي العام، والصحف لا تتوانى عن ملاحقته وتناوله مُدعّما بالصور. الخصوم كلّ في جانب والجماهير الغفيرة تترا وتحتشد. الأعينُ جميعا على القفص الحديديّ، تنطلق منها سهام الغل، حيث وقف الذئبان البشريان. ذئبان !. والله إنه وصف يظلم الذئاب، إذ أنّ طبيعتها الغدر، الذى تجهله، ولا تعاقب عليه !. وإن قلنا شيطانيْن، فنحن نظلم الشياطين. أو وحشيْن، فهو ظلم أيضا. فلنركن إذأً إلى الوصف السائد. المشاعر تتباين، والأعصاب متوترة. وعدسات المصورين لا تهدأ عن التقاط الصور. والمنصة شاغرة؛ فلم يدخل القضاة، ولا وكيل النائب العام بعد. والأم الكليمة؛ أثقل عليها فبدت مطأطئة الرأس، شاردة. تنظر إلى لا شيء، ولعلها تعود بالذاكرة قبلها ببضع أشهر خلت. 

 صَحَتْ في ذلك اليوم متوجسة، تداخلها رهبة، وتهزها خفقات القلب !. سألت نفسها، التي تأبّت عن الرد. تمتمت بالدعاء: 

ـ "اللهم اجعله خيرا". 

 فلتدع ما تدعو، ولتتمنى ما تتمنى، فأمر الله نافذ في كافة الأحوال، وكما تقول العامة: "المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين"، والعامّة لا تُجمّل الكلام، ولا تطلقه جزافا. وبالفعل جاء إلى سمعها صراخ مفاجئ؛ تتبعه صرخات يتخللها زعيق، وضجيج: "ما الخطب ؟!". اشتد خفق قلبها. حاولت أن تخطو نحو الباب الخارجيّ. شعرت بثقل رجليها، و.. لم تستكمل رحلتها إلى الشارع؛ إذ سعى إليها الخبر المشئوم: "لقد سقطت زينة، من فوق سطح الطابق الحادي عشر!".

ـ "زينة !".

 شهقت الأم باسم ابنتها، بينما زاغ بصرُها، وارتخت يداها، وترنحت. وتلقفتها الأيدي قبل أن تهوَِى. يا له من نبأ مفجع !. أدمَى قلوب الأمهات، وكل من طالع الصحف. ساد الحزن ربوع البلاد. لقد اغتيلت البراءة، وأريق الدم الزكيّ وألحّت التساؤلات: هل غدرت بها كُرَتُها، حينما ابتعدت عنها وحاولت إنقاذها؟ و.. ولكن لم تكن هناك كرة و.. ولماذا صعدت إلى السطح إذًا ؟!. وهل استخدمت المصعد، أم ارتقت الدرج ؟ و.. ولكنها كانت وحدها !. فهل تجشمت كل ذلك كي تلعب وحدها ؟!، إلا. إلا ماذا ؟!. ماذا ؟!.

 وسرعان ما جاء الرد: 

"لقد سقطت "زينة" بفعل فاعل، بل فاعليْن اثنين،

 وأيدي غادرة آثمة !. حقيقة مُوجعة ومروّعة. واستـُكمل الخبر: "لقد حاول الذئبان اغتصابها، ولكنها قاومتهما، وبذل كلّ أقصى جهده، لكنها استعصت عليهما، يبدو أن تحولت القبّرة الوديعة إلى صقر ذى منقار حاد ومخالب مسنونة؛ حال دون تحقيق مأربهما !. عنذئذ قذفا بها من حالق !". وأكبر الظن أنه كان مصيرها، حتى لو نالا منها ! و..

  أصدر القاضى حكمه الظالم، إذ كان سجنا دون إعدام !، أو بالأحرى القانون هو الذي ظلم "زينة" وذويها ، وليس القاضي الذي نطق بالحكم. عفوا فخامة القاضى، إذ أنه تلا الحكم كما ورد بالقانون. كان مجرد قارئ !. القاضى لا تشوبه شائبة، إذ قضى بأقصى عقوبة في قانون الطفل. وكان بودّه لو أنه حكم بالإعدام و.. ولا بد أن حدثت الأم الذاهلة نفسها: 

ـ "طفل ؟!. أي طفل يا حماة العدالة ؟!. أي طفل هذا الذي يدبر، ثم ينفذ جريمته، فيستدرج المجنيّ عليها، ولا بد أنه خدعها بقطعة "شيكولاتة"، وبالطبع ضحك لها ولاطفها، وقد أنست إليه وأمنت جانبه، ليحملها إلى سطح الطابق الحادي عشر، ثم ينفذ جريمته البشعة بمساعدة قرين السوء والندامة. أ هذا مسلك أطفال ؟. أ تضحكون علينا أم على أتقسكم ؟. وفى حالة "زينة". ألا يجب حساب عمريْ القاتلين معا ؟. فكل منهما يكمّل الآخر في تخطيط وتنفيذ الجريمة.". 

  وعلا صوت الدفاع:

ـ لقد اغتيلت "زينة" مرتين: مرة عندما قذفت من فوق سطح البناية الشاهقة والأخرى حين النطق بذلك الحكم الذي يثير الغثيان، كما اغتيل ذويها، خاصة الأم. وبالتالي ضاع حق المجتمع بأسره. وفي الوقت نفسه. كوفئ الجانيان وذويهما، والدليل: هذه الزغاريد التي انطلقت إثر النطق بالحكم من ذوي المتهميْن، وطغت على الأصوات جميعا. وأصابت الناس بالسخط، أ هي زغاريد الشماتة ؟!. أم زغاريد الفرحة ؟!. وأي فرحة أيها الهمج في هذا الجو الخانق، الملبد بالسواد والألم ؟!. ألا تسألون أنفسكم حماة العدالة: كيف يخرج القاتل بعد قضاء نصف المدة، أو حتى كلها، ثم يُصبح حرا، ويراه أهل "زينة"، وهو يمارس حياته، ويروح ويغدو أمامهم، وكأنه يغيظ لهم ؟!. كيف تقوّمون ذلك الموقف ؟!. أيرضاه أحد لولده ؟. وبعد، أ يمكن أن يظلم القانون ؟!. ثم أ تغضّون الطرْف عن الآية الكريمة: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل". أي عدل في ذلك القانون ؟، إلا إذا كان قانون "زينب" أو "نحمده" !. أو على القانون السلام". 

 ثم راح يتهكم موليا ظهره للمنصة !: 

ـ "أكاد أضحك وأضحك؛ حتى الموت !. منذ عشرات القرون، قاد أسامة بن زيد جيش المسلمين، وكان في السادسة عشرة، وانتصر على أضعاف أضعاف جيشه عُدّة وعتادا. وكان من جنده: كبار الصحابة. لقد اختاره رسول الله قائدا؛ قبل أن يلقَى ربه، وأنفذ الصدّيق الأمر. إذا اعتبرنا أسامة بن زيد طفلا ؟. فهل تقود الأطفال الجيوش ؟!، الحكم استفزازىّ يثير الإشمئزاز. ونظفه القاضي بعد عناء، وعلى استحياء، وأكبر ظني أنه لم يكن مقتنعا، ولكن لم يكن لديه اختيارا، أو يتنحّى عن نظر القضية، وسيأتي غيره لينطق بما نطق !..".          

 لم تنم الأم تلك الليلة، يبدو أنها تذكرت طفولتها ليلة العيد. كم كانت تغمرها السعادة، ولا يجرؤ النوم أن يداعب أجفانها، أو يلقفها فى جوفه !.

 غدا تحقق أمنيتها التي صبرت من أجلها السنين. غدا تثأر لزهرة عمرها. لم يشف القانون غليلها، بل ظلمها. فلتأخذ حق ابنتها بيدها، ولتُشنق؛ وما أحبّ ذلك إليها فهي مقتولة في الحالتين، والشنق أخفّ وأهون. شردت أو طواها النوم. رأت فيما يراه الشارد أو النائم: أن أقبل الصبح، وصحت من شرودها أو نومها. فكرت قليلا. دبّ قلبها، وثقلت أنفاسها. هتفت: "النقاب". النقاب يحول بينها وبين الأخرين، كأنها خلف ساتر، فلا أحد يرى شواظ النار الذي يتطاير من عينيها و.. وتستطيع أيضا أن تُخفي المدية، التى ستفصل به عنقه و.. سرعان ما ارتدت الجلباب والنقاب. وإستلت المدية من تحت وسادتها. رفعتها أمام عينيها. دسّتها فى صدرها. السرعة هى الأهم لبلوغ الهدف. يجب أن تذبحه في لحظات. ستسمع حشرجاته، وترى دمه مُراقا. وستضحك وتضحك، حتى تسمع الدنيا ضحكاتها !. الزغاريد تطغى على الضحكات. سترى أعين أمه وذويه الذاهلة. ستأخذ الثأر لكل زهور البشر، التي أريق دمها البرىء. وراحت تقرأ الحدث الذي سيدوّى صبيحة الغد. الدم ينزف من بين السطور و.. 

  أيقظتها الزغاريد من شرودها أو نومها. التفتت من حولها. لقد خرج زوجها إلى عمله مبكرا. الزغاريد تكاد تمزق سمعها. تحسست المدية، وما لبثت أن ارتدت الجلباب، والنقاب. وانطلقت قبل أن تفوتها الفرصة. طلبت المصعد. وسرعان ما أصبحت في الطابق الأرضي. خرجت من الباب الخارجيّ، وما أن تخطو لتفاجأ بدوىيّ زلزل الأرض من تحتها !، بينما انطلقت صرخات، أعقبها انهيار !؛ ملأ الدنيا ضجيجا وغبارا غشي الأفق وحجب الرؤية. تراجعت للخلف. انتظرت قليلا بين ذهولها. وكانت المفاجأة الكبرى: لقد انهار البيت المقابل ذو الطابق الواحد، وانهارت جدرانه إثر انفجار أنبوبة غاز، وأطبقت على الذئب وذويه !. لقد ثأرت لها السماء. جاء العدل من فوق سبع سموات طباقا !. لم يشأ القدر أن تتلوث اليد الطاهرة بالدم الملوث !. جاء الحق ليزهق الباطل. نظرت الأم نحو الأفق، وفي هذه اللحظة أقبلت نسمات تحمل أريجا. أغلقت عينيها؛ فرأت الزهور منتثرة على مدى البصر، كأنما تبتسم، وانطلقت العنادل تشدو بلحن طريب. شعرت الأم كأنها في الجنة. ورأت "زينة" تُقبل عليها ومن خلفها الأطفال ملائكة البشر، يضحكون ويمرحون. عانقتها، ثم طوّقتها بعقد الفل. أفاقت من شرودها، وصورة "زينة" تملأ عينيها !. ،،، 

                                                                                                                                             تمت 

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                 حمدي عمارة

 

 

 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

19

متابعين

181

متابعهم

1

مقالات مشابة