بذلة الغوص و الفراشة: الجزء الثامن

بذلة الغوص و الفراشة: الجزء الثامن

0 المراجعات

السياح 


بعد أن استقبل بارك، في اليوم التالي للحرب، الضحايا الصغار لمهلكة السل الأخيرة، شيئا فشيئا تخلى عن ارتباطه بالأطفال، و بات
اليوم يواجه مآسي الهرم من أعطاب الجسم و النفس، لكن طب الشيخوخة ليس إلا جزءا من اللوحة التي علينا رسمها لتحصيل فكرة دقيقة على نزيلي المؤسّسة.

هنالك قرابة عشرين حالة غيبوبة دائمة أعلى طرف الجدول، شياطين بائسة ممددة في ليل بلا نهاية، على عتبات الموت، هم لا يغادرون حجراتهم البتة، غير أن الناس جميعا يعلمون أنهم هنا يثقلون المجتمع بحمل غريب كتأنيب الضمير.

في المقابل، بجانب جالية المسنين المهملة، تُطالعنا السحنات المنهكة لبعض مرضى السمنة ممن يأمل الطب تقليص قياساتهم المعتبرة.

وفي الوسط، كتيبة عُرج مثيرة للاهتمام تشكل القسم الأكبر من النزلاء، و أفرادها الخارجون من حوادث الرياضة و الطريق ومن كل أنواع الحوادث المنزلية الممكن تخيلها، يقيمون ببارك ما يكفي من الوقت لجبر أعضائهم المكسورة ثم يرحلون، لذا سميتهم «السياح».

ختاماً، إذا أردنا لهذه اللوحة أن تكتمل، وجب البحث عن ركن يصلح لطيور بأجنحة مقطوعة، و لبغاوات بلا صوت، و لـ«غربان البين»، و لقد هُيئت لنا «أعشاش» بالممر الواقع عند نهاية قسم الأعصاب.

 بطبيعة الحال كنا نفسد المشهد، أعرف جيدا
ذلك الإحساس بالكآبة الذي يخلفه مرورنا الثقيل و الصامت بحلقة مرضى أقل تلفاً.


تمثل قاعة العلاج الطبيعي - و بها يختلط كل المرضى المعنيين بإعادة التأهيل - أفضل موقع لملاحظة هذه الظاهرة، إنها ساحة
حقيقية لمعجزات صاخبة و ملونة.


وسط قرقعة الأعضاء الاصطناعية و الجبائر و الأجهزة المعقدة إلى حد ما، يتجاور شاب ذو أقراط في الأذن محطم من حادثة دراجة
نارية، و جدة ببذلة رياضية براقة بصدد تعلم المشي مجددا، بعد سقطةزمن على سلم نقال، و شبه متشرد لم يفهم أحد كيف اقتلع المترو قدمه.


تحرك هذه الحشود المصطفة بالترتيب من الأكبر إلى الأصغر، أذرعها و سيقانها تحت رقابة متساهلة، بينما أكون مثبتاً إلى آلة ذات وضع مائل تحرك تدريجيا إلى الوضع العمودي، وهكذا أقضي كل صباح نصف ساعة من التدلي، في تخشب يذكر بظهور تمثال «الآمر» في الفصل الأخير من «دون خوان» لموزارت.

 في الأسفل، واحد يضحك، و آخر يمزح، و ثالث يطرح تساؤلات، أود أن أحصل على نصيب من كل هذا المرح، لكن ما إن أضع عيني الوحيدة عليهم: الشاب و الجدة و المتشرد،
حتى يشيحوا بوجوههم استجابة لرغبة طارئة في تأمل طفاية الحرائق المثبتة إلى السقف. يبدو أن «السياح» شديدو الخوف من النار!

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
اسلام ابراهيم
المستخدم أخفى الأرباح

المقالات

460

متابعين

613

متابعهم

116

مقالات مشابة