البيت الكبير ج1

البيت الكبير ج1

0 المراجعات

دائماً ما كان يتردد داخل هذا البيت الكبير على لسان الشيخ عبدالله كشك أن الجميع فانى ويبقى وجه الله ذو الجلال والإكرام. وهذه حقيقة لا يمكن  لأحد إنكارها، حتى الشيخ الجليل الكفيف لم ينكرها عند سؤال الطفل محمود جعبوبة له ذات مرة إذا كان البشر يسيطيعون رؤية وجه الله الكريم، فأبلغه الشيخ بأن هذا مستحيل في الحياة الدنيا، ولكنها في الآخرة تكون من الفوز العظيم. لم يفهم محمود جعبوبة كلام الشيخ الجليل، ولكنه أعطى الفرصة لطفل آخر- قاسم جبر- بأن يسأله إذا كان الله له أم وأب مثل البشر مما أدى إلى غضب الشيخ، وإزداد وجهه إحمراراً ، وأخبرهم بأن الله لم يلد ولم يولد بل هو الخالق العظيم. كان الكُتَاب هو كل ما يشغل بال شيخنا الجليل، الذى يسترزق منه قوت يومه للإنفاق على عائلته الكريمة التى تعيش في حجرة داخل هذا البيت الكبير المبنى بالطوب اللبن، ذو اللون الرمادى، ورائحة الطين التى ينبعث منها الدفء شتاءاً وصيفاً، بالإضافة إلى إحساس الألفة التى كان يتجمع أعضاء البيت الكبير عليه كل ليلة خميس عندما كان يزورهم حسن الصغير. 

كان السيد أحمد كشك – كبير العائلة- قد أتم عامه الستين منذ عدة أيام قبل زيارة حسن الصغير للعائلة، وكانت زوجته الفاضلة السيدة أم محمد تصغره بخمسة أعوام فقط، ولدت ما يقرب من خمسة عشر طفلاً، عاش منهم عشرة, ست أولاد هم بالترتيب: محمد- عبدالله- فتحى- سليمان- فراج بينما البنات أربعة: أم إسماعيل- إنشراح- سميحة- سيدة. عاش الأبناء بعد زواجهم في البيت الكبير كلاً منهم  يعيش فى الحجرة التى اختارها له  السيد أحمد كشك، ولكنه كان يفضل عبدالله بسبب إعاقته التى لم تكن بيده. ولد عبدالله بصير كباقى أخواته، ولكن عندما بلغ الرابعة من العمر وقع من السطوح  مروراً بالسلالم إلى أن وصل إلى الأرض،  والدماء تسيل من على وجهه كالنهر. لم يكن هناك عيادة أو مستوصف في هذه القرية التى تبعد عن المركز حوالى عشرين كيلو، وبالتالى كانت هناك صعوبة بالغة لإنقاذه من الخطر الذى يهدد سلامته. أخذه السيد أحمد، وجرى به إلى محطة السكة الحديد الموجودة على حدود القرية التى تطل على عزبة الفرغلى باشا، وانتظر هناك لفترة دامت عدة ساعات إلى أن أسدل الليل ستاره. دخل القطار المحطة، وذهب السيد أحمد ومعه عبدالله النائم على كتفه إلى المركز الذى يضج بالحياة على عكس القرية التى يعمها الصمت عقب أداء صلاة العشاء فى الجامع، وذهب به إلى عيادة الطبيب الذى أرشده عليها أولاد الخير ليجدها مليئة بالناس، وفى منتصف الحائط  الأمامى صورة كبيرة للملك فؤاد الأول داخل برواز فضى أنيق. وبعد طابور طويل، أتى التمرجى لإيقاظ السيد أحمد وتنيبهه إلى دوره. عندما رأى الطبيب عبدالله تغيرت ملامحه إلى الأسوأ، وأخبر السيد أحمد بمستقبله المظلم الذى ينتظره . بات السيد أحمد الليلة في المركز في إحدى المساجد باكيًا وداعيًا المولى بأن ينقذ ابنه المسكين. لم تكن هذه الحادثة هينة على أهل البيت، فالكل شعر بالمسئولية  تجاه عبدالله الذى تغير قدره من يوم وليلة ، وكما قيل ذات مرة "رب ضارة نافعة" ، فلم يكن يعلم عبدالله بأن هذه الإعاقة سوف تنجيه من بطش أبيه الطاغى عندما يكبر. 

عاش الأبناء في هذا البيت الكبير في سعادة حتى وصل أكبرهم محمد إلى السن الذى ينبغى عليه أن يغادر القرية، ويذهب للمحروسة للإلتحاق بالأزهر. كان هذا صعباً على أم محمد حيث كانت تعتبر محمد  فرحتها الأولى، أتى إلى هذه الدنيا بعد عذاب تلقته على يد حماتها الجبارة وهددتها إذا لم تنجب فى أول سنة زواج من ابنها الأصغر، ستزوجه من أخرى. كان هذا هو المصير المحتوم الذى تتلقاه أى أنثى تنضم إلى عائلة كشك، عليها سرعة الإنجاب, فهم يحبون العزوة. تم تشيد البيت الكبير بعد ولادة إنشراح بسبب ضيق بيت عائلة كشك على الجميع مما دعاهم إلى الخروج منه والبحث عن مكان آخر، فتم تقسيم الأرض على السيد أحمد وأخواته الخمس  بالعدل  ليتم  بعدها تشيد البيت الكبير. حزنت الجدة على هذا الفراق، ولكن ما باليد حيلة, فالسيدات لا يشغل بالهن سوى الشجار، وإطلاق النكات، والصياح بصوت عالى، وهذا لا يتناسب مع بيت العائلة الذى يتصف بحسن الأخلاق والوقار  والصمت، ولكن بعد وفاة السيد كشك تغيرت الأحوال إلى الأسوأ، وأصبحت النساء يوقعن بين الإخوة، وبالتدريج انهارت عزيمة الجدة بعد ذهاب السند والظهر. سعدت أم محمد بنبأ تشيد البيت الكبير، وشعرت بالخلاص من هم تدبير المكائد وتجنب كلام الأفاعى من سيدات الدار. كان السيد أحمد وزوجته أم محمد أول العائلات التى تغادر بيت العائلة،  وعلى الفور خرجت سلفتها – أم حسين- ورائهم لكسر القلة كتعبير عن سعادتها لمغادرتهم بيت العائلة للأبد. بدأت أم محمد عهدها الجديد كسيدة البيت الكبير في سعادة وسرور، لا يعكر صفوها تلقيح الكلام أو إختلاق الشجار. كانت سميحة أول مولودة شهدها المكان، وعلى الفور انطلقت الزغاريد لتعلن هذا الاسم السعيد الذى أتى بناء على طلب أم العيال من السيد أحمد عندما أخبرته عن أمنيتها في تسمية المولودة على اسم أمها التى لم تراها عندما أتت إلى الحياة. اشتعل الغضب بداخل الجدة التى لم تُسمى أى مولودة باسمها حتى هذه اللحظة، لذلك عزفت عن الذهاب إلى بيت ابنها لتهنئته، وأقسمت بأنها لن ترضى عليه طليلة حياتها. ماتت الجدة وهى غاضبة على ابنها السيد أحمد بعد ميلاد سميحة بعدة أيام، لتنطفأ أنوار البهجة على البيت الكبير، ويطغى عليه الحزن الشديد. 

كانت الجدة سيدة قوية، تزوجت وهى فى سن العاشرة من العمر، وسبب تأخرها في الزواج أنها كانت شرسة, يهابها من بالشارع. تزوجت بعد وفاة أبيها بستة أشهر عندما رفض عطية- أخيها الأكبر- أن يعطيها نصيبها فى الميراث  البسيط- حلتين نحاس وطشت- خوفًا من تبديدها لهما، وسرعان ما زوجها بصديقه كشك الذى كان يسافر معه إلى المحروسة كل فترة لقضاء ليلة أنس يصرفا فيها كل ما يملكونه من مال في خمارة الست زينات. 

دخلت الجدة بيت كشك، وهى لا تزال طفلة مما أدى إلى انفصالها عن زوجها مؤقتًا إلى أن يأتى لها الحيض حتى تتمكن من الإنجاب. عاملتها حماتها – هنومة – معاملة سيئة للغاية، فقد كان منتشراً بين أهل البلد أن هنومة كانت من أشد معارضى هذه الزيجة بسبب سوء أخلاق الفتاة،  وتلفظها بألفاظ نابية لا تليق بهذه العائلة. اعتادت بعدها الجدة وهى صغيرة على الخروج إلى الغيط منذ الخامسة فجرًا لتعمل في الأرض التى يمتلكها  مختار باشا الذى اعتاد أن يأتى لزيارة أرضه مرة كل عام، ويمكث في قصره الفاخر الموجود في نهاية البلد على الحدود مع عزبة الفرغلى باشا. كانت تأمل الجدة منذ نعومة أظافرها بأن تدخل هذا القصر ولو مرة واحدة، فالحدائق الغناء التى كان يحظى برؤيتها البعض من الخارج تجعلهم يتخيلون أن هذا القصر جزء من جنة الله على الأرض.

 دخل كشك على زوجته الصغيرة بعد أشهر عديدة من زواجهما، ولأول مرة عرفت هذه الفتاة العنيدة معنى الإنكسار عندما خرجت هنومة إلى الشارع لتعلن أمام الجميع انتقال زوجة ابنها من مرحلة الطفولة سريعًا، وهى الآن تستعد لأن تكون أم في أقرب وقت ممكن حتى لا تأتى أخرى وتحل محلها.

كانت بطنها كبيرة أمامها وهى حافية وملفوف حول رأسها طرحة مهرولة من كثرة الإستخدام، تقف تجنى القطن في عز الصيف. اعتادت أن تأخذ يوميتها من ملاحظ الأنفار الغليظ  ذو الشارب الكبير، وتجرى على بيت هنومة التى دائمًا ما كانت تلعنها في سرها عندما تأخذ اليومية التى رأت فيها التعب والمشقة منذ الفجر حتى الظهر إلى أن نصحتها عبلة بنت السيد الراضى التى تماثلها في العمر، ومتزوجة ابن عمتها ، بأن تخفي جزء من اليومية بعيدًا عن يد حماتها. اعتادت الصغيرة على فعل هذه الخطة الجهنمية حيث كانت تدخل البيت وتعطى لهنومة جزء من اليومية، والباقى تضعه في خرقة ثم فى حفرة أسفل السرير بدون أن يشعر بها أحد لتخرج بعدها وتضع الغداء لأهل البيت الذى يتكون من عيش ولفت مخلل ومِش ثم ينام الجميع إلى العصر ثم تستيقظ مع حماتها ليطبخن العشاء الذى عادة ما يكون حلة ملوخية من غير سمين أو بامية أو بطاطس بجانب العيش المخبوز وليس الأرز. كان من عادة الفلاحين  ألا يبذروا وإلا سيصيبهم البلاء من غير ما يحتسبوا. الدجاج والبط والأوز في كل البيوت، ولكن ممنوعة من أن تذبح وتأكل إلا ما يكون منهم على شفا الموت، فتلحقها الست الكبيرة بالسكين حتى لا تقع الخسارة الفادحة، وسرعان ما يعم البيت حالة من السرور بسبب تذوق لحم هذا الطير! السوق هو المكان المفضل الذى تذهب إليه الفلاحات كل يوم خميس، فهو يمثل عند هنومة يوم العيد الكبير عندما يقف أهل القرية أمام قصر مختار باشا طوابير لينالوا فتات اللحم ليتذوقوها مرة واحدة كل عام. كانت الحياة صعبة، والخير لا يعود دائمًا إلى أصحابه. فهؤلاء الفلاحين يشقون ليلاً ونهارًا ويحرمون أنفسهم من متاع الحياة، ليذهبوا يوم الخميس إلى السوق ليبعوا الجبن والسمن والقشطة والطيور والبيض بينما يقضى غيرهم أيامهم في سعادة وسرور. كانت تدخر هنومة المال تحسبًا للغد الغير معلوم . تجرأت الفتاة الصغيرة ذات مرة, ودخلت حجرة الخزين لتنال قطعة من القشطة عندما كانت تتوحم في شهورها الأولى، ولكن هنومة اكتشفت هذه الخيانة سريعًا، فأحكمت بعدها إغلاق الحجرة, وأخفت الخيرات حتى لا تمسها يد هذه الملعونة. لم تشتكى الفتاة من سوء المعاملة التى تتلقاها من حماتها لأنها ببساطة كانت تعاملها بالمثل، وتمنعت عن إعطائها يوميتها لمدة أسبوع كاملاً جزاء إهانتها لها. 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

1

متابعين

0

متابعهم

1

مقالات مشابة