المشهد في الميدان الكبير !

المشهد في الميدان الكبير !

0 المراجعات

 "حدث في يناير 2011 م"

لم يخلق الله نسمة يضيّعها، وكل ميسّر لما خُلق له، وكل يخطو نحو قدره، وكأن للقلب قدمين يسعى بهما !؛ إذ ساقته إلى حيث الميدان الكبير. وكذا ساقتها قدماها إلى هناك. كلاهما يحمل دافعا بين جنبيه، وكلاهما لا يدري المخبوء الذي ينتظره. ولم يطف بخلدهما أنهما على موعد مع القدر !. الميدان في البلد العريق. كان مغمورا، وذا شهرة محلية؛ حتى ذلك اليوم !. 

 فقد حان الميعاد؛ إذ بلغ الذروة، واتخذ مكانا عليّا، وبدا نجما تألق في كبد السماء، وآية خشعت لها الأبصار واشرأبت لها الأعناق. بات الأشهر على وجه البسيطة: "ميدان التحرير". دوّى الإسم المقبور وجاب ربوع الدنيا وشتى الآفاق؛ وكأنما ادّخرته الأقدار للحدث الجلل الذي يستأهله؛ فلكل مقام مقال، ولكل زمن عماليق وأبطال. الأبطال فتية من نبت الأرض العريقة كما أسلفنا، فهم مغايرون ولا غرو، بواسل ذوو مروءة وإباء وشمم. ليسوا بأغرار ولا حمقى ولا أنذال؛ فلا تعوزهم أسلحة الخسة والغدر، إذ تحمل نفوسهم الإباء والعزة، ويملأ صدورهم العزم، والعزم أمضى وأصدق أنباءا وأشد هولا. وينطلق من حناجرهم زئيرٌ أشد دويّا ورعبا. إنهم على يقين أن التلاحم في كل شأن هو الأقوى، والأشد رهبة، وجالب النصر في النهاية. ليس ينشدون إلا العودة إلى الأصل، والرجوع إلى طبيعة البشر، ويطمحون إلى ما جُبل عليه الإنسان.

 

  الله في علاه كرّم بني آدم، وإن الأصل في خلق آدم واستخلافه الأرض، ليس إلا ليعبُد وذريته إله الكون دون سواه. وإنه هبط من الجنة ليُعمّر الأرض، ويسود الكائنات بالعقل والحكمة والموعظة الحسنة؛ لا بالقمع والاستبداد والسيطرة، وليس ليستعدي بنوه كل على الآخر، ولا ليستعبد ويستذل بعضهم البعض، وليس ليسفكوا الدم البريء. وفي ساحة الشرف أوقد الفتيان جذوة الحرية، ورفعوا مشاعلها، وانطلق الشرر في شتى بقاع الأرض. دقت الأجراس، وارتفع صوت المؤذن: حيّ على الحرية. لم تنم الدنيا، وراحت تترقب بأعين ذاهلة متوجسة، وأخرى تهطل الدمع من فرط النشوة !. وزائغة اهتز أمامها المشهد والتبس عليها الأمر. والشعوب اللهفى، ترقب في شغف وعن كثب: البطل الجديد. 

 

ـ "أ هو ميدان لعبور المارة والمركبات ؟، أم حلبة صياح وهتاف ؟!، أم شعراء الفخر في سوق عكاظ ؟!. أم ولادة عسيرة أبيّة طال مَخاضُها ؟!". إنها الأخيرة بالأحرى ودون ريب. تمخضت الأم الشامخة فولدت عملاقا !. 

  الأفواج تترا: تنزح من كل ناحية وفج، وتتوافد من كل حيّ وحارة ودرب. والطريق جميعا صوب الميدان. بدوْا أكداس متكاتفة، وحشود متآزرة كالبنيان المرصوص، وحّدتهم جراح الأيام، وأوجاع السنين. كل له مظلمة وحق مغتصب. كل له مسألة في الكرامة والشرف، وكل يعرف الهدف ويجعله نصب عينيه ولا يُبصر سواه. كل يسعى ليبدو في الموقف، وحتى لا يفوته المشهد العظيم. 

 

 إنني لم أر يوم الحشر، ولم يره غيري فوق الأرض، ومن ووري تحت الثرى على السواء؛ فلا جرم إذاً، ولا مناص من أن أطلق لخيالي الصحو العنان؛ فأراه كيوم الحشر أو كمثله، ولا أغالي إن رأيته أجلّ وأعظم؛ إذ لا يفر المرء من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه. كل يُقبِلُ على أخيه الذي لم تلده أمه. كلهم أبناء الأرض الموغلة في العراقة والزمن، وكل يعنيه شأن الآخر. بل هو شأن واحد لا يتجزأ ولا تنفصم عراه. وإن اقتربت الساعة؛ فلتقترب. الدنيا كما هي عليه منذ خلقت؛ فالشمس تطلع وتأفل كل صباح ومساء على البرية، والقمر يبزغ في أحشاء الليل البهيم. والحياة تمضي في وقعها القدريّ المبهر الرتيب، والأمل يلوح للورى في الآفاق. وفي ساحة الشرف أوقد الفتيان جذوة الحرية، ورفعوا مشاعلها، وانتثر الشرر في شتى بقاع الأرض. والحناجر تطلق زئيرا أشد دويّا ورعبا !.

   الحب طائر يعشش مُذ خلق في القلوب، ويرفرف في سماء ميادين الشرف الرحيبة، ويغرّد بأنشودة الصفاء والنقاء. وساعة الحب لا تعدلها القرون. اليوم لا إفك، ولا كذب، ولا افتراء، وليس من داع للرياء والنفاق؛ فالمحبين لا يُراءون ولا يأفكون ولا يمنعون الماعون. والحقيقة التي لا مراء فيها: أن عقلي ذاهب أو أصابه الجمود؛ عطّله الذهول وأيم الله. إنه موقف نادر، وساعات فارقة، ولستُ إلا أنقل ما سُطّر على صفحة فؤادي ووقع في بصيرتى وما يُمليه عليّ ضميري، ويؤجج مشاعري. الأنفاس لاهثة متلاحقة، والقلب طائر يرفرف بجناحيه، والقلم بين أصابعي يهرول عبر الأسطر وخلف الأحرف غير متردد ولا متعسر، وينساب سنّه في يُسر لم أصادفْه، ويندفق الكلام في سلاسة لم أعهدها. كنتُ جزءا من الصورة، وخيطا فى النسيج، ونَسَمة فى الحشد الثائر. وإن كذبتموني، فسَلُوا شهود العيان، والله خير الشاهدين. 

 

  زحفَا مع الجموع الغفيرة؛ تلك التي تنشد الحرية والعدل، وفي الوقت نفسه تأبى الاضطهاد والضيم، وتنادي بإسقاط الغاشمين المستبدين ذوي الوجوه الكالحة: أولئك الذين خانوا أمانة الخلافة، واغتالوا دستور الحياة؛ فبغوْا في الأرض، وطغوْا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، وأذلوا النفس البشرية ونكلوا بالإنسان الذي كرّمه الله، وأفسدوا على الناس العيش والحياة طيلة عقود. الشعب لا يريد لصوص الخير ومصّاصي الدماء وسارقي الأحلام والأيام. الشعب يريد تغيير وجه الحياة !. المرتزقة أيدى البطش يبدون في جماعات مسلحة متربصة متنمّرة؛ تسوّر الميدان، وتُحكم القبض عليه. الله وحده يعلم ما ينتوون، وماذا هم بفاعلين. إنهم عبيد الطواغيت، ويفعلون ما يؤمرون. 

  وسرعان ما تبدل المشهد في الميدان؛ إذ جاء الأمر بتفريق الحشود. تعددت الوسائل، وما أكثرها !: غاز يُلهب الأعين، ويسيّل الدموع والمخاط، ويحجب الرؤية. خراطيم تندفع منها المياه كالقذائف الطائشة. وسائل وممارسات رخيصة تثير التقزز كمن أمر بها !. فما زالوا يُمعنون في التعمية والتعتيم وحجب الحقيقة، وما برحوا يحسبون الناس ذبابا أو ديدانا أرضية !. وما فتئوا يتمادون في الضلالة والغيّ ويصرّون على البغي والظلم !. 

 

  تخبطت الجموع على الأثر. هرولت هنا وهناك، وتدافعت كالسيل المنهمر. كانت بينهم. لا يدري لم وقع بصره عليها !؛ إذ لمحها تترنح بين أمواج البشر المتلاطمة, والذعر يُطلّ من عينيها. ندّت منه شهقة؛ حين انبثت الحمية فى جسده واندفق الدم في رأسه. نسيَ نفسه وروحه وكل شيء !، وما لبث أن شق طريقة بين الأجساد المتدافعة. عيناه تمسك بها. قاومت في بادئ الأمر، ولكن؛ وهن الجسد النحيل. لا يُبصر سواها !. انكفأت على الأرض وغابت عن ناظريه. إنفطر قلبه وأفلتت صرخة من أعماقه. كادت تدهسها الأقدام. وكذا لا يدري كيف أصبح على مقربة منها. رآها أخته الصغيرة التي فى مثل سنّها. راح يذود عنها ويدفع الأجسام دون جدوى. كاد يجرفه تيار الأجساد المتجبر الكاسح !. إرتمى فوقها؛ جاعلا من جسده حاجزا وسياجا دون الأحذية. نال جسده ورأسه ما نالا من الركل والدهس والضرب !. وكان أغشي عليها، وغابت عن الوجود. غطى ما تعرى من صدرها و.. لم تتفرق الحشود !.   

  فتحت عينيها على محياه الذي أضاءته ابتسامة؛ لم تمحُ خطوط المعاناة بين حاجبيه وحول فمه ولحظيه، وتبدّت بقايا من الألم والجزع في عينيه. لقد رُدّت إليها روحها. كانت على يقين أنها في عداد الموتى، وكذا كان أكبر ظنه. إستعاد هدوءه ورباطة جأشه. تمتم بحمد الله. لم تقو على النهوض. تأوهت. تململت. دارت من حولها بعينين كليلتين، وذهن مشوّش، وتساؤل يلوح في مقلتيها: 

ـ "أين أنا ؟!، وماذا يجري ؟!, ومن ذا الذي أتوسّد قلبه ؟!". 

 عادت ترمقه، لكأنه شقيقها الذي يكبرها, وفي مثل سنّه ! و.. ولكن هبّت من رقدتها بينما سرت في جسدها رعدة. عادت تنظر إليه. هزت رأسها غير مصدقة. تشنجت أطرافها وثارت ثائرتها وانبعث الشرر من حدقتيها. كادت أن تلقنه درسا في الأدب، أو تصفعه !، ولكن شل لسانها، وتيبست يدها؛ إذ لمحت الدم يسيل على جبينه. لامت نفسها. تورّدت وجنتاها، وتلوّن محياها بحُمرة الخجل. التقت عيناهما. طالت النظرة. نكس رأسه في خفر العذارى. راح يسائل نفسه:   

 

 ـ "ما الذي يجري ؟!. ومن هذه التي كدت أهلك دونها ؟!". 

  عاودت النهوض ولم تستطع إذ عاودها الألم. طأطأت رأسها فانسدلت خصلة حريرية مسّت جبينها، وحجبت الأهداب عينيها النجلاوتين، وضفيرتها نائمة على صدرها. راح يتلفت من حوله. أين هو ؟!. "أ ميدان هذا فى الأرض، أم جنة الله في السموات العلا ؟!". يالها من ملاك لم يره حتى في أحلامه !. خفق قلبه، وعزفت أوتاره لحنا سرمديا. ليت يتوقف الزمن، أو يظل هكذا حتى تفيض روحه أو.. أمْسَكَ بذراعها، وساعدها على النهوض. كادت تفوه بشيء و.. تألقت على ثغرها ابتسامة.     

 المنابر متناثرة في أنحاء الساحة المترامية الأطراف. منصّة هنا وأخرى هناك. خلفها وأمامها، لفيف وخليط من الناس: شيوخ وقسيسين. رجال ونساء، وحشد كبير من الصبية، وأطفال في عمر الزهور. ذابوا وتناسجوا فى بعضهم البعض، وبدا الكل في واحد. القلوب يغمرها حب الأرض، والرءوس تحمل الفكـَر، والصدور يفعمها العزم والإصرار والإرادة. الأحاديث شتى؛ لكنها تخرج جميعا من مشكاة واحدة. يحلقون جميعا في سماء الحرية طبيعة خلق الإنسان. مشهد لم يكحل عين بشر، وليس من شرُف برؤياه من قبل، وأغلب الظن ألا تكون له كرّة أخرى. قسيس يخطب في هذا الجمع، وشيخ من بني الفزاعة المحظورين يصيح، والناس يفزعون إليه يتأملون وينصتون. وتجوس أعينهم في الملامح والقسمات علها أن تقف على مصدر الفزع. إنه من ذات النسيج ومن نبت هذه الأرض، لا يُخيف ولا يُفزع كما نعته الكذابون عصابة الإفك، وليس مخبولا ولا يقول تخريفا وبهتانا. وفتيات ونسوة منقبات ومحجبات وسافرات؛ كلهن يهتفن بالحرية التي تحيا في ضميرهن، ويتحرّقن إليها شوقا وتوقا. وشعراء وفنانون يعبّرون. والصغار يتهللون ويصخبون كأن اليوم عيد. المشاعر واحدة وإن تعددت القلوب، واللسان واحد وإن تباينت الرؤى والأساليب. والتاريخ ما زال به يسطر أنصع الصفحات في سجل الخلود.

 

  الأمر مختلف هذه المرة، وبات جدّ خطير. ما الذي حدث ؟!. لم يَعُد الغوغاء كسابق عهدهم. تجاوز الرعاع الخط الأحمر، وتخطوا الحدود. لم يفرقهم الغاز ولم تشتتهم "خراطيم" المياه. إنهم متضافرون !. لم هذه المرة ؟!.

  ما الذي وحّد قلوبهم وصفّهم ؟!. هل أفاقوا من السبات ؟!. 

ـ "مصيبة، بل كارثة !. كيف ؟، ولم ؟! و..". 

   وهاهم المأجورون حاملي السلاح وعبيد الطاغوت؛ سقطوا في أيديهم، واختلط عليهم الأمر، ولم يستطيعوا الصمود إذ زاغت أبصارهم، وبلغت قلوبهم الحناجر. تخبطوا وتناطحوا فيما بينهم وتنافروا كالنعاج. فرّوا بجلْدهم أمام الحشود الثائرة الهادرة. ولوْا الأدبار في شراذم وشتات مأخوذين مبهوتين مخذولين؛ فالتيار غول جبار، وبركان جارف كاسح لا يُبقي ولا يذر، وله زئير ينذر بالهول، ويخلع القلوب، ويصمّ الأسماع، ويجمّد الأحداق الذاهلة في المآقى !. 

 لم تُخدش العزائم، واشتدت الجذوة لهيبا واشتعالا، وبدا الفتيان الشداد نبت الأرض العفية؛ كأنهم أشجار جذورها متغلغلة وضاربة في أرض الميدان منذ سبعة آلاف عام !. ينتثر من أعينهم شرر الإصرار. ولا غرو إنها غضبة أو قوْمة بعد عقود من الصبر وطول انتظار.

  تمخض الجبل فولد فأرا. وماذا تثمر شجرة البغي إلا خسة، ونذالة، وانحطاطا وطعنا في الظهور. فما لبث أن أمطر الثوار بوابل من الرصاص. وسقط الشهداء يروون بدمهم أرض الميدان. عينا حواء متعلقة بمنقذها آدم، لا ترى غيره في ساحة الشرف. كانا معا في الجنة. وهبطا معا إلى الأرض ليعمّراها بالورى. لمحته يسقط. انبعثت من أعماقها صرخة الأم على وحيدها. طارت إليه. انكفأت عليه. أرقدته على ساعدها. فتح عينيه. أبصر وشم الصليب على شريان رسغها. طالت بينهما نظرة. لاحت فى عينيه ابتسامة، ثم أسلم الروح. واتخذت بدورها الطريق إلى الدير !. ،،،

    تمت 

                                                                                                                                                                                                                                                                                           حمدي عمارة

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

18

متابعين

182

متابعهم

1

مقالات مشابة