روايه ارض زيكولا الجزء الأول ٢

روايه ارض زيكولا الجزء الأول ٢

0 المراجعات

البلدة كلّها تعرف غرابة أطوار هذا الرجل.. يريد أن يزوّج ابنته الوحيدة لشخص فريد من نوعه.. أي فريد هذا؟ .. لا أحد يعلم.. الكل يعلم أن مصير ابنته العنوسة لا غير.. طالما أبوها ذلك الرجل.. ومع هذا لم يطرق الاستسلام قلب خالد، ولم يعد بباله سوى هذا الشيء الذي يجعله فريدًا من نوعه، ويجعله يستحق منى كما يريد أبوها.. لكن ما هو؟!.. لا يعلم، فلم يجد سوى أن يتوجه بالدعاء إلى الله أن يأخذ أباها..

رغم أن خالدًا كان يتسم بخفة الظل والروح المبهجة، إلا أن حبه لمنى ورفض أبيها الدائم له، جعل الحزن وشاحًا دائمًا على وجهه.. حتى لاحظ جده - والذي كان يقترب من عامه الثمانين ، وكانا يعيشان سويًا منذ وفاة والدي خالد - حزنه الشديد بعد رفضه تلك المرة، واقترب منه وسأله :

- انت لسه زعلان ؟ .. انت المفروض خلاص اتعودت

رد خالد

- مش متخيل إني أشوفها لحد غيري.. ومش عارف أبوها عايز إيه.. مش عارف إن زمن المعجزات انتهى.

- وانت هتقعد جنبي كده حاطط إيدك على خدّك؟!

- طب هعمل إيه ؟

ضحك الجد مداعبًا له :

- لا.. انت أحسنلك تدفن نفسك في سرداب

فلمعت عينا خالد.. وكأنه تذكر شيئًا ما

- السرداب..

وأكمل:

- جدي.. انت فاكر لما كنت صغير وكنت لما أعيط تحكيلي عن قصة السرداب الموجود تحت بلدنا.. وإنك نزلته من أكثر من خمسين سنة؟

رد جده مبتسمًا:

- أيوة طبعًا فاكر لما كنت بتعيط .. تحب أفكرك بأيامك..

ضحك خالد :

- لا.. تحكيلي عن السرداب.. ونزولكم له..

فصمت جده متذكرًا :

- يااه.. دي أيام فاتت من زمن.. كنا أربع شبان بنحب الشقاوة.. وسمعنا كلام كتير عن كنز موجود في سرداب بيعدي تحت بلدنا .. وإن السرداب ده زمان كان مخزن كبير للأغنيا وقت أي غزو ..

- الكل كان عارف إن السرداب موجود فعلًا.. بس محدش جرب ينزله لأنه مسكون بالعفاريت، وإن اللي هينزله مش هيخرج منه.. بس احنا رمينا الكلام ده ورا ضهرنا.. وقلنا لازم ننزل..

كنا عارفين إن باب السرداب موجود في بيت مهجور في البلد.. وإن هناك صخرة كبيرة موجودة على الباب ده.. وفي ليلة توكلنا على الله .. ورحنا للبيت ده في السر، وقدرنا نحرك الصخرة وبدأنا ننزل واحد ورا التاني.. ومع كل واحد فينا لمبة جاز.. وبعد ما نزلنا سلم طويل لقينا نفسنا في نفق.. ومشينا كام خطوة في النفق ده لحد ما بقينا مش قادرين ناخد نَفَسنا.. و فجأة انطفت لمبات الجاز كلها في وقت واحد.. وصرخ واحد فينا: عفريت...  وبعدها كل واحد خد ديله في سنانه.. ورجعنا جري على برة.. ورُكَبْنا بتخبط في بعضها.. ومن وقتها ومحدش فكر إنه ينزل هناك.

فضحك خالد :

- بس هتفضل ذكرى حلوة.. كفاية إنكم مخفتوش تنزلوا.. حتى لو أخدتوا ديلكم في سنانكم.. فعقد جده حاجبيه مازحًا

متقولش لحد حكاية ديلنا دي.

بعدها عاد خالد إلى حجرته.. وحاول أن ينام ، ولكنه لم يغمض له جفن.. يفكر كثيرًا فيما أخبره به جده.. هو يعلم أن ما سمعه يبدو أسطورة.. ولكن السرداب موجود بالفعل وجده لا يكذب قَط .. ثم نظر فجأة إلى الورقة المكتوب بها سبب رفض والد منى.. أنه يريد شخصًا فريدًا.. شخصًا يرضى جنونه.. وحدّث نفسه.. أنه لن يتزوج غير منى وإلا فلن يتزوج.. ثم علا صوته:

- فيها إيه لو نزلت السرداب.. إفرض كان فيه كنز موجود فعلًا..

ثم صمت، وتحدث لنفسه وكأن شخصا آخر يحدّثه:

- كنز إيه؟.. ده كلام مجانين.. متنساش إن السرداب مسكون عفاريت وأشباح.. ثم عاد مجددًا:

- لو كنت جبان يبقى متستحقش منى.. انت عاجبك حياتك كده.. خريج كلية تجارة وشغلك ملوش أي صلة بالتجارة.. درست أربع سنين عشان تخرج تشتغل في مخزن أدوية.. ولولا إنك عايش مع جدك كان زمان مرتبك خلصان نص الشهر.. لو كنت بتحب منى إثبت لنفسك ولها إنك بتحبها فعلا...

- لو لقيت الكنز ده هتكون أشهر واحد في البلد دي.. لأ في مصر.. لأ في العلم كله.. لو ملقتوش كفاية إنك حاولت...

ثم انتفض من سريره.. وأخرج صورة لمنى.. ونظر إليها قائلًا

- أنا هنزل السرداب ده. هنزل مهما حصل .. وإن كان أبوكي مجنون.. فأنا أوقات منزل مهما حصل .. وان كـ كتيرة بكون الجنون نفسه..

كان خالد يظن أنه يتحدث إلى نفسه وحيدًا.. ولم يكن يعلم أن هناك من يسمع حديثه إلى نفسه بصوت عالٍ خارج الحجرة حيث وقف جده مجاورًا لباب الحجرة يستمع إلى ما حدَّث به نفسه.. ورغم هذا لم تبد على وجهه أي دهشة، وكأن ما سمعه من حديثه عن نزوله السرداب أمر لم يمثل له أي اختلاف، بل بدا كأنه أمر توقع حدوثه.. وظل واقفًا حتى صمت خالد، وأُغلقت أنوار حجرته، وساد الهدوء المكان، لم يقطعه إلا هذا الصوت المميز الذي يعلمه جيدًا حين ينام حفيده..

***

بعدها غادر متكئًا على عصاه إلى حجرته حيث جلس صامتًا على أريكته لدقائق ثم حرك عصاه ليجذب بها صندوقًا خشبيًا صغيرًا بدا عتيقا وفتحه، وأخرج منه (ألبوم ) قديمًا للصور غُطى بالكثير من الأتربة.. وبعد ما أزاح عنه الأتربة بدأ يقلب في صفحاته صفحة تلو الأخرى ، ويشاهد ما به من صور .. حتى توقف كثيرًا عند إحداها..

في اليوم التالي استيقظ كلٌّ من خالد وجده مبكرًا كما تعودا دائمًا؛ فخالد لديه عمله المبكر، وجده لا ينام بعد صلاة الفجر، ويظل يقرأ في كتاب الله حتى ينهض خالد فيتناولا إفطارهما سويًّا .. والذي تعده لهما فتاة تسكن بجوارهما، قد اعتادت على هذا منذ سنوات.. حتى جلس خالد وكان ينظر إلى جده بين الحين والآخر وكأنه يريد أن يخبره بشيء.. حتى قطع صمته، وسأل جده

- عبدو ( كما كان يحب أن يناديه ) .. انت تقدر تعيش لوحدك ؟

فنظر إليه جده.. وأظهر أنه لا يفقه سؤاله:

- انت عايز تسافر ولا إيه؟!

صمت خالد.. ثم نظر إليه مجددًا

- لو سافرت لفترة قليلة.. تقدر تعيش لوحدك ؟ ثم أكمل وكأنه يوضح كلامه ش لوحدك؟ - أنا عارف إن كلامي صدمة ليك.. بس انا قررت إني أسيب البلد لفترة.. وأقسم لك إني هرجع في أسرع وقت.. ومش هتحس بغيابي.. ثم حاول أن يبرر حديثه - أنا هسافر أي مكان ألاقي فيه نفسي.. أحس فيه بوجودي.. انت عارف ابن ابنك خريج كلية التجارة بيشتغل إيه ؟

- آه.. شغال في مخزن أدوية...

- ابن ابنك شغال شيَّال في مخزن أدوية.. شيَّال .. هات الكرتونة دي حطها هنا.. خد

الكرتونة دي وديها هناك..

ثم هم بالوقوف ليغادر.. وقال لجده

- هسافر فترة مش طويلة .. ثم التفت خارجًا، حتى أوقفته جده

- انت ليه بتكدب يا خالد ؟!.. انت ليه مش عاوز تعرّفني إنك عاوز تنزل السرداب؟!

 

كانت تلك الكلمات كالصاعقة التي وُجهت إلى خالد بعدما اختلق رغبته في السفر لفترة كي لا يعلم جده بذلك ، ويظن أنه أُصيب بالجنون.. ولم يعلم كيف عرف جده بنيته.. فنظر إليه مرتبكًا:

- سرداب؟!.. انت عرفت منين؟ !!.. أقصد سرداب إيه.. وكلام فاضي إيه..

فأكمل جده:

- عرفت من زمان.. من زمان جدًا.. ثم أمره بالجلوس مجددًا.. وسأله في جدية:

- انت عاوز تنزل السرداب ليه ؟

صمت خالد.. ثم تحدّث محاولا أن يجعل الحديث مزحة:

- انت ليه مصمم على حكاية السرداب دى.. أنا بقولك أنا هسافر..

أعاد جده سؤاله خالد.. انت عاوز تنزل السرداب ليه؟

فلم يجد مفرًا وأخرج زفيرا طويلًا، وأجاب:

- عايز أنزل عشان أثبت لمنى وأبوها إني بطل.. إني مختلف عن غيري..

فسأله جده

- بس؟

فأجابه في تعجب:

- أيوة بس.. وأكمل:

- ومين عارف، يمكن ألاقي الكنز اللي انتوا كنتوا نزلتوا قبل كده عشانه..

فكرر جده سؤاله:

بس؟

 

- أيوة.

فقال جده في جدية:

- انت مش عايز تنزل عشان كده..

فنظر إليه خالد متعجبًا من الجدية التي لم يرها على وجهه من قبل.. حتى أكمل جده

- إفرض إن منى اتجوزت حد تاني هتنزل السرداب ولا لا؟

فصمت خالد.. و أكمل جده

- عمري ما هصدق إنك عايز تنزل عشان منى.. انت عايز تنزل لسبب تانى تمامًا.. سبب نزولى ونزول غيرى.. السبب اللي بيجرى في دمنا.. دمى، ودمك ، ودم أبوك.. السبب هو حبنا للمجهول.. حبنا للتمرد.. حبنا لاكتشاف حاجة جديدة.. حبا للاختلاف.. 

وأردف:

- لما كنت صغيّر كنت بحكيلك عن السرداب وانت بتعيط .. ويمكن كنت بتبص لها بلك عن السرداب وان إنها مجرد حكاية عشان أسكتك بيها، لكن صدقني كنت عارف إن هيجي يوم وتكبر وأحكيلك من تاني عن السرداب.. مجرد حكاية صغيرة عنه وهتنتفض من جواك..

وتابع:

- ما انت ياما رفضك أبو منى.. وكنت عارف سبب رفضه.. إشمعنى المرة دي اللي حبيت تكون بطل.. لحد ما جه اليوم ده امبارح وحصل جواك نفس اللي حصل لأبوك يوم ما حكيت له عن السرداب.. بس الفرق إني عرفت إنك عايز تنزله، أما

هو راح فجأة..

فقاطعه خالد :

- أبويا نزل السرداب؟!

فأجابه:

- مش أبوك لوحده.. أبوك وأخد أمك معاه.. كانوا فاكرين إنهم هيروحوا رحلة صغيرة ويرجعوا.. عشان كده سابوك وانت ابن سنتين.. وقالوا راجعين بعد أيام.. لكن الأيام بقت شهور، والشهور بقت سنين، والسنين فاتت ومرجعوش.. والبلد کلها عرفت إنهم ماتوا في حادثة.. والكل شكر ربنا إنك مكنتش معاهم ونجيت من الحادثة دي.. لكن الحقيقة إنهم نزلوا السرداب.

ثم تنهد وأكمل:

- عمري ما أنبتهم على كده.. بقول لنفسي ما انت كمان نزلت السرداب وكنت فخور بنفسك.. بس الفرق إن ربنا نجاك .

ثم نظر إلى خالد

- عشان كده عمرى ما هزعل إنك كمان تنزل السرداب.. حتى لو كنت عارف إن قرارك ده ممكن يبعدك عني.. بس لازم تكون متأكد إنك نازل من جواك انت.. مش

نازل لسبب وهمي . حاطه لنفسك هو منى..

وهم بالوقوف.. ومشى بضع خطوات معطيًا خالدًا ظهره:

- ساعة ماتقرر قولي.. لأن لسه كلام كتير عن سرداب فوريك، حد غيري هيقوله لك..

***

بعدها غادر خالد، ولم يتجه إلى عمله كما كان يذهب كل يوم، بل توجه لمقابلة منى بعدما هاتفته، وطلبت مقابلته بأحد الأماكن داخل جامعة المنصورة.. حيث كانا يلتقيان دائمًا.. وفي طريقه لم يشغل باله سوى حديث جده إليه.. وهل يرغب في نزول السرداب حبًا لمنى أم حبًا للمغامرة.. ثم تذكر حديث جده عن والديه اللذين لا يعلم عن هيئتهما شيئًا.. فقد وجد نفسه دائمًا مع جده، ولم ير صورة واحدة

لأبيه أو أمه.. لم يساعده على تخيلهما إلا كلمات بعض أقاربه.. أنه طويل مثل أبيه، فقد كان تقريبًا في مثل طول أبيه الذي يبلغ أكثر من مائة وثمانين من السنتيمترات.. كما كانوا يقولون له، وكتفاه العريضان والبينة القوية.. هذه أشياء يقولون أنه شابه أباه فيها.. أما أقارب أمه فطالما أخبروه أن شعره الأسود الداكن وابتسامته الدائمة يظلان شبها دائمًا بينه وبين أمه..

***

بعدها عاد بتفكيره إلى ذلك الرجل الذي أخبره جده أن لديه كلامًا كثيرًا عن السرداب.. وهذا الاسم الذي سمعه لأول مرة.. سرداب (فوريك).. وظل تفكيره منشغلًا، حتى وصل إلى المكان الذي كان يقصده لملاقاة منى.. فوجدها في انتظاره بحجابها المميز وألوانه المتعددة، وعباءتها السمراء التي طالما داعبها وأخبرها أنه يتشاءم حين تقابله بتلك العباءة.. فنظر إليها بابتسامة فلم تبتسم كعادتها،

وقالت:

- أنا متأسفة إن بابا عمل معاك كده للمرة التامنة..

فضحك :

- لا.. أنا خلاص اتعودت.. أنا بقيت مفضوح في البلد أساسًا.. الناس بتقول عليا إني ضربت الرقم القياسي في رفض جوازك بيا.. وإني المفروض أدخل موسوعة جينيس.. قال تلك الكلمات كي يخرجها من حالة الحزن التي وجدها بها.. ولكن دون

فائدة فأكملت:

- أنا كنت مفكّرة زيك إن بابا عاوز حد مختلف.. بس للأسف بابا اتغير فجأة ..

اندهش خالد

- يعني إيه اتغير؟!!

أجابته:

- فيه دكتور اتقدم لبابا عشان يتجوزني.. وطبعا أنا كنت متأكدة إن بابا هيرفض..

بس فوجئت إنه وافق..

فصاح بها:

- إيه.. وافق؟!!

- آه.. وافق ومصر إني اتجوزه.. وتساقطت بعض دموعها بينما شرد خالد

- وأنا؟

- حاولت اتكلم معاه بخصوص حبي ليك.. فضربني على وشي.. وقال إنه عارف مصلحتي أكتر مني.. وإن مستقبلي مضمون مع الدكتور.. وإني هتعب معاك..

***

كانت منى تتحدث، واختلط حديثها بدموعها.. وخالد ينصت لها لا يصدق ما تسمعه أذناه.. ماذا يريد هذا الأب المجنون؟ كان يخبره بأنه يريد لابنته شخصا فريدا من نوعه.. ولكن يبدو أنه كان يريد أي شخص إلا خالد حسني.. أنا.. هل يضيع حب تلك السنوات بين عشية وضحاها؟!.. إنه لم يحب في حياته مثلما أحبها.. ولماذا لم تعترض هي على قرار أبيها ؟ !.. هل استسلمت خوفًا من عنوستها؟.. كلها أسئلة دارت في ذهنه بينما كانت تتحدث، حتى طلبت منه الرحيل كي لا تتأخر عودتها إلى منزلها.. وكأنها تهرب من لقائه.. فابتسم ساخرًا مشيرًا لها بيده أن ترحل دون أن ينطق.. وكانت المرة الأولى التي يتركها ترحل بمفردها.. وجلس بمكانه ينظر إليها وهي تغادر وكأنها المرة الأخيرة التي يراها بها ، ويخنقه هذا الضيق الذي يشعر به.. تلك هي المرة الأولى التي يشعر معها بالهزيمة.. إحساس لم يجتحه من قبل.. لم ينتبه في أي مرة تقدم إليها لخطبتها ورُفض بها.. كان يعلم أن هناك ما يدعى الأمل حتى لو تقدم إليها مائة مرة حتى يقبل أبوها..

يتذكر تحمله لنظرات الناس إليه، وسخريتهم منه حين كان يخبرهم بأنه سيتزوجها يوم، وستبقى قصة حب يخلدها التاريخ.. كان يظن نفسه أحمق حين طلب

 

منها ذات مرة أن يتزوجها دون معرفة أبيها فرفضت، ودام خصامهما لمدة طويلة حتى اعتذر منها مجددًا.. ولكنه أكثر حماقة الآن.. إنها ستوافق على ذلك الطبيب كما وافق أبوها .. ربما أرادت أن تقابلني تلك المرة كي ترضي ضميرها فقط لا غير.. هكذا حدّث نفسه.. حب سنوات يذوب كقطعة جليد في ثوان قليلة.

حتى قطع شروده صوت رنين هاتفه.. وحين قام بالرد وجد صاحب العمل الذي يعمل لديه يوبخه لتغيبه ؛ فلم يتمالك أعصابه، وأخبره أنه لن يعمل لديه مجددًا.. وأغلق الخط على الفور.

***

بعدها عاد إلى بلدته.. يمشي في شوارعها مطأطئ الرأس.. يشعر بطعم الهزيمة في حلقه.. لا يريد أن يتحدث إلى أحد.. حتى وصل إلى بيته، ودخل غرفته ثم نظر إلى حوائطها المغطاة بتلك الأوراق التي كان يعلقها دائمًا.. أوراق طلبه للزواج من منى ورفضه في الثماني مرات، ووقف أمام كل ورقة على حدة ينظر إليها وهو يسخر من نفسه.. ويضحك بصوت عالٍ كأنه أصابه الجنون ثم قام بتمزيقها جميعًا، وجلس على أرضية الغرفة واضعًا رأسه بين يديه.. سابحًا في ذكرياته مجددًا، حتى انتفض ذاهبًا إلى حجرة جده.. فوجده قد أنهى صلاته.. فسأله:

- انت قلت لي إن فيه حد عنده كلام كتير عن السرداب..

فرد جده في هدوء:

- انت خلاص قررت؟

- أيوة.. أنا عايز أنزل السرداب ..

- عشان منى؟!

تمالك خالد نفسه

- منى خلاص راحت من إيدي.. وخلاص سيبت شغلي.. ولازم أنزل..

ثم أكمل:

- لازم ألاقي حاجة واحدة في حياتي أقدر أحكيها لولادي من بعدي.. عايز أحس مرة

واحدة إني بطل قدام نفسي.. إحساسي بفشلي بيقتلني..

فسأله جده :

- مش خايف إنك مترجعش زي أبوك وأمك؟

فأجابه:

- صدقني.. الحاجة الوحيدة اللي كنت خايف عليها.. إني أسيبك لوحدك، لكن طالما انت بتشجعني مفيش مكان لأي خوف في قلبي..

فابتسم جده

- والعفاريت.. والأشباح وإنه مسكون؟

- معتقدش إني هلاقي عفريت أصعب من بني آدم.. أنا خلاص قررت إني هنزل.. وكان عندك حق لما قلت لي إن منى مش هي السبب.. بالعكس بعد ما منى راحت من إيدي للنزول أكتر من الأول.. يمكن ألاقي في السرداب الذكرى اللي

بلحظات، زاد حبى تخليني أقدر أنسى إهانة ست سنوات لنفسي.. ثم سأل جده:

- مين الراجل ده... وفين ألاقيه.. فابتسم جده:

- اطمن.. هو سمع كل كلامنا.. ويمكن اتأكد إنك عاوز تنزل السرداب فعلًا..

***

نظر خالد إلى جده مندهشًا وكأنه لا يفهم شيئًا حين دخل عليهما رجل عجوز

يقترب في سنه من جده.. وعلى الفور تحدّث جده، وأشار إلى العجوز :

- أعرفك بمجنون السرداب.. أكيد تعرفه..

نظر إليه خالد :

- أيوة طبعًا.. الحاج مصطفى أصلان !!

فأكمل جده :

- مصطفى كان أول واحد فكر إنه ينزل السرداب من خمسين سنة.. وكنا مسمينه مجنون السرداب.. وكان دائمًا يقول إن عنده معلومات محدش يعرفها عن السرداب، ومستني اليوم اللي يقرر فيه حد ينزله.. بعد ما أبوك وأمك مرجعوش.. ثم تركهما كي يكملا حديثهما بمفردهما..

***

نظر خالد إلى هذا العجوز وتعجب مما قاله جده؛ فإنه يعرفه منذ سنوات عديدة.. ولم يعلم أنه مجنون السرداب الذي طالما سمع جده يتحدث عنه وهو صغير.. حتى قطع صمته العجوز :

- جدك حكى لي أد إيه انت عاوز تنزل سرداب فوريك.. وأنا اتأكدت دلوقت..

- أيوة.. بس أنا أول مرة أسمع إن السرداب اسمه سرداب فوريك..

تابع العجوز حديثه :

- هو ده الإسم الحقيقي للسرداب.. ولو بحثت عن الإسم ده في أي مكان استحالة

تلاقي أي معلومة عنه..

ثم تنهد وأكمل:

- الناس بتفكرنا أنا وجدك في عداد المجانين لو اتكلمنا عن السرداب.. ومش مصدقين إننا من خمسين سنة نزلناه فعلًا.. بس دي عندهم حق فيها..

فسأله خالد

- عندهم حق.. يعني إيه؟

 

 

تباعنا ليصلك باقي الجزء الأول من الروايه. 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
M

المقالات

46

متابعين

6

متابعهم

9

مقالات مشابة