إنها مجرد.. رؤيــــا
سيناء: ظهيرة 5 يونيو 1967م.
(1)
- "انسحبوا"
- "إلى أين؟"
- "نفذ الأمر!"
كيف؟ ولا شيء حولنا سوى العراء..
لا شيء أمامنا سوى الهجير والرمال! والموت يحلق فوق الرءوس!
نركض في العراء تطاردنا المروحيات كأشباح طائرة.. خلفنا تدوي الانفجارات، تقعقع النيران في المركبات والآلات، يتناثر الرصاص، تتناثر الجثث، يتناثر الرمل في الشكائر المعبأة، وتحت الأقدام اللاهثة.. ونحن نركض.. نركض.. بلا وجهة..
نركض بلا هدى.. نركض بلا أمل في النجاة!
هذه التبة الصخرية أقرب سبيل للنجاة، لو استطعنا أن نبلغها.. لو استطعنا أن نتوارى خلفها من الأشباح الطائرة، والرصاص المتناثر، كم يفصل بيني وبينها، حوالي مائة متر! أبعد مائة متر رأيتها في حياتي!!
كم يلزمني من الوقت لأبلغها وأنا أركض بهذه السرعة؟ ربما دقيقة واحدة.. ستون ثانية! لكنها ستكون أطول ستين ثانية في حياتي!
أنفصل عن (سليمان) وأركض نحو التبة الصخرية، عيناي شاخصتان نحوها بشكل جنوني، لو أنها تحنو وتقترب مني، وتضيق المسافة والوقت.. لن ألتفت للخلف، لن أنظر من يتبعني، لن أحاول أن أعرف كم تبعد الأشباح الطائرة عني، سأصم أذنيّ عن أصوات الطلقات والصرخات والصيحات.. لن أرى شيئًا ولن أسمع شيئًا حتى أصل إلى تلك التبة! أنا أقترب منها وأقترب.. لكنها لم تزل بعيدة عني.. بعيدة.
يتبقى أمامي بضع خطوات لأبلغها، لكنها أطول وأبعد "بضع خطوات" أخطوها في حياتي!!
***
(2)
السماء ناصعة أكثر من اللازم، لا توجد غيوم ألبتة..
الأرض يابسة أكثر من اللازم، لا توجد خضرة ألبتة..
الشمس ساطعة أكثر من اللازم..
الجبال شاهقة أكثر من اللازم..
الرمال زاهية أكثر من اللازم..
كل شيء هنا يبدو واضحًا ومحددًا أكثر من اللازم!
كل شيء يبدو لي قاسيًا وجامدًا أكثر من اللازم..
أعرف أننا سنموت خلال سويعات قليلة، وبطريقة بشعة.. لقد رأيت الطوفان بعينيّ، وأنا بكامل وعيي! لا تسألوني كيف عرفت أيها الحمقى، فأنتم الآن صرتم تعرفون يقينًا أنني أعرف كل شيء، في البدء كذبتموني، وسخرتم مني، لكنكم في النهاية صدقتموني، ربما بعضكم ما زال يشك، هذا الجاهل الذي يدعي التدين - المدعو (صالح) - ما زال يشك، ويردد أمامي ومن خلفي: "كذب المنجمون ولو صدقوا"..
أنا لست منجمًا، ولا عرافًا، ولا قارئ كف.. أنا فقط أرى أشياء سوف تحدث، قبل حدوثها.. تعرفون بالتجربة أنني صادق، فلا جدوى من تكذيبي الآن، فقط لأن رؤياي الجديدة لا تروقكم.. نعم أنا أخبركم أننا سنموت خلال سويعات قليلة، وبأبشع الطرق، لا تسألوني كيف، ولا لماذا.. لقد رأيت الطوفان أحمر بلون الدم، له غثاء أقل احمرارًا، كان يجرف كل ما في طريقه، ونحن كنا في طريقه.. إنه طوفان كطوفان (نوح)، لكن ليس ثمة سفينة تحملنا وتنقذنا منه.. فقط صحراء ممتدة، مترامية الأطراف، وصخور وشكائر رمل لم تصمد أمام هذا الطوفان الهادر.
لا أعرف من أين أتى هذا الطوفان، ولا كيف.. ولا أعرف لماذا ماؤه أحمر بلون الدم.. حين أقول لكم إني أعرف كل شيء، لا أعني ذلك حقًا.. أنا فقط صاحب رؤى لا أكثر، وتلك الرؤى تأتيني في اليقظة أو النوم، أحيانًا تكون صافية نقية، أستطيع تناولها ووصفها بكل وضوح، وأحيانًا تأتيني مشوشة مختلطة، أجد صعوبة في التقاطها والتعبير عنها!
لعلها هذه المرة ليست رؤيا.. ربما كانت مجرد شعور يقبض على القلب والفكر، أو خاطرة تومض في ذهني تخبرني دون توقف أننا سنموت جميعًا وبأبشع الطرق، لست واثقًا هذه المرة، ولا تسألوني ما تلك الطرق البشعة؟ لأني ليس لديّ فكرة بالمرة.. فقط أثق بأننا سنموت خلال سويعات قليلة بتلك الطرق البشعة..
لا شيء حولنا سوى صحراء بمحتوياتها المعروفة: جبال، وتلال، وصخور، ورمال.. ونحن أضفنا بعض الحفر العميقة، وبنينا جُدُرًا بشكائر الرمل المعبأة بهدف الحماية من هجوم افتراضي، لا نتوقع حدوثه في الواقع، لكنني أعرف أنه لو وقع فعلاً لن تحمينا تلك الجدر الرملية منه!
***
(3)
حسنٌ.. بما أننا سنموت دعوني أخبركم بالحقيقة، لقد كنت كاذبًا بالفعل..
كنت أتسلى بكم فقط أيها الأغبياء، ماذا أفعل؟ لقد وجدت نفسي بين مجموعة من الحمقى والجهلاء والبلهاء، الذين لا يجيدون حتى كتابة أسمائهم، لا يجيدون سوى الثرثرة، والرقص والغناء، والتهام الطعام كالحيوانات، والمزاح الصاخب.. كنت في أتعس حالاتي وأنا أنظر إليكم أيها الحيوانات.. أنا متعلم.. مثقف.. رغم أني لم أكمل تعليمي، لكني أقرأ كثيرًا، وأكتب الشعر والقصص، بينما أنتم عاجزون حتى عن تهجي أسمائكم..
فجأة وجدت نفسي بينكم، أرتدي هذا الزي المموّه البغيض، وأحمل هذه البندقية العتيقة، وأركض في الصحراء، وأعبئ الرمل في شكائر، وأحملها بثقلها على ظهري لأبني بها حائطًا سخيفًا، يزعمون أنه للحماية والاستتار من العدو، ولكن أين هو العدو؟ لا شيء هنا على الإطلاق سواكم أيها الحمقى البلهاء، وتلك الصحراء الشاسعة التي تبدو بلا نهاية، وهؤلاء البدو الذين يظهرون بين الفينة والفينة كأنهم أشباح يقودون حيوانات هزيلة، أنهكها الجوع والظمأ.. لا شيء هنا سوى رمال، صخور، تلال، فراغ، أفق واسع، حفر متناثرة، أصوات مختلطة..
لا شيء يربطنا بالعالم سوى "مذياع" نستمع إليه خلسة، وهو يقرأ القرآن أو يمجّد في الزعماء، الأصوات الحقيقية تنطق فقط بلغات أجنبية لا نفهمها، وهكذا وجدنا أنفسنا بين خيارين: أن نستمع لما نفهمه ونعلم أنه كذب، أو نستمع لما لا نفهمه ونعلم أنه صدق! أنا الوحيد الذي أعرف أنهم يكذبون!
كنت أبحث عن وسيلة للتسلية، وفجأة جاءتني الفكرة، أذكر تلك البداية جيدًا، حين كان (رمضان) و(عدلي) يتشاجران على المذياع، وكان (رمضان) يريد الاستماع لمباراة كرة، بينما (عدلي) يريد الاستماع إلى (وردة) الجزائرية وهي تغني على ألحان (بليغ).. عرفت أن المباراة بين "الأهلي" و"الزمالك"، فقلت لـ (رمضان) بصوت وقور:-
- "سيتعادلان.. لن يتمكن أحدهما من الفوز على الآخر.."
نظر لي باستخفاف وقال:-
- "وما أدراك؟"
فرددت متظاهرًا بالحزم والثقة:-
- "لو أردت أن أخبرك بالأهداف ومن سيحرزها سأفعل"
لحسن الحظ أنه لم يطلب، ولم يسأل، لأنه تعامل معي باستخفاف، وعدم اكتراث.. من أين لي أن أعرف أن التعادل سيكون بهدف لمثله؟ ومن أين لي أن أعرف أن الهدفين سيحرزهما: (عمر النور)، و(طه إسماعيل)؟ من أين لي أن أعرف: (عمر النور) و(طه إسماعيل) أصلاً؟
أنا لا أحب الكرة، ولا الأغاني، لكني أحب أن أعرف شيئًا عن كل شيء، ولهذا تجدني أعرف عنهما دون أن أتابعهما باهتمام.
لا أعرف لماذا توقعت التعادل بالذات، أغلب الظن أني اخترت أيسر الخيارات، فلو أني توقعت فوز أحدهما وحدث العكس سأكون مثارًا للسخرية من أنصار الفريق الفائز، لكن لو توقعت التعادل وفاز أحدهما، لن يعبأ أنصار الفائز بكذب توقعاتي!
على كل حال حدث ما توقعته، المضحك أني تحدثت عن التعادل فقط، فإذا بـ (رمضان) يضيف من قريحته أني توقعت التعادل بهدف لكل منهما، رغم أني لم أقل هذا أبدًا، ربما لأني زعمت أني أعرف من سيحرز الأهداف.
كان الأمر حينها لا يعدو أن شخصًا ما توقع نتيجة مباراة وحدثت كما توقع، لكن بعد ذلك توالت توقعاتي، لكني كنت من الذكاء بحيث لا أفرط في التوقعات، ومع الوقت أتقنت اللعبة، فجاءت توقعاتي غير صريحة، وغير مباشرة، بحيث تنطبق على أي حدث ممكن أن يقع.. كانوا يسخرون مني، ويكذبونني صراحة، (عباس) ذلك الفتى القادم من الصعيد، ويحمل فظاظة وغلظة أهل الجنوب، صفعني على قفاي على حين غرة، وقال ساخرًا:-
- "لمَ لم تتوقع هذه الصفعة؟!"
وأضحك الجميع مني، لا بأس.. لقد سمعته حين عاد من إحدى الإجازات وهو يشكو لـ (رجب) أن أباه مريض جدًا، ويوشك على الموت، وأنه قلق على ذلك، ولا يستطيع معرفة ما سيحدث في غيابه، فلا توجد وسيلة للاتصال بعائلته، ومضى يسرد ما يعانيه والده دون أن يلحظ أني أستمع من بعيد.. انتظرت حتى رأيته يحزم أمتعته للإجازة التالية، لأتوجه إليه وأقول في لهجة مواسية:-
- "لا تبتئس.. الموت علينا حق، إنه ليس شيئًا سيئًا، بل نهاية شقاء.. أحيانًا يكون الموت نجاة لنا من الشقاء والألم!"
نظر إليّ منزعجًا وقال:-
- "عم تتحدث؟ من الذي مات؟"
قلت وأنا أستدير للانصراف:-
- "ليس أنت.. إن كان هذا مطمئنًا لك"
وابتعدت بخطوات سريعة قبل أن أتعرض لسؤال آخر.
لو حدث الأمر كما توقعت سأُخرس كثيرًا ممن يسخرون مني، وإن لم يحدث، فأنا لم أقل شيئًا صريحًا عن موت أحد بعينه، على كل حال (عباس) يعيش في قرية جنوبية، بعيدة عن التحضر والرعاية، لا ريب أن أحدًا هناك من جيرانه أو من أقاربه مات خلال هذه الفترة، لا يعقل أن يمر عليهم ما يقرب من شهرين دون أن يموت أحد! وأنا لم أحدد من الذي مات!
لا أعرف كيف استقبل (عباس) نبأ موت والده في غيابه، أعتقد أنه فكر في كلامي له وكانت دهشته أكبر من صدمته بالنبأ، لا بأس.. إن الأمر ليس بحاجة لموهبة خاصة لأتخيل (عباس) وهو ينوح على والده، ويتلوى في الأرض ويشق ثيابه، هكذا يفعل أهل الجنوب في تلك الأحوال، وعندما عاد تجددت أحزانه، وكانت الفرصة مواتية لي لأذكره بنبوءتي، جلست بجواره، ورحت أربت على كتفه بشفقة، وأقول:-
- "تذكر ما قلته لك قبل مغادرتك.. الموت ليس بالضرورة شيئًا سيئًا، بل ربما كان نهاية شقاء.. أحيانًا يكون الموت نجاة لنا من الشقاء والألم! لقد استراح والدك!"
وبالطبع لم تكن غايتي المواساة أو التعزية، بقدر ما كان غرضي التذكير بأني تنبأت بهذا.. ولم يكن عجيبًا أن يلحق بي (رجب) ويسألني منبهرًا:-
- "كيف عرفت؟"
لأجيب بصوت عميق:-
- "لا شيء.. كانت مجرد رؤيا!"
تلك الواقعة تحديدًا كانت نقطة تحول في مسار علاقتي بهم، ثم توالت الوقائع.. كنت أستمع إليهم! أتنصت.. أتلصص.. أحتفظ بكل شيء أسمعه في ذاكرتي، وأدرب نفسي على صياغة تلك النبوءات الفارغة، التي يتحقق أغلبها، وما يخطئ منها لا يمكن ملاحظته في ظل غموض التعبير عنه! كنت أكذب.. أكذب.. أكذب.. ولم يخطر على بالي مطلقًا أني صادق في ما أكذبه! وأني بالفعل أمتلك الموهبة!!
***
(4)
على عكس الكثير من الناس أنا أحب الظلام!
حين تتلاشى الصور والمكونات، وتتعامى الكتل القاتمة فلا تتبين معالمها أو تفاصيلها..
وحين تبتعد الأصوات الصاخبة، ولا يتبقى سوى وشيش مذياع ما يضعه أحدهم على أذنه.. وهسيس براد ما ممتلئ بالماء، ومثبت على قطع من الحجر، بينها تجويف يسمح بدس المواد القابلة للاشتعال، وصفير رياح تتجول في العراء المحيط، وغطيط أقوام غابوا عن العالم، وهاموا مع الأحلام!
في لحظة كهذه تشعر بأن هذا العراء مملكة خاصة بك، أنت حاكمها المتوّج، وتهيم مع الأفكار والذكريات، وتمتطي صهوة الأمنيات، لتفر إلى بعيد.. إلى بعيد.. في لحظة كهذه التي أحياها الآن أجد نفسي أكتب الشعر دون أن أمسك بورقة أو قلم.. أسافر عبر الزمان والمكان دون قطار أو طائرة، وعندما أمسك السائل الأسود الثقيل مر المذاق أجد نفسي واحدًا من الفراعين القدامى ممسكًا بالصولجان!
صوت (عدلي) يأتيني كالحلم، وهو يتساءل:-
- "يقولون في الراديو إن الزعيم أغلق باب المندب؟ هل هذا جيد؟"
أجبت كالمستغرق في النوم:-
- "بل سيئ.. أي قرار تسمعهم يمتدحونه في المذياع تأكد أنه سيئ!"
ويأتيني صوت (رجب) متسائلاً هو الآخر:-
- "والقرارات التي لا يمتدحونها؟"
أجيب بنفس الخمول:-
-"هذه أسوأ!"
فينفجرون بالضحك، ويغمغم أحدهم بصوت متقطع:-
-"(علاء) سطله الهواء!"
ثم يكتشف أن العبارة مسجوعة، فيكررها عدة مرات باستمتاع، وهو منخرط في الضحك.
على ضوء النجوم الباهتة، والنار التي تشتعل تحت البراد منذ زمن بعيد، أرى وجوههم الكالحة، التي يبدو عليها البؤس محفورًا كالأخاديد العميقة.. هؤلاء البؤساء لا يعرفون شيئًا عن الماضي أو الحاضر، فضلًا عن المستقبل، اختطفوا من أهليهم وبلدانهم ليودَعوا في الصحراء القاحلة، دون أن يعرفوا سببًا لوجودهم هنا.. لا يملكون شيئًا سوى الثرثرة والبحث عن أي شيء يجعل الوقت يمر دون أن يشعروا به!
شاي الموقد الحجري الذي كان العرب قديمًا يسمونه "الأثافي" له مذاق جميل جدًا، أفضل من شاي "الوابور"، لأنه يغلي ببطء أشد.. ويكون ثقيلًا جدًا حتى لو قللت من كمية الشاي الجاف فيه، كما يكون مرًا لاذعًا بطريقة لا يحتملها المرفهون! لا أحد مرفه هنا، كلهم جاءوا من القرى البعيدة والقريبة، ومن الأحياء الشعبية.. أما الأثرياء فلديهم وسائل للهروب من هذا المنفى المغلف بصورة الواجب الوطني!
من الرشفة الأولى شعرت بانتعاش، المذاق المر على طرف لساني وفي حلقي بديع جدًا.. لهذا أفضل ألا أكون من شاربي الدور الأول، حتى أتباطأ وآخذ راحتي في شربه.. شاي البراد يغلي ببطء، ويبرد أيضًا ببطء، لا ضير لو أرجأت نفسي للدور الثاني، سيظل البراد على بقايا الجمر، ولن يفقد حرارته.
أهيم مع الرشفات المرة الثقيلة، يتنبه العقل والوجدان معًا، هذا العراء المظلم القاتم مملكتي الآن، هم أيضًا سينتشون، وبعد قليل ستجد المذياع يبث ألحان (بليغ حمدي) الراقصة، أيًا كان الصوت الذي يشدو بها، وستجد هؤلاء التعساء يغنون معه، ويرقصون ويصخبون، وينفضون الخمول والوسن.. هؤلاء ليسوا مقاتلين، يمكنك أن تصفهم بالمزارعين، أو عمال المصانع، أو تجار الأسواق الفقيرة، أو حتى المتسكعين بالقرب من محطات الترام، وعلى كورنيش النيل، بانتظار مشاهدة فتاة أو امرأة سافرة.. أي شيء بعيد عن القتال.
هؤلاء الذين لا يحصلون من أوطانهم إلا على الفتات، هم أول من يلبون نداء الوطن عند المحنة، وهم من يبذلون أرواحهم من أجله، بينما الآخرون الذين يتمرغون في خيراته وثرواته يختبئون، أو يفرون!
إنهم يعيشون في بؤس متصل، ورغم ذلك لديهم قدرة عجيبة على انتزاع السعادة والضحكات من براثن هذا البؤس القاتم، لا أظن أن هناك شعبًا في الدنيا يملك هذه الموهبة على الضحك والتمتع في الضنك والمحن كالمصريين، يقابلون البؤس والشقاء بالدعابة، ويجابهون الظلم والبطش بالسخرية، لهم تاريخ طويل مع الاستبداد والاستعباد، كما لهم تاريخ عريق مع الدعابة والسخرية!
الآن سيبدأ مفعول الشاي الثقيل الذي ارتشفوه، سينهضون في يقظة تامة، ويبدءون الرقص والغناء، لينتزعوا تلك السعادة المحجوبة، والمتعة المختفية تحت طيات الضنك والحرمان والعوز، سيبدأ الصخب وسط طيات هذا الصمت الصحراوي الغليظ!
لن أشاركهم الغناء ولا الرقص لأني لا أحب هذا، كما أنه يفقدني وقاري بينهم، فلأحافظ على مظهر الجندي المثقف الذي يعرف الكثير، والذي يمتلك موهبة فريدة: رؤية الأحداث قبل وقوعها.. وهم إن تشككوا في تلك الموهبة، فلن يتشككوا لحظة في ثقافتي ومعارفي..
سأجلس بينهم قليلًا أطالع رقصهم وغناءهم ومزاحهم، وأشاركهم الضحك فقط، ثم أنهض بعيدًا تجاه العراء لأقضي وقتي في السباحة في عالم الذكريات!
***
(5)
الحقيقة أني لا أعرف شيئًا على الإطلاق، رغم تظاهري المتقن بأني أعرف كل شيء، فلا أعرف متى أنهي تجنيدي، ويطلقون سراحي، ولا أعرف متى سأعود إلى أهلي وإلى حبيبتي (غادة)، ولا أعرف حتى إن كانت ستستمر معي أم ستهجرني بعد أن يئست مني.. آخر لقاء بيننا كان يوحي بأن ما بيننا انتهى فعليًا، طلبت منها مهلة لتراجع نفسها حتى إجازتي القادمة.. لا أعتقد أنها تحتاج إلى هذه المهلة، فقد حسمت قرارها بالفعل، وقالتها لي صراحة: كلانا لا يناسب الآخر! قبولها المهلة كان فقط من باب المجاملة الأخيرة، قبل الافتراق.
فجأة وجدت (سليمان) بجانبي، وأنا أستعد للابتعاد عن الجمع، أعرف ماذا يريد بمجرد أن يجلس بجواري تلك الجلسة، ويواجهني بتلك النظرة، ليسألني بعدها:-
- "هل رأيت شيئًا جديدًا؟"
أجمل ما في (سليمان) أنه يؤمن بي ويصدقني، ويأتيني من آونة لأخرى ليسألني عما إذا كنت حظيت برؤيا جديدة، إن كان مزاجي متعكرًا، وذهني مشوشًا فإني أجيب بالنفي، أما إن كان مزاجي رائقًا، وذهني صافيًا فإني أختلق له رؤيا غامضة، في الغالب لا يفهمها، ورغم ذلك يصدقها، ويقوم بتنزيلها على أي واقع يحدث!
الغموض اسم اللعبة، الناس تؤمن بالأشياء الغامضة، وتتشكك في الأشياء الواضحة الصريحة، ألا تراهم يؤمنون بالكهان ودجلهم، رغم أنهم لا يفقهون إلا القليل جدًا من كلامهم؟!
معنا جندي اسمه (حمزة).. متصوف، يأتي بكتب تشتمل على أوراد وصلوات صوفية، وهو بالكاد يجيد القراءة، ولا يعي منها حرفًا، ورغم ذلك يؤمن إيمانًا جازمًا بأنها نزلت على السادة الأولياء بطريق الإلهام، أو عن طريق (الخضر)، وحين أسأله عن معنى أي عبارة منها يرد قائلًا:-
- "هذا كلام لا يفهمه إلا الخواص!"
أسأله:-
- "وأنت لست من الخواص، فكيف تؤمن بما لا تفهمه؟"
فيرد بطريقة مفحمة:-
- "أنا دوري أن أتحلى بالإيمان، لا أن أفهم، وهل تفهم أنت كل ألفاظ القرآن؟"
لقد تعلمت منه القاعدة: كلما كان كلامك غامضًا كان أقرب للتصديق والاعتقاد! فالناس تقدس ما لا تفهمه، وتستخف بما تفهمه، إذن لتكن رؤياي غامضة مبهمة، لتحظى باحترامهم.. وهذا ما أجدت فعله حقيقة..
(سليمان) ينشد رؤيا، وأعتقد أن مزاجي رائق، وذهني صافٍ، فلأعطه ما يريد:-
-"أرى كل شيء مقلوبًا.. السماء أسفل منا، والأرض فوقنا.. أرى السماء تمتص القطر، والأرض تبتلع النبت، أرى الناس والدواب تسير للخلف.. كل شيء مقلوب.. كل شيء يسير بالعكس.."
ينظر إليّ مشدوهًا، يتساءل:-
- "ما معنى هذا؟"
أهز رأسي بوقار زائف وأقول:-
- "أنا نفسي لا أفهم.. أنا فقط أرى.."
ثم أسير مبتعدًا كي لا أضيف المزيد.. فثلاثة أرباع الأثر المرجوّ يكمن في أن تظل الحيرة قابعة، والجهل ماثلاً!!
***
(6)
أنفصل عن (سليمان) وأركض نحو التبة الصخرية، عيناي شاخصتان نحوها بشكل جنوني، لو أنها تحنو وتقترب مني، وتضيق المسافة والوقت..
لن ألتفت للخلف، لن أنظر من يتبعني، لن أحاول أن أعرف كم تبعد الأشباح الطائرة عني، سأصم أذنيّ عن أصوات الطلقات والصرخات والصيحات..
لن أرى شيئًا ولن أسمع شيئًا حتى أصل إلى تلك التبة! أنا أقترب منها وأقترب.. لكنها لم تزل بعيدة عني.. بعيدة..
يتبقى أمامي بضع خطوات لأبلغها، لكنها أطول وأبعد "بضع خطوات" أخطوها في حياتي!!
***
(7)
خطابات.. هذا كل ما كان يصل بيني وبين (غادة).. فقط وريقات تزخر بالكلمات الرقيقة الدافئة، هل كنت أحب (غادة) فعلًا؟ أحيانًا أشعر أن الحب ما هو إلا تقليد، وليس شعورًا حقيقيًا، قرأت كثيرًا من الشعر القديم، وحتى الحديث، أكثرهم يبكون على الأطلال، ويتوجعون لفراق المحبوبة، هل كلهم فارق محبوبته؟ وأي أطلال يبكون عليها وأكثر هؤلاء الشعراء يعيشون في الحضر، إنهم يقلدون شعراء البادية دون شعور حقيقي!
لاحظت أن كثيرًا من المراسم نتبعها في حياتنا اليومية وفي المناسبات دون أن تستند إلى منطق، البشر بطبيعتهم يحبون التقيد بتقاليد معينة في حياتهم وفي إبداعهم أيضًا، ويعدون الخروج عليها انحرافًا وبما أشنع من الانحراف. ولكن لماذا؟ لماذا يصر البشر على تقييد أنفسهم بتلك التقاليد، رغم أن طبيعة النفس البشرية تميل إلى الحرية والإنطلاق؟!
انتبهت فجأة إلى أن التقاليد سميت بذلك لأن الناس يقلد بعضهم بعضًا فيها.. فهل يصل التقليد إلى المشاعر أيضًا؟ لماذا أفكر بهذا الشكل؟ ربما لأن علاقتي بـ (غادة) بدأت بعد ما عرفت بعلاقات بعض أصدقائي! أنا نفسي كنت أكتب الخطابات لهم بيدي، لأنهم يملكون المشاعر، لكنهم لا يملك الموهبة، وأنا العكس، ثم التقيت بـ (غادة).
ما أعرفه أن (غادة) جميلة وذكية، وفوق ذلك قوية الشخصية، تستطيع أن تتخذ قراراتها بنفسها، دون أن تنصاع للآخرين، من النادر جدًا أن تجد امرأة تجمع بين الجمال، والذكاء، والقوة، النساء بطبيعتهن تافهات، حمقاوات.. ينظرن إلى العالم بعيون عمشى، ولا يرين شيئًا سوى القليل مما يطفو على السطح.. لكن (غادة) تختلف عن الأخريات..
هل حقًا هي تختلف عن الأخريات؟ أم أن كل عاشق يظن ذلك في محبوبته؟!
ما أعرفه أني أتمنى (غادة) في حياتي، وما أعرفه أيضًا أني لا أستطيع القيام بأي خطوة، أنا لم أكمل تعليمي، وكنت قانعًا بذلك، (العقاد) لم يكمل تعليمه وصار صرحًا من صروح الثقافة، أصدقائي يسمونني بـ (العقاد) الصغير! لم أحصل على العمل المناسب، كل الأعمال التي أتيحت لي حقيرة، شعرت بأنها ستدفنني داخلها، لا أتخيل نفسي موظفًا في أرشيف، أو كمساريًا في ترام أو أوتوبيس، أو ممرضًا بمستشفى أكشف عن مؤخرات المرضى لأحقنهم!
المشكلة أني لا أستطيع الوقوف أمام أبي لأقول له:-
- "أريد أن أخطب فتاة أحبها"
لأني أعرف رده جيدًا..
- "عندما تصبح رجلاً وتتحمل مسئولية نفسك فكر في إعالة آخرين.. اغرب عن وجهي وإياك أن تحدثني عن هذا ثانيةً"
هو لم يغفر لي بعد تركي الدراسة، والطريقة التي تركت بها الدراسة!!
(غادة) لا تريد الاقتناع بهذا، وفي اللقاء الأخير قالت لي:-
- "المشكلة ليست كذلك.. المشكلة أنك لا تريد أن تكون سوى عاشق يكتب خطابات!"
كان كلامها مهينًا في وقتها، لكن الغريب أني وجدته يكاد يكون صحيحًا بعد ذلك، وهي لم تظلمني به!
عندما جاء التجنيد ظننت أنه سيكون مهربًا من هذا المأزق الذي أنا عالق فيه، سأجد حجة للتمهل بضع سنوات أخرى قبل أن أتحدث في الزواج، أنهي تجنيدي أولاً ثم نفرغ للزواج والمستقبل.. لكنها زادت المأزق ضيقًا وانغلاقًا:-
- "لن أنتظرك بضع سنوات معلقة على أمل واهٍ، اخطبني الآن، مجرد دبلة في أصبعي تكون لي سندًا وعونًا على الانتظار"
- "لا أستطيع للأسف"
- "نعم, أعرف أنك لا تستطيع سوى كتابة الخطابات"
مرة ثانية بدا كلمها صارمًا مهينًا..
(غادة) قاسية.. (غادة) حازمة.. (غادة) فاتنة.. لا أستطيع الفكاك منها، أو التخلص من ذلك المأزق، طلبت مهلة أخيرة لتطويع الظروف، وإن كنت في الحقيقة أريد مهلة لحسم أمر قلبي.
هل أنا أحب (غادة) حقًا؟ وهل أريدها زوجة؟ المشكلة أني لا أعرف ماذا "أريد"، لكني أعرف جيدًا ما "لا أريد"! أنا لا أريد أن أكون عاملًا في مصنع مثل أبي، أقضي ثلث يومي في العمل المنهك، لأعود إلى منزلي عابسًا متجهمًا وأقضي الثلثين الباقيين في توبيخ وتقريع أسرتي، وإفراغ ضغط شغلي ومشاكله في أبدانهم، وفي نهاية الشهر أحصل على فتات!
كذلك لا أريد أن أكون موظفًا في أرشيف، أو أي مصلحة حكومية، أتملق مديريّ، وأشي بزملائي طمعًا في الحصول على درجة أعلى، تكفل لي بضعة قروش زائدة، لن تصل بي إلى أي طبقة اجتماعية أعلى.
ولن أكون صحفيًا ينافق الحكام، ويسخر قلمه في تبرير وتمرير سياساتهم وقوانينهم وإجراءاتهم الجائرة، وإن أراد أن يتخذ له موقفًا معارضًا يلقى به في السجن، ويموت تحت التعذيب!
ولا أريد أن أكون جنديًا لا يفعل شيئًا سوى حفر الخنادق، وتعبئة شكائر الرمل، والنوم والرقص في العراء، والاتصال بالعالم من خلال موجات مذياع لا ينقل إلا الهراء والنفاق!
أنا أعرف جيدًا ما "لا أريد"، لكني لا أعرف ما "أريده" حقًا..
أنا "لا أريد" أن أفارق (غادة)، لكني لا أعرف إن كنت أريد الزواج منها أم لا! ولا أعرف ما سأقوله لها حين عودتي إليها – إن عدت فعلاً إليها – وكذبت رؤياي التي لا أعرف حتى إن كنت رأيتها فعليًا أم لا.. لكني أعرف أني مهما جهزت لها من كلام سيتبخر بمجرد وقوفي أمامها، وهي لن تعطيني أي فرصة للتحوير والتنميق!
(غادة) قاسية.. (غادة) حازمة.. (غادة) فاتنة..
لست بحاجة لأن أكون متبصرًا أو عرافًا حتى أرى الفراق يطل بوجهه المقيت، رافعًا هامته.. إلا أني لن أعرف أيهما سيقع أولًا: الفراق.. أم الطوفان!!
***
(8)
كان الطوفان – الذي رأيته – أحمر كالدم، حتى الزبد الذي يعلوه أحمر!! وكان قويًا عارمًا، يجرف كل شيء! هل رأيت هذا حقًا؟!
قال لي (سليمان) وهو يقاوم الألم والإغماء في حجري:-
- "(علاء).. أرجو منك شيئًا!"
لم أجب، ولم يكن ينتظر مني جوابًا، أكمل:-
- "إذا نجونا من هذا.. لا تخبرهم أين أصبت بالرصاصة!"
يا لك من أبله! هل هذا كل ما يعنيك الآن؟
لا أعرف لحسن الحظ أم لسوئه أن الرصاصة أصابته في مؤخرته، ليست رصاصة قاتلة، لكن الألم سيمزقه، وسينزف كثيرًا حتى يموت إن لم يجد من ينقذه، ولا أتوقع أن أحدًا سينقذه، ربما كان أسوأ حالًا من جميع تلك الجثث المثقوبة الطريحة في الدماء، لقد انصرفت الأشباح الطائرة القاتلة، لكن هذا لا يعني النهاية.. غدًا سـتأتي الدبابات وما شاكلها لتكمل بقية المهمة..
لقد جاء الطوفان حقًا على هيئة أشباح طائرة، تنثر الرصاص في كل الاتجاهات، ليجرف أمامه آلاف الجثث التي كانت تنبض بالحياة والمرح رغم البؤس المدقع، كانت رؤيا حق رأيتها، ليست هذيانًا، الآن أصعد فوق التبة الصخرية لأطالع بعيني مئات الجثث تفترش العراء، ويتصاعد من بعضها الأنين الدال على بقايا حياة.. مع مرور الوقت خفت الأنين، وتلاشت بقايا الحياة..
لعل هناك ناجين، من المضحك أن أسميهم ناجين، لقد نجوا من الموت برصاص الأشباح الطائرة، لكنهم سيواجهون أسبابًا أخرى للموت، ربما أشد قسوة، الصحراء نفسها ستفتك بهم، من لم يمت بالرصاص سيموت بالظمأ والهجير، أو تفترسه الذئاب، أو بلدغات العقارب والثعابين، أسباب الموت متعددة، وماثلة بقوة..
- "أشعر بظمأ شدييييييد!"
صوت (سليمان) ضعف كثيرًا، لعله يسير الآن باتجاه الضوء المارق في نهاية ممر الحياة، ليسود بعده الظلام.. أنا أيضًا أشعر بأشد الظمأ، لكني قابع مكاني لا أدري ماذا أفعل؟ هل أقتحم الصحراء مثل الآخرين بحثًا عن نجاة موهومة، أو لتعجل الموت، أم أقبع مكاني بانتظار نجدة أعرف أنها لن تجيء، وموت يقترب رويدًا رويدًا مكشرًا أنيابه.. لا أعرف ماذا أفعل!
لن يأتوا لينقذونا.. هم الآن مشغولون بالتبرؤ من عار الهزيمة، والبحث عن سراديب للفرار، أو بإعداد مسرحيات تعيد لهم التعاطف، وتحفظ لهم زعامتهم ومكانتهم فوق القطيع!
إن جاء الصهاينة ليأسروني سأقتل نفسي، لن أقع في أسر الصهاينة، الموت أهون ألف مرة، هناك بنادق عتيقة ملقاة على الأرض بخلاف الجثث، ولو بحثت سأعثر على سكين أو أي أداة حادة تصلح لإنهاء الأمر.. لا أعرف ماذا أفعل!
أعرف فقط أن (غادة) أصبحت بعيدة جدًا! جدًا! وأعرف أني لن أعود لأعطيها ردي الأخير!! كما أعرف أني لا أفتأ أفكر فيها حتى في هذه الظروف، لا شيء يحول بيني وبينها حتى الموت الذي يقترب مكشرًا عن أنيابه! أعرف أني لن أعود لأعطيها ردي الأخير الذي تنشده.. على الأقل سيصلها الرد بوجه من الوجوه، حين تسمع خبر.. لكن كيف سيصلها الخبر؟!
- "هل.. رأيت.. شيئًا؟"
صوته الواهن المتقطع يشير إلى قرب النهاية. نهايته هو على الأقل، ربما كان أسعد حظًا مني، ليتني وقفت أمام الأشباح الطائرة وتلقيت رصاصاتها في جسدي، بدلاً من الفرار الذي ظننته النجاة..
يسـألني ماذا أرى؟ أرى كل شيء مقلوبًا.. السماء أسفل منا، والأرض فوقنا.. أرى السماء تمتص القطر، والأرض تبتلع النبت، أرى الناس والدواب تسير للخلف.. كل شيء مقلوب.. كل شيء يسير بالعكس..
هل أختلق ذلك كالعادة؟ أم أنها حقًا رؤيا أراها؟!
***
تمت