
تحت ظلال الذاكرة
صوت طنين خافت
ضوء أبيض يخرق جفنيها
هواء بارد يلامس بشرتها، يجعلها تشعر كأنها مستلقية في عالم غير مألوف
فتحت عينيها فجأة شهقة
محيط غريب سرير أنابيب جهاز يرنّ بانتظام بجانبها
جسدها ثقيل لسانها أثقل
كل شيء حولها نظيف نظيف أكثر مما يجب
لكن عقلها فوضى
دخل رجل طويل، يرتدي معطفًا أبيض
ملامحه مرتبة، ونظراته حادة رغم ابتسامته
قال وهو يقترب منها
ليان حمد الله عالسلامة
مين حضرتك؟
أنا دكتور آدم طبيبك النفسي هنا في المستشفى كنتِ في غيبوبة بسبب حادث سيارة 12 يوم
12 يوم تمتمت، تحاول استيعاب الكلمات
لكن كل جملة تُقال لها تنزل على عقلها كضربة مطرقة
اسمي ليان؟
أيوه ليان مجدي فلسطينية الأصل ساكنة في باريس من سنتين
أرادت أن تسأله عن أشياء كثيرة
لكن السؤال الذي خرج فقط
إيه اللي حصل؟
حادث بسيط، لكن أثّر على ذاكرتك فقدان مؤقت كل شيء هيبدأ يرجع مع الوقت
نفس الجملة اللي يقولها الأطباء في الأفلام
لكن ملامحه فيها شيء آخر
كأن اللي بيقوله مش الحقيقة الكاملة
في الليل، لم تستطع النوم
كانت تمسك ببطانية السرير بقوة، كأنها تحاول أن تتمسّك بالحاضر بعد أن تلاشى ماضيها
لا وجوه لا أسماء لا مشاعر
كأن أحدهم ضغط إعادة ضبط المصنع على ذاكرتها
لكن هناك شيء غريب
كلما أغلقت عينيها، ظهرت أمامها صورة فتاة صغيرة، تقف في منتصف شارع، تبكي ووجهها مغطى بالدم
لم تكن تعرف من الطفلة، لكنها كانت تحدّق بها بعينين مليئتين باللوم
في اليوم التالي، دخل رجل في الخمسينات، يحمل وردة صناعية
ابتسم ابتسامة باهتة
ليان بنتي حمد الله على سلامتك
نظرت إليه
اقترب منها بهدوء، جلس بجوارها على الكرسي
أنا والدك
ترددت والد؟
أخرج من جيبه صورة قديمة فيها فتاة صغيرة تمسك بيد رجل وامرأة
دي أنتي وأنا وأمك الله يرحمها
كانت الصورة باهتة
لكن الطفلة تبتسم فيها نفس الابتسامة اللي شافتها في حلمها البارحة قبل ما تتحوّل لبكاء ودم
ماما ماتت؟
من سنتين سرطان
أومأت برأسها لكنها لم تشعر بأي حزن
لا لأن قلبها بارد بل لأنه ببساطة لا يعرف من تكون هذه الأم
في منتصف الليل، غادرت سريرها بصعوبة
الجناح كان ساكنًا أصوات خافتة من الممر
تسللت بخفة حتى سمعت صوتين
هي لسه مش فاكرة؟
لا بس الدكتور قال لو بدأت تتذكر لازم نتصرف بسرعة
لو الموضوع اتفتح، كل حاجة هتتبهدل
تجمّدت
عاد الدم للركض في عروقها
رجعت لغرفتها بسرعة، وقلبها يدق كالطبل
لكن عند الباب، لاحظت شيئًا غريبًا
ورقة مطوية، ملقاة على الأرض، كأن أحدهم تعمّد إسقاطها
فتحتها ببطء
خط يد واضح، أنثوي، كتب فيه
مش مصادفة إنكِ هنا ومش كل اللي حواليك أطباء لو بدأتِ تتذكّري اهربي فورًا
في الصباح، جاء آدم يحمل دفترًا صغيرًا وجهازًا مثل ساعة جيب
هنبدأ الجلسة الأولى لاسترجاع الذاكرة
نظرت إليه بشك
جربتي التنويم قبل كده؟
أكيد لا
بس هتساعدك تتذكري أسرع افتكري الذكريات جواكي، مستنيين تفتحي الباب بس
بدأ التنويم صوته كان هادئًا، منوّمًا، مخدّرًا
اركّزي على الساعة حركي نفسك جوه عقلك شوفي أي صورة، أي صوت، أي لمحة
أغمضت عينيها
في الظلام
ظهر وجه طفلة
تبكي
ثم سيارة مسرعة
صوت صرخة
ثم ظلام
فجأة، فتحت عينيها وصرخت
أنا عرفتها الطفلة دي كنت معاها
آدم سأل بسرعة
مين؟ تعرفيها؟
أنا مش متأكدة بس كنت ماسكة إيدها وبعدين راحت راحت في لحظة
إزاي راحت؟
صوت حادث وبعدين الأرض بقت كلها دم وهي بتبصلي ومش بتتكلم
نظرت له بعينين مليئتين بالرعب
أنا السبب؟ أنا اللي قتلتها؟
آدم سكت
ثم قال بهدوء غريب
الذاكرة بتلعب ألعاب ممكن تبقى حقيقة وممكن وهم
لكن قلبها لم يصدق
كانت تعرف أن تلك الطفلة ليست وهمًا
ليلة جديدة
جفنها لا ينغلق
كل عضلة في جسدها مشدودة، كأنها تستعد للهرب
الممرضة دخلت فجأة وهي ترتعش
ليان لازم تمشي من هنا حالًا
فيه إيه؟
آدم مش طبيب بطاقة التعريف بتاعته مزوّرة والملف بتاعك مش موجود في النظام
يعني أنا؟
مش اسمك ليان وإنتِ غالبًا مش مريضة
قبل أن تكمل، انقطعت الكهرباء
ضوء الطوارئ الأحمر اشتغل
وصوت إنذار يدق
ليان وقفت وسط الغرفة، والممرضة اختفت
الباب انقفل من الخارج
وفي الممر
ظهر ظل طويل قادم ببطء
هدوء غير مريح كان يخيّم على الغرفة
الباب مغلق من الخارج
الكهرباء انقطعت
والضوء الأحمر الطارئ يلقي ظلالًا مخيفة على الجدران
وقفت ليان في منتصف الغرفة، صدرها يعلو ويهبط بسرعة، وعقلها يدور كدوّامة
الممرضة اختفت
الصوت الذي سمعته في الخارج كان ثقيلاً، خطوات بطيئة لرجل يجرّ شيئًا خلفه
ثم صمت
اقتربت من الباب بحذر، ألصقت أذنها عليه، ولم تسمع شيئًا
وفجأة، طَرْقَة واحدة قوية كادت تكسر قلبها قبل أن تكسر الباب
رجعت للوراء، ارتطمت بالكرسي
صوت مفتاح يُدَار في القفل
ثم انفتح الباب ببطء وظهر في الإطار
الرائد طارق
رجل ضخم، في أواخر الأربعينات، بشرته داكنة وشاربه كث
رفع شارة الشرطة وقال
ليان مجدي؟
هزّت رأسها بحذر، رغم أنها لم تكن واثقة من الاسم بعد
أنا محقق من قسم الجرائم الخاصة إحنا بنتتبع دكتور اسمه آدم، لانتحال صفة طبيب نفسي في بلاغ من ممرضة هنا قال إنه كان بيشرف على حالتك
سألته بتوتر
هو فين؟
هرب بمجرد ما جالنا البلاغ اختفى حتى ملفك، مش موجود على أي نظام طبي في المستشفى دي
ليان بلعت ريقها
يعني أنا مش مريضة؟
نظر لها طارق بنظرة فاحصة، وكأنه بيقرأها من الداخل
الموضوع معقد اسمك موجود في سجلات، بس مش كمريضة كمشتبه بها في حادث قديم من 3 سنين
حادث إيه؟
حادث اختفاء طفلة في باريس واسمك ارتبط بالمكان لكنك اختفيتي بعدها تمامًا ومن يومين، ظهرتي فجأة في قسم الطوارئ، ما حدش عارف مين جابك ولا إزاي
ليان شعرت بدوار
طفلة؟
همس قلبها الطفلة اللي بشوفها في الحلم مش حلم؟
الرائد طارق أخذها إلى مركز الشرطة
في الطريق، لم تتحدث
كانت تحدّق في يدها وكأنها تبحث عن دم الطفلة
في المركز، جلس أمامها، ووضع أمامها مجموعة صور
أطفال مفقودين
عيناها توقفت عند صورة واحدة
طفلة ذات شعر بني وعيون واسعتين نفس الوجه اللي يطاردها في المنام
اسمها ياسمين اختفت قبل 3 سنوات وآخر مرة شافوها كانت في شقة سكنية قريبة من مكان الحادث اللي حصل لكِ فيه
قالت بصوت خافت
أنا شفتها كنت شايلة إيدها وكنا بنجري وبعدين صرخة، وبعدها اختفت
طارق سأل
ليه كنتِ معاها؟ كنت تعرفيها؟
مش عارفة بس في جوايا إحساس إني كنت بحاول أنقذها مش أؤذيها
في اليوم التالي، نُقلت ليان إلى منشأة حماية خاصة، تابعة للشرطة، لأنها أصبحت شاهد محتمل في جريمة خطف
لكنها لم تشعر بالأمان هناك
كل ليلة، كانت تحلم بنفس المشهد
بنت صغيرة بتصرخ
دم
صوت باب يُغلق
وجه آدم مبتسم
في الليلة الرابعة، جلست ليان أمام النافذة الزجاجية الكبيرة، تنظر للشارع المظلم خلف الأسوار العالية
كل شيء يبدو ساكنًا
لكن داخلها كان عاصفة
منذ الجلسة الأخيرة، ووجه آدم لا يغيب عن بالها
نبرة صوته، أسئلته، حتى حركة يده على كتفها حين كانت في التنويم كلها بدت مألوفة بطريقة مزعجة
أنا شفت الراجل ده قبل كده بس فين؟
قلبها لا يصدق أنه مجرد طبيب
نهضت من مكانها، وبدأت تمشي في الغرفة ذهابًا وإيابًا
ثم توقفت أمام المكتب
جهاز اللابتوب ما زال مغلقًا، كما تركته الشرطة لها لكتابة يوميات العلاج
فتحت الجهاز، نظرت للشاشة للحظة، ثم كتبت بخوف وتردد
طبيب نفسي باريس مفقود تنويم مغناطيسي
نتائج كثيرة ظهرت
لكن ما شد انتباهها عنوانٌ لمقال صحفي على موقع أرشيفي
يوسف عدنان الطبيب المزيّف الذي اختفى بعد سلسلة قضايا اختطاف غامضة
ضغطت عليه
الصورة التي ظهرت
جعلت يدها ترتعش
نفس الوجه
نفس العينين
نفس الابتسامة المزيّفة
لكنه لم يكن يُدعى آدم
كان اسمه الحقيقي يوسف عدنان
كان الصباح ثقيلًا، كأن الليل ترك وراءه غبارًا رماديًا في الأجواء
الأنوار عادت للمركز، والضجة الخفيفة المعتادة في الممرات بدأت، لكن ليان شعرت أن شيئًا ما تغير
كانت تجلس على طرف السرير، تمسك بالورقة التي طبعتها من الليلة الماضية صورة يوسف عدنان الطبيب المزيّف مبتسمًا بابتسامة باردة، وكأنها تُخفي حربًا خلفها
طرق الباب، فدخل الرائد طارق
صباح الخير، ليان
رفعت عينيها، لم تقل شيئًا
فيه تطورات جديدة جه اتصال من وحدة تحقيقات الجرائم الدولية عندهم ملف كامل عن يوسف عدنان
أشارت له بالجلوس، ثم ناولته الورقة
أنا عرفت من هو آدم اسمه الحقيقي يوسف عنده سوابق في التنويم وخطف الأطفال
طارق نظر في الورقة، ثم قال
المعلومة وصلت لنا قبل دقائق لكن السؤال الحقيقي دلوقتيإيه علاقتك بيه؟
نظرت له طويلًا، وكأنها تبحث عن إجابة في أعماقها
أنا معرفش بس كل ما بشوفه في حلم، بشوف نفسي جنبه كأننا كنا فريق بس مش متأكدة إذا كنت ضحية ولا شريكة
طارق تنهد
التحقيقات بتقول إن يوسف كان بيكوّن علاقات وثيقة ببعض الحالات، خاصة البنات اللي عندهم مشاكل هوية أو فقدان ذاكرة
ثم نظر لها بتركيز
وإنتي ما حدش قدر يثبت حتى الآن إن اسمك الحقيقي ليان
مرت دقائق صامتة
ثم دخلت عليهم محققة شابة، كانت تمسك بملف سميك
اسمحيلي أقدملك معلومة ممكن تهز كل شيء
فتحت الملف، وأخرجت وثيقة عليها صورة قديمة
دي شهادة ميلاد باسم نور عبد الرحمن مواليد نابلس 2000
وضعت الصورة أمام ليان
الفتاة في الصورة كانت تشبهها
بشكل مخيف
في بلاغ قديم إن الطفلة دي اختفت سنة 2010 بعد ما تم تهريبها مع أمها إلى فرنسا بهوية مزوّرة
طارق قال
والمفاجأة إننا عملنا تحليل بصمة دي إن إيه، والمطابقة الأولية بتقول إنك نور، مش ليان
ليان شعرت كأن الأرض تميل بها
يعني أنا كنت مخطوفة؟
المحققة أجابت
يبدو إن أمك الحقيقية حاولت تهرب بيكي لكن تم القبض عليها وإنتي اختفيتي من وقتها
في تلك الليلة، لم يكن في عقلها مكان للنوم
اسمها الحقيقي مش ليان
آدم مش طبيب
وهي مش متأكدة إذا كانت طفلة ضائعة ولا طرف في شبكة أكبر من فهمها
قامت، وبدأت تفتش أغراضها القديمة التي تم إحضارها من المستشفى
في أحد الجيوب، وجدت شيء غريب
سلسلة صغيرة، عليها اسم محفور
نور
لحظة واحدة
مين اللي كان عارف اسمها الحقيقي وساب لها السلسلة؟
هل يوسف كان بيحاول يذكرها؟
ولا بيهددها؟
رن جرس باب المركز
طارق فتح الباب
كان هناك ظرف بني، بدون اسم، وُضع على الأرض
داخله ورقة واحدة
نور، الماضي بدأ يتحرك لو ما رجعتيش مكانك، الدم هينزف من جديد
مرّت الساعات ثقيلة بعد وصول الظرف
طارق جلس في مكتبه، يُقلّب الورقة التي كُتبت بخط يدوي واضح، بينما ليان تقف بجانبه تراقب كل حركة وكل صمت
اللي كاتب الرسالة دي مش عادي، قال طارق، ده شخص مش بس عارفك ده متابعك خطوة بخطوة
ليان كانت تصغي بانتباه، لكن قلبها كان في مكان آخر
رجعي مكانك
المكان؟
أي مكان؟
هل يقصد بيتها؟ طفولتها؟ يوسف؟ الجريمة؟ شيء أعمق من كل ده؟
طارق وضع الرسالة جانبًا، وقال
أنا قررت أفتح ملف يوسف عدنان بالكامل حتى الأجزاء اللي الشرطة حجبتها لسنين
دخلت المحققة الشابة، ومعها ملف كبير مكتوب عليه
سري ملف رقم 7 YA
فتحت الملف بحذر
أول صفحة فيه كانت صورة لمكان مهجور مبنى قديم متهالك، خارج باريس
الصورة مؤرخة يناير 2021
المكان ده قالت المحققة، كان يُعتقد إنه مقر سكن يوسف المؤقت بس وقت المداهمة، كان خالي
اللي اكتشفناه بعد كده إن المكان ده كان فيه أطفال
ليان شهقت
أطفال؟
أيوه ومش أي أطفال كان في غرفة أشبه بفصل دراسي صغير وفي أوراق كأنهم كانوا بيتعلموا بس مش تعليم عادي كانوا بيتدرّبوا على تقمّص شخصيات أسماء أكواد
طارق نظر لليان
انتي واثقة إن يوسف مكانش بيستخدمك لأكتر من التنويم؟
ليان سكتت
لم تكن تعرف
لكن بداخلها شعور بدأ يتضخم
أنها مش بس نور
أنها مش شخص واحد أصلاً
في المساء، عادت إلى غرفتها في المركز
لم تستطع الجلوس
بدأت تفتش حقيبة أوراقها للمرة المليون، تبحث عن أي شيء يمكن أن يقودها للحقيقة
وهناك في أحد الجيوب الجانبية، وجدت ورقة قديمة جدًا مطويّة بعناية، مغطاة بطبقة من الشريط اللاصق الشفاف
فتحتها بحذر
كانت عليها جملة واحدة بخط أنثوي
لو نسيتِ مين كنتي دوري في نفسك على اللي كنتي بتخافي تكوني
وقّعت الجملة بكلمة واحدة
رحمة
ليان جثت على ركبتيها
الاسم رحمة ضرب عقلها كالبرق
عرفته
حسّت بيه
بس مش قادرة تحطّه في مكان
هل كانت أمّها؟
أخت؟ صديقة؟
أم ضحية؟
في اليوم التالي، أخذها طارق لمكان غريب
مركز أرشيف مهجور تابع للشرطة، فيه ملفات قديمة جدًا لا تظهر في النظام الإلكتروني
هنفتش في ملفات المختفين اللي ظهرت أسماؤهم في محيط يوسف، حتى اللي ما فيش إثبات رسمي إنهم ارتبطوا بيه
دخلت معه
الغرفة باردة، مليئة بالغبار والروائح الكتانية
بدأت تسحب الأدراج، ملف وراء ملف
وأخيرًا توقفت أمام ملف صغير مكتوب عليه
رحمة يوسف 2017 مراهقة مجهولة الهوية
فتحته
أول ورقة فيه صورة لفتاة بعمر 15 سنة
ملامحها تشبه ليان إلى حدٍ ما، لكن أكثر براءة
عيناها مرهقتان
وفي خانة ملاحظات نفسية كُتب
تعاني من تداخل في الهوية تدّعي أنها 3 شخصيات في جسد واحد تعرضت لتنويم مغناطيسي مطوّل
ليان تركت الورقة تسقط
عينها كانت على آخر سطر في الصفحة
آخر مرة شوهدت فيها كانت بصحبة رجل يُشتبه أنه يوسف عدنان
هل ليان كانت رحمة؟
ولا كانت واحدة من الشخصيات اللي اخترعتها رحمة؟
ولا العكس؟
مين فعلاً اللي عاش؟ ومين تم برمجته؟
وفي اللحظة دي، رنّ هاتف الطوارئ الداخلي
رد طارق
كان الصوت مشوّش
فيه شخص خارج المبنى بيطلب يشوف نور بيقول إنه أبوها
وقف طارق عند الباب، عيونه مثبتة على ليان
بيقول إنه والدك ورافض يسيب المكان قبل ما يشوفك
والدي؟
قالتها ليان بصوت ممزوج بالشك والفضول والخوف
مش عبد المجيد اللي شفتيه أول ما فقتي من الغيبوبة ده راجل تاني خالص
وبيحمل معاه وثائق تثبت إنه والدك الحقيقي لنور عبد الرحمن
قلبها ارتجف
الاسم أصبح مألوفًا لدرجة مؤلمة
نور
اسم محفور على السلسلة
اسم مكتوب في أوراق الأرشيف
اسم يطاردها في الأحلام والكوابيس
هاتوه بس أخليه يشوفني من ورا الزجاج الأول
قبل دخول الأب، قال طارق بهدوء
وصلنا تقرير جديد من وحدة البحث، لقوا في بيت قديم من الأماكن اللي استخدمها يوسف زمان، مجموعة متفرقة من الصور الشخصية لأطفال وبنات مراهقات، والأغرب إن في صور منهم عليها رموز غريبة، وأسماء مختلفة
الكلام ده علّق في عقل ليان، لكنه ما أخدش أولويّة كان فيه ما هو أخطر قدامها
وقفت خلف الزجاج العاكس، بينما جلس الرجل داخل غرفة الاستجواب
وجهه نحيل، عيناه غائرتان، وذقنه غير حليقة
لكنه بدا هادئًا مكسورًا
طارق أشار
اسمه عبد الرحمن داوود فلسطيني كان ضمن نشطاء سياسيين، وسُجن في نابلس سنة 2009
خرج بعدها مباشرة، وأبلغ عن اختفاء بنته نور
ليان كانت تحدق فيه، تشعر بشيء غريب
مش حب
مش خوف
بل حاجة داخليّة ما بتتكلمش بتصرخ
دخلوها الغرفة
الراجل رفع عينه أول ما شافها
وقام من على الكرسي ببطء
نور؟
صوته كان مبحوح، مشوش، فيه حنين عمره سنين
ما ردتش
قلبها بيتصارع بين اللي تشوفه واللي تحسه
أنا أبوكِ، يا نور أبوكِ اللي كان بيدور عليك طول العمر
طب ليه ما لقيتنيش؟
لإنهم أخدوكي لما أمك حاولت تهرب بيكي على فرنسا، وأنا كنت في السجن وبعدها اختفيتي
ومين اللي 'هم'؟
سكت ثم همس
ما كنتش عارف اسمه وقتها لكن الآن عرفت يوسف عدنان
ليان رفعت عينيها وسألت ببطء
يوسف دخل حياتكم إزاي؟
قال الأب
كان طبيب نفسي وقت ما أمك كانت بتعاني من اضطراب ما بعد الصدمة قرب منها واستغلها
ولما قررت تقطع العلاقة، اختفيتي إنتي وهي ماتت بعدها بـ6 شهور في حادث غامض
ليان همست
أنا ما عنديش أي ذكرى
أنا عارف، يا بنتي هو لعب بعقلك، وغرس فيكِ شخصيات جديدة، وذكريات وهمية
خرجت من الغرفة وهي مش قادرة توقف رعشة إيديها
كل حاجة بدأت تاخد شكل بس مش شكل واضح
يوسف مش بس خطفها
غيّرها
محو الطفلة نور
وخلق ليان، رحمة، وربما غيرهن
في نفس الليلة، بينما كانت تكتب في دفتر ملاحظاتها، خطر في بالها شيء
رحمة
مش مجرد اسم
ربما رمز؟
قلبت الصفحة
وقفت عند الورقة اللي لقتها قديمًا في أغراضها
الجملة اللي كانت مكتوبة
لو نسيتِ مين كنتي دوري في نفسك على اللي كنتي بتخافي تكوني
وقّعت الجملة بكلمة واحدة
رحمة
ليان جثت على ركبتيها
الاسم رحمة ضرب عقلها كالبرق
عرفته
حسّت بيه
بس مش قادرة تحطّه في مكان
هل كانت أمّها؟
أخت؟ صديقة؟
أم ضحية؟
في اليوم التالي، طلبت من طارق ملف الصور القديمة اللي عثروا عليها في المكان المرتبط بيوسف
وصلها الملف بعد ساعات
فتحت الصور واحدة واحدة
كلها وجوه وجوه لبنات صغيرات في أماكن مختلفة
لكن صورة واحدة جعلتها تتوقف
طفلة
واقفة على منصة صغيرة
تضع تاجًا من الورق، وعلى صدرها بطاقة مكتوب عليها
المتفوّقة رحمة يوسف عمر 9 سنوات
الصدمة ما كانتش في الاسم بس
الصدمة إن الطفلة كانت هي
بصت على الصورة كأنها شايفة شبح
وهمست لنفسها
يعني أنا كنت رحمة؟
بس إزاي ويوسف أبويا؟
وفي اللحظة دي
وصلت رسالة على تابلت المحققة، من جهاز تتبع الأسماء المشبوهة
تنبيه يوسف عدنان شوهد في مرسيليا، فرنسا، منذ أقل من 24 ساعة
كان الهواء في غرفة التحقيق أثقل من العادة
المحققة ريما تمسك بالتابلت، تقرأ التحذير اللي وصَل
يوسف عدنان شوهد في مرسيليا، فرنسا، خلال الـ24 ساعة الأخيرة
طارق عدّل جلسته
مرسيليا قريبة جدًا من هنا ولو فعلاً ظهر يبقى يا جاي يدور عليها، يا بيجهّز لشيء أكبر
ليان كانت ساكتة
مشهد الطفلة في الصورة، كلمة رحمة، صوت الرجل اللي ادعى إنه أبوها كلهم يدوروا في دماغها زي إعصار
بس شيء واحد كان بيصرخ جواها
أنا وهو مرتبطين حتى لو مش عارفة إزاي
بعد ساعة، اتخذ طارق قرارًا
هننقل ليان لموقع آمن مؤقت خارج باريس مكان سري يوسف ممكن يكون بيراقب المركز
ركبوا سيارة سوداء غير مميزة، بدون أي شعارات، والمرافقين من وحدة الحماية الخاصة مسلّحين ومدربين
ليان جلست في المقعد الخلفي، نظرتها معلّقة بالشباك، لكن عقلها كان في مكان أبعد بكثير
لو أنا رحمة وهو كان بيقول عليّ ابنته يبقى أنا كنت جزء من مخطط؟
ولا بس كان بيستخدمني زي بقيّة البنات؟
وإيه اللي خلى ذاكرتي ترجع فجأة بعد الحادث؟
وصلوا إلى بيت ريفي معزول، محاط بأشجار عالية، وبدون أي أجهزة تواصل واضحة
ريما كانت أول من دخل، تفقدت المكان، ثم أعطت الإشارة بالدخول
قالت لليان
هتفضلي هنا مؤقتًا تحت حراسة مشددة، لكن بدون أي تواصل خارجي فقط كتابة فهمتِ؟
ليان أومأت، لكنها كانت تفكر بشيء مختلف
هو هيجي يوسف هيجي أنا عارفة
في تلك الليلة، بدأ عقلها ينهار تدريجيًا
كأن يوسف بيتكلم جواها
كأن في صوت جاي من ذكريات مدفونة
يهمس
إنتي اللي اختارتي تكوني رحمة مش أنا
قامت من السرير، فتحت الدفتر اللي كانت بتكتب فيه يوميًا من بداية الحكاية
بدأت تكتب وهي بتبكي
أنا مش عارفة أنا مين
بس عارفة إني لو ما واجهتوش مش هعيش
يوسف مش مجرم بس
يوسف صانع أشباح
وأنا واحدة منهم
فجأة
صوت غريب من النافذة
ركضت إلى الشباك، وفتحت الستارة بحذر
ما فيش حاجة
ظلام شجر
لكن تحت الضوء الخافت، كان فيه حاجة صغيرة على الأرض
ورقة مطوية
خرجت ليان بهدوء، رغم تحذيرات الحراسة، وتقدمت ناحية الورقة
أخذتها فتحتها ببطء
وكان مكتوب فيها
آخر اختبار لو فاكرة فعلاً مين أنتي، ارجعي للمكان اللي بدأتِ فيه كل شيء
المزرعة القديمة الجنوب 3 أيام
تحت التوقيع
يوسف
رجعت ليان للداخل بسرعة
أخفت الورقة داخل ملابسها، وجلست على السرير، تتنفس بصعوبة
كان في صوت واضح في رأسها بيقول
الاختيار مش عندهم عندك
وفي اليوم التالي، وبينما طارق وريما يحضّرون للتحقيق الجديد، فتش أحد الضباط سيارة الحراسة، ووجد ورقة مشبوهة داخل الإطار الداخلي لباب السيارة
سلّمها فورًا للمحققة
فتحتها
كانت صورة مطبوعة من كاميرا مراقبة
ليان وهي واقفة أمام نافذة غرفتها، والعدسة بتصورها من زاوية عالية
ومكتوب تحتها بخط يوسف
عارف كل حاجة حتى قبل ما تفكروا تتحركوا
مرت 48 ساعة على الرسالة
طارق كان متوتر بشكل غير معتاد، وريما كانت تحاول تتواصل مع وحدات الأمن في الجنوب، لكن دون فائدة
ليان كانت ساكتة
جواها في حرب شغالة
مش بين تهرب وتواجه
لكن بين سؤالين أخطر
لو رحت هرجع ضحية؟
ولو ما رحتش هعيش كذبة بقيّة عمري؟
فجر اليوم الثالث، استيقظت على كابوس
يوسف واقف قدامها، يمسك طفلة صغيرة شعرها طويل ويقول
هي كمان كانت جزء من اللعبه، وانتي سكتّي
فتحت عينيها، والعرق يغرق وجهها
قامت بسرعة، لبست ملابسها، وفتحت باب الغرفة بهدوء
لكن واحد من الحراس واقف
قال ممنوع الخروج
قالت بثقة لأول مرة
أنا هخرج وهروح له بس بطريقتي
استدعت طارق وريما، ووضعت الورقة على الطاولة
أنا اللي وصلني الرسالة، أنا اللي أقرر أروح أو لا
وإنتو عارفين، لو ما رحتش يوسف هيختفي تاني
طارق بصّ لها بتركيز
قال هو عايزك تروحي لوحدك صح؟
أومأت
بس أنا عايزاكم تكونوا هناك بس من بعيد
المكان كان مزرعة قديمة، بعيدة جدًا عن المدينة
عبر طرق ترابية، وغابة أشجار كثيفة، وصلت السيارة اللي فيها ليان، يقودها عميل من الاستخبارات، يتركها على بُعد 2 كيلومتر حسب الخطة
مشيت ليان وسط الأشجار
كل شجرة كانت كأنها تهمس لها
راجعة لمكانك بس هل هتخرجي تاني؟
المزرعة ظهرت أمامها
مبنى خشبي كبير، نوافذه مغطاة بألواح حديد
بوابة حديدية نصفها مكسور، متدلٍّ كأنه فم بيتوحش ينتظر فريسته
دخلت بهدوء
الصمت كان مرعب
بس فيه موسيقى خافتة جدًا شغّالة من غرفة داخلية
صوت بيانو
القطعة كانت مألوفة
مش لحن سمعته
لحن عزفته
هي كانت تعزف ده
دخلت الغرفة
وكان هناك
يوسف
جالس على كرسي دوّار، ظهره لها، وعزفه مستمر
قال دون أن يلتفت
اتأخرتي كنت متوقعك من مبارح
ليان وقف مكانها، ما نطقتش
كنت عارف إنك هتيجي لأنك دايمًا بترجعي
ولو ما جيتيش، يبقى كل اللي بنيناه كان هدر
لفّ الكرسي ببطء
واجهها
كبر في العمر
وشه شاحب
لكن عيونه نفس القوة، نفس التسلّط
إزيك يا رحمة؟
ولا نور؟
ولا ليان؟
ليان بصت له ببرود، وقالت
أنا رجعت بس مش علشانك علشان أفتكر وأنهي كل ده
يوسف ابتسم
ده أول مرة تتكلمي كده بس ده تأكيد إنك بدأت تفتكري بجد
مشيت ناحيته ببطء، وسألت
كل البنات اللي في الصور كانوا ضحايا؟
ضحايا؟ لا يا رحمة كانوا تجارب كل واحدة كانت مشروع شخصية جديدة
وإنتي كنتِ أنجح تجربة
وأنا ليه؟
لإنك مش بس صدقتي الدور إنتي عشتيه
انتي الوحيدة اللي صدّقت إنها اسم جديد، حياة جديدة، لدرجة إنك نسيتِ أصلك
ليان حسّت إن أعصابها هتقطع
لكنها تمسكت بهدوئها
وفي الآخر؟ راضٍ عن اللي عملته؟
يوسف وقف، اقترب منها ببطء، وقال
انتي بتدوري على إجابات بس الحقيقة؟ الإجابات كلها جواك
أنا بس فتحتلك الباب
انتي اللي اخترتي تدخلي
لحظة صمت
ثم قال فجأة
بس في حاجة أخيرة لازم تعرفيها مش كل الشخصيات اللي كنتيها كانوا انتي
يعني إيه؟
كان في واحدة رحمة
اللي كنتي بتشوفيها في المراية، وبتحلمي بيها، وبتكتب جمل غريبة في دفترك
هي مش شخصية اخترعناها
هي كانت موجودة قبلك
رحمة كانت شخص تاني؟
يوسف اقترب وقال بهمس
وكانت بنتي فعلا
وقفت ليان كأنها اتصدمت بقطار
كل شيء في الغرفة اختفى كأن صوت يوسف طغى على كل شيء
كانت بنتي فعلاً
قالها وكأنه بيخبرها إن الشمس طلعت
ببساطة
ببرود
وبنبرة فيها فخر غريب
يعني رحمة اللي في الصور اللي شفتها اللي كنت فاكرة إنها أنا كانت حقيقية؟
يوسف أومأ
كانت كل شيء عندي
ذكية، حساسة، بتحب الرسم والموسيقى
بس كانت ضعيفة
سكت لحظة، وكأنه يستعيد ذكرى باردة
كانت بتنهار بسرعة، وكنت بشوف فيها عجز كنت عايزها تبقى أقوى
جربت أزرع فيها الثقة القوة بس فشلت
ليان شهقت
إنتَ كنت بتجرب على بنتك؟
ما تسميهوش تجارب كنت بحاول أنقذها من نفسها
بس هي ما استحملتش وفي يوم انهارت
لف يوسف ببطء ناحية الشباك، ضهره ليها، وصوته هادي
في ليلة واحدة، اختفت
سيبتني رسالة فيها كلمة واحدة بس
'كفاية'
ولقيتها بعد أسبوع في النهر
ليان اتجمدت مكانها
صوت دقات قلبها كان أعلى من أي صوت
يعني رحمة ماتت؟ وانتحرت؟
يوسف التفت إليها، وعيونه كأنها تتوهج
رحمة انتهت كجسد بس أنا كنت مؤمن إن اللي خلاني أحبها مش لازم يختفي
قررت أخلق رحمة تانية
نسخة بس أقوى
أشار بإصبعه إليها
وانتي كنتي المناسبة
طفلة ضايعة، ماضيها مقطوع، جاهزة تتبني من الصفر
أنا ما كنتش جاهزة لشيء
كنتي أكتر واحدة قابلة لإعادة التشكيل
وعملنا ده وكنتِ متفوقة
بس المشكلة؟
إنك بدأتي تستقلّي
بدأتي تحلمي بأشياء مش مننا
ليان تقدمت خطوة
يعني حياتي كلها كذبة؟
طفولتي، اسمي، مشاعري، حتى الذكريات اللي كانت ترجع لي فجأة مش بتاعتي؟
بعضها بتاعك
بعضها بتاع رحمة
والباقي خيال
في اللحظة دي، كل شيء تغير في صوت ليان
ما عادش فيه ارتباك
ولا ضعف
بقى صوت وحدة بتواجه أكبر شيطان دخل حياتها
أنا مش رحمة
ومش نور
أنا أنا
وإنت مش أكتر من راجل بيحاول يعوّض خسارته على حساب أرواح تانية
يوسف ابتسم
ابتسامة باردة بس فيها وجع واضح
يمكن بس لو شفتي نفسك من بره، هتعرفي إن جزء مني فيك
ومهما بعدتي هتفضلي قطعة مني
ليان قربت منه أكتر
يمكن بس الجزء ده أنا باختار أدفنه
وقبل ما يكمل هو كلامه، سحبت من جيبها مسجل صغير كانت مشغّلاه من أول لحظة
ده اعتراف رسمي بكل حاجة يا يوسف
ابتسم يوسف، بهدوء الشياطين
تفتكري دي النهاية؟
ليان ردت، وهي ماشية للخروج
لا دي البداية
بس النهاية بتاعتك قربت
خرجت من المزرعة
رجال الشرطة في كل مكان
ريما في استقبالها، وطارق كان ماسك جهاز الاتصال
قال طارق بهدوء
تم القبض عليه
لكن نظراته هو وريما كانت مختلفة
في عيونهم نظرة ما كانتش فرحة
كانت نظرة تقول بوضوح
إحنا لسه ما شفناش كل حاجة
في الطريق للعودة، ليان كانت ساكتة
لكن في عقلها، سؤال واحد كان بيدقّ
لو أنا ما كنتش رحمة ليه كنت بشوف ذكرياتها بتفاصيلها؟
وقبل ما تغمض عينيها
اتذكرت حاجة
في أحد أحلامها رحمة كانت بترسم لوحة
لوحة فيها بنت واقفة قدام بيت بيولع
وهي كانت البنت
مرّت 24 ساعة على اعتقال يوسف
تم ترحيله إلى وحدة أمنية مشددة، وتم عزل ليان مؤقتًا لحمايتها ولإكمال التحقيق
لكن المشكلة الحقيقية؟
ما كانتش يوسف
كانت الليان نفسها
منذ لحظة العودة من المزرعة، بدأ شيء يتغيّر داخلها
مش مجرد ارتباك
بل فوضى حقيقية
كانت تسمع صوت في رأسها مش صوتها
كانت تكتب جمل في دفترها وتكتشف إنها مش بخط يدها
كانت تنظر في المرآة وتشوف نظرة مش بتاعتها
في منتصف الليل، استيقظت فجأة
كان قلبها بيدق بقوة، وعيناها مفتوحتان على آخرهما
لكن الغرفة ما كانتش غرفتها
الجدران رمادية
الضوء خافت
وفي الركن مراية طويلة
قامت من السرير
اقتربت من المرآة
لكن لما وقفت قدامها، ما شافتش نفسها
شافت بنت تانية
نفس الملامح لكن مختلفة
شعرها أطول
نظرتها أكثر برودًا
والبنت كانت تبتسم
رحمة؟
همست ليان
البنت جاوبت بدون صوت، لكن شفايفها نطقت الكلمة
أيوه
رجعت ليان خطوات للوراء، قلبها هيقف من الرعب
فجأة صحيت على صوت دق الباب
ليان اصحي في حاجة لازم تشوفيها
كان صوت ريما
قامت، وفتحت الباب
ريما كانت ماسكة تابلت
دي كاميرا المراقبة بتاعتك من امبارح شوفي ده
الفيديو أظهر ليان وهي قاعدة على الأرض، الساعة 3 فجراً، قدام المرايا
كانت بتتكلم لكن ما فيش حد قدامها
كانت بتضحك وتبكي وتكتب حاجة على الحيطة
ريما قالت
المشهد ده استمر 7 دقايق وبعدها رجعتي تنامي كأنك ما عملتيش حاجة
ليان سألتها بهمس
إيه اللي كتبته؟
أخدوها للغرفة
على الحيطة كان مكتوب بخط كبير، وبقلم أحمر
أنا مش واحدة إحنا اتنين ولسه فاضل تالتة
طارق دخل الغرفة بعدها بدقائق
إحنا راجعنا جلسات التنويم القديمة لقينا تسجيلاً مفقودًا من 3 سنين يوسف كان بيجرب معاك تفعيل ما يُعرف بـ 'الانقسام الواعي للهوية'
يعني ببساطة زرع شخصيات جواك، وكل واحدة بتعرف التانية
وأنا؟
كنتي بتتكلمي باسم 'رحمة'
وبعدين باسم 'ليان'
وفي لحظة ظهر اسم جديد
اسم إيه؟
قالتها ليان وهي تحبس نفسها
طارق مدّ لها ورقة
وكان مكتوب عليها
سُهى
ليان جمدت
الاسم رن في أذنها كأنه جرس قديم اتضرب فجأة
سُهى؟
المشكلة إننا لقينا ملف لطفلة بنفس الاسم اختفت من دار رعاية قبل 10 سنين
نفس وقت ما يوسف كان بيتنقّل بين الملاجئ
يعني أنا كنت برضو سُهى؟
طارق قال
مش متأكدين
بس الظاهر إن في واحدة جواك مش ظهرت لسه
ليان اتسندت على الحيط، تنفّسها اتقل
ثلاث شخصيات؟
نور
رحمة
وسُهى؟
ولا دي كانت مرحلة جديدة من اللعبة؟
ولا الحقيقة إنها مش لعبة أصلًا؟
في تلك الليلة، حلمت من جديد
لكن الحلم كان مختلف
كانت تمشي في ممر ضيّق، مظلم
وفي آخره، ثلاث مرايات
الأولى كانت فيها نور طفلة
الثانية رحمة وهي بترسم
والثالثة فاضية
لكن قبل ما تلمس التالتة
ظهر وجه
ما كانش واضح
بس قالت جملة واحدة
أنا اللي ما حدش لسه ناداني
ليان صحت تصرخ
وبصوت باكي
سُهى؟
في الصباح، دخلت المحققة ريما غرفة التحقيق ومعها ملف صغير، عليه غبار خفيف
جانا تقرير جديد من وحدة تحليل الأدلة الرقمية
لقوا هارد ديسك قديم في شقة يوسف بمرسيليا جواه تسجيل صوتي غريب
ليان رفعت رأسها، وهي على أعصابها
تسجيل ليّ؟
على ما يبدو أيوه
الصوت صوتك، بس الكلام مش ليان اللي نعرفها
طارق فتح اللابتوب، شغّل التسجيل
الصوت كان واضح
فيه أنفاس منتظمة، زي جلسة تنويم
وبعد ثوانٍ، صوت ليان بدأ يتكلم لكن بنبرة مختلفة
أنا مش لوحدي
رحمة بتحب الرسم
ونور بتخاف من المرايات
بس سُهى بتعرف كل حاجة
ليان شهقت، قلبها وقع
سُهى؟
ريما نظرت لطارق
الاسم ده ما ظهرش في أي تحقيق قبل كده ولا حتى في جلسات التقييم السابقة
طارق تنفّس بعمق
ده يقلب كل حاجة
ليان قالت بصوت متردد
يعني فيه شخصية تالتة وأنا عمري ما سمعت عنها؟
ولا حتى حسّيت بيها؟
ريما ردت
يمكن هي اللي بتراقب بصمت
بتظهر وقت الخطر وبتختفي
وده يفسر حاجات كتير من تصرفاتك اللي ما قدرتيش تشرحيها قبل كده
وقتها تذكّر طارق شيء مهم
من يومين، لما بدأت التحقيقات مع ليان، كانت وحدة الدعم النفسي اقترحت جلسات تنويم علاجي لاكتشاف طبقات أعمق من ذاكرتها
لكن الحالة النفسية لليان ما كانتش مستقرة، وتأجلت الخطة
الآن بعد ظهور اسم سُهى، بقت الخطوة مش علاجية بقت ضرورة
وقف طارق وقال بحسم
لازم نرجّع خطة التنويم من تاني
بس المرة دي مش علشان نرجّع ذكريات
المرة دي لازم نوصل لـ سُهى نفسها
في غرفة التنويم، كان الجو ساكن
ليان استلقت على الكرسي، والمختص يراجع معدات الجلسة
إضاءة خافتة
نفسها يتبطّأ
صوت موسيقى خفيفة في الخلفية
الدكتور بدأ الجلسة
لو في حد تاني جواكي لو في حد عايز يتكلم إحنا بنسمعك
بعد دقايق طويلة من الصمت، رفّت جفنها
فتحت عينيها لكن النظرة كانت غريبة
ما كانتش ليان
قالت بهدوء، لكن نبرتها قاطعة
كنتم بتدوروا في المكان الغلط
طارق اقترب
إنتي سُهى؟
من أول يوم
أنا كنت هناك لما الكل وقع
رحمة، نور، حتى ليان
أنا كنت قاعدة في الخلف، أراقب
ريما قالت بتوتر
إحنا محتاجين نفهم إنتي مين بالضبط؟
ردت
أنا الأصل
أنا البنت اللي يوسف أخدها من دار الرعاية وبدّلها بثلاثة
أنا اللي ما كنتش تنفع تبقى رحمة فخلاها تموت
ولا تنفع تبقى نور فخلاها تنسى
ولا تبقى ليان فخلاها تهرب
طارق سألها
ليه ظهرتي دلوقتي؟
ابتسمت سُهى ابتسامة خفيفة فيها وجع وفخر
لإن في حد جاي أخطر من يوسف
وهو اللي صنع يوسف أصلاً
جهاز النبض بدأ يرن
أنفاسها صارت سريعة
الدكتور قال
في انهيار في النبض العصبي نرجعها فورًا
ضغط على زر الخروج من الجلسة
ليان فتحت عينيها فجأة
تنهيدة عميقة خرجت منها
كانت شاردة كأنها رجعت من مكان بعيد
لكن أول جملة قالتها، ما كانتش باسم
قالت
أنا مش شخصية
أنا بوابة
واللي ورايا لسه ما اتسمّاش
المركز الأمني في حالة استنفار
ما قالته سُهى في جلسة التنويم رجّ الدنيا
في حد جاي أخطر من يوسف
وهو اللي صنع يوسف أصلاً
طارق جمع الفريق كامل في غرفة الاجتماعات
ريما، وحدات التحليل، الضباط، وأخصائي الطب النفسي
قال طارق وهو يعرض الجملة على الشاشة
إحنا قدام شخصية جديدة مش مذكورة في أي ملف
لا في تحقيقات يوسف، ولا في ملفات التنويم
بس سُهى نطقت جملة بتغيّر كل حاجة
ريما سألت
إزاي يوسف بعقليته وتحكمه يطلع مجرد تابع؟
الأخصائي ردّ
عقلي زي يوسف بيبان إنه الأصل لكن في النماذج اللي شفناها قبل كده، دايمًا بيكون فيه شخصية في الظل
مش لازم تظهر
هي بس تصنع وتنسحب
في مكان هادئ داخل المركز، جلست ليان على السرير، ماسكة دفترها
إيدها بتكتب، لكنها مش حاسة إنها اللي بتكتب
الصفحة الأولى كانت بيضا،
لكن الجملة اللي خرجت منها
أحيانًا الخطر مش اللي درّبك
الخطر هو اللي قرر تختفي منه
قامت وهي مرعوبة
فتحت الأدراج، قلبت كل حاجة، وكأنها بتدوّر على نفسها
دق الباب
دخلت ريما
ليان، لازم تشوفي حاجة
أخذتها إلى غرفة مظلمة، فيها شاشة مراقبة
ده جزء من ملفات يوسف اللي لقيناها مشفّرة
قدرنا نفك ملف فيديو بس بصي بنفسك
**
شاشة العرض اشتغلت
فيها كاميرا قديمة، مكان مغلق، غرفة فيها طاولة واحدة
على الطاولة يوسف
قدامه دفتر
بس ما كانش لوحده
رجل تاني، ما بانش وشه
ظهره للكاميرا
صوته هادي، لكن فيه سيطرة مخيفة
قال ليوسف
الأسماء مهمة كل اسم بتديه لواحدة، هو كود لغلق ذاكرة وفتح شخصية
يوسف ردّ
بس في واحدة ما استجابتش سُهى
الرجل صمت لحظة، ثم قال
سُهى مش للفتح
سُهى للحماية
الفيديو اتقطع فجأة
طارق ضغط على الشاشة
ما فيش أي طريقة نعرف مين الراجل ده؟
ريما هزت رأسها
ولا بصمة، ولا وجه، ولا صوت معروف
بس لقينا اسمه على ورقة صغيرة جوه ملف سري في الهارد مجرد لقب مكتوب بخط إيد يوسف
'العرّاب'
ليان وقفت مكانها، جسمها بيتجمد
قالت وهي تهمس، كأن الكلام بيطلع لوحده
العرّاب
وضعت يدها على رأسها، وعيناها مليئة بالحيرة
مش فاكرة بوضوح
بس الاسم ده رنّ جواي كأنه جاني قبل كده في حلم؟ أو وهم؟ معرفش
طارق بصّ لها بتركيز
إيه اللي بتحسيه لما تسمعي اسمه؟
كأن في باب بيتفتح بس مش قادرة أشوف وراه
بس متأكدة إن اللي وراه مش زيه
في نفس الليلة، كانت ليان لحالها
قعدت قدام المرايا، فتحت دفترها، وكتبت
أنا نور، أنا رحمة، أنا ليان، أنا سُهى
وكلنا بنسأل سؤال واحد
فين العرّاب؟
مرّ يوم كامل على ظهور الاسم
العرّاب
ورغم قلة المعلومات، إلا أن مجرد نُطق الاسم خلّى المركز الأمني يتحول لمتاهة توتر
طارق كان بيحاول يستخرج أي ملف له علاقة بالاسم، ريما كانت تراجع كل صور الوجوه المرتبطة بيوسف لكن لا شيء
العرّاب ما كانش مجرم كان شبح
ليان كانت في غرفتها، تدون أفكارها، بس إيدها كانت بترتعش
ما كانتش قادرة تفصل بين سُهى وبين نفسها
كل ما تحاول تكتب أنا ليان تلاقي نفسها بتكتب
أنا الباقي من الكل
بدأت تحس إن فيه حضور بيراها من جواها
وهي بتبص في المراية، لمحَت ظل واقف وراها
لفّت مفيش حد
لكن السكون اللي في الجو ما كانش طبيعي
المفاجأة حصلت الساعة 213 صباحًا
إنذار الطوارئ اشتغل
الحرس هرعوا للبوابات
شخص مجهول واقف بهدوء تام قدام البوابة الرئيسية
بدون أي حركة عدائية
ولا سلاح
بس بيبص للكاميرات كأنه بيقول
أنا جيت
طارق كان أول من وصل لغرفة المراقبة
شغّل الصوت، وفتح الكاميرا الأمامية
قال الرجل من غير ما يصرخ
أنا هنا أقابل سُهى
صوته ما كانش عالي
بس تقيل
فيه نبرة تخترق الجلد وتوصل للعظم
ريما اتجمّدت مكانها
إنت مين؟
رد من خلال مكبّر الصوت عند البوابة
قولي للبنت اللي بتغير أسمائها إن العرّاب مستنيها
طارق أمر بعدم فتح البوابة
تم عزل المنطقة كاملة
الكل تمركز في نقاط حرجة
قناصين فوق الأسطح
لكن الرجل ما تحرّكش ولا حتى خطوة
كان واقف، هادي، كأنه هو اللي بيشوفهم مش العكس
داخل المركز، ليان كانت نايمة، بس نوم مش مستقر
بتتقلّب، وبتهمس بكلمات مش مفهومة
فجأة صحت بفزع
مش من حلم
من إحساس
كأن حد نادى اسمها القديم في أذنها
دخلت ريما بسرعة
ليان لازم تيجي معايا حالًا
فيه إيه؟
فيه راجل واقف عند البوابة وبيقول إنه العرّاب
وبيقول إنه جاي ليكي
ليان اتجمدت في مكانها
جاي ليّا؟ بس أنا ما اعرفوش
ريما قالت
بس هو يعرفك
وعارف أسماءك كلها
تم اقتياد ليان إلى غرفة مراقبة داخلية، فيها زجاج عاكس يطلّ على غرفة انتظار الطوارئ
دخل الراجل
بدون أي مقاومة
أخد كرسي، وجلس
عمره تقريبًا بين 55 و60
بدلة رمادية
نظراته هادئة لكن فيها شيء مخيف
هدوء اللي عارف كل حاجة
ليان وقفت من ورا الزجاج
مش قادرة تشيله من عينها
طارق سألها
شفتيه قبل كده؟
قالت بصوت مبحوح
مش فاكرة بس في حاجة فييّ بتعرفه
وفي اللحظة اللي بصت له فيها
هو لفّ وشه ناحية الزجاج، وكأنه عارف إنها واقفة
وابتسم
ابتسامة خفيفة، مش متصنعة
ابتسامة أب
أو
مُبَرْمِج
الغرفة اللي فيها العرّاب كانت صامته تمامًا، زي عقل نضج بالخطايا
الرجل جلس على الكرسي كأنه ما عندوش أي خوف
ولا قلق
ولا ندم
بس نظراته كانت بتراقب كل التفاصيل حواليه كأنه بيعيد تنظيم المكان في دماغه
خلف الزجاج العاكس، ليان كانت بتتصبب عرقًا، رغم إن الغرفة مكيّفة
قالت وهي بتهمس
أنا مش قادرة أفتكر وشه
بس قلبي بيتصرف كأني شُفته قبل كده
مش شُفته اتحكم فيا
طارق قرر إنه ما يستناش أكتر
أمر بنقل الرجل لغرفة استجواب خاصة
ثم التفت لليان
إنتي الوحيدة اللي هيقدر يتكلم معاها
إحنا هنا، بس هتدخلي لوحدك
دخلت ليان الغرفة
الرجل كان قاعد بنفس الوضع
ما تحركش
بس لما شافها ابتسم
أخيرًا شفنا بعض من غير مرايات
ليان جلست قدامه، على بعد متر فقط
قالت بحذر
إنت مين؟
أنا؟
أنا المهندس اللي حط حجر الأساس
سكتت، ثم قالت
إنتَ اللي خلقت يوسف؟
أنا علّمته علشان يصنع اللي ما قدرتش أنا أكمّله
وسُهى؟
نظر لها نظره طويلة، ثم قال
هي الخطأ اللي ما توقعتوش
كنت فاكر إن تقسيمك هيمنعك من توصلي لجزء معين فيك
لكن سُهى كانت أذكى من يوسف، وأقوى من رحمة، وأهدى من ليان
سُهى شفتي؟ كانت قنبلة نووية، بس صامتة
ليان همست
كل ده كان تجارب؟
لا كان مشروع
مشروع إيه؟
إنشاء عقل بشري قابل للبرمجة، ذاتي التدمير الذكي
كان الهدف نخلق وحدة بشرية بتقدر تنفّذ تعليمات معقدة ثم تمحي آثارها
إنتِ كنتِ أنجح نموذج
رجعت في كرسيها للوراء، كأن الأرض اتسحبت تحتها
أنا ما كنتش طفلة ضايعة؟
أنا كنت خطة؟ كود؟
كنتي البداية والنهاية
ومعرفتش تتحرري إلا لما يوسف فشل في السيطرة على سُهى
طارق ضغط زر التسجيل من غرفة المراقبة
ليان قالت بصوت ثابت لأول مرة
ليه بتسلّم نفسك؟
العرّاب ابتسم
أنا ما سلّمتش نفسي
أنا جيت أتفرّج على النتيجة
وأنهي الكود
يعني إيه؟
يعني بعد دقايق هتفقدي السيطرة على كل الشخصيات اللي جواكي
وهيرجع الجسم لحالة 'النواة'
أو بمعنى تاني هتموتي كليًا
ليان قامت واقفة
مش هتقدر تعمل ده انتهى وقتك
قال بهدوء
وإنتي فاكرة إني مش حاطط زر داخل عقلك يشتغل بكلمة؟
ثم همس كلمة واحدة
افترضي
في اللحظة دي، ليان سقطت على الأرض، إيديها بتتشنج، وجسمها بيهتز، وعيونها بتتلوّن بنظرات مختلفة
ريما صرخت
افصلوا النظام سحبوا الكرسي منها دلّكوها فورًا
كل شيء في دماغها كان بينفجر
رحمة بتصرخ
نور بتعيط
سُهى ساكتة
لكن عينها بصّة على العرّاب
وفي عقلها جملة واحدة خرجت
فيه شخصية رابعة وأنت نسيت تحذفها
في غرفة الطوارئ، الجرس يصرخ، الأجهزة ترنّ، طارق يصرخ
اضرب الأدرينالين اضربه دلوقتي
ريما كانت ماسكة رأسها، بتشوف ليان بترتجف، صوتها بيتكسر، وكل كلمة بتقولها بصوت مختلف
مرة طفلة
مرة شابة
مرة صوت بارد غامض
لكن فجأة، وسط التشنجات، ارتفع صوت جديد
مش زي رحمة، ولا سُهى، ولا ليان
كان هادي لكنه ثابت
أنا مش واحدة منهم
أنا اللي ما اتحطّتش في الخطة
طارق سأل الطبيب النفسي
ده انهي اسم؟ ده صوت مين؟
الدكتور بص للملف، قلب الأوراق، ثم همس
دي مش موجودة في أي سجل
ليان أو الجسد هدأ فجأة
عيونها اتفتحت
لكن النظرة مش من أي حد اتعرفناه
قامت من على السرير ببطء
وقالت
أنا مش ليان
مش رحمة
مش نور
ولا حتى سُهى
أنا 'رُقيّة'
**
ريما شهقت
إيه؟
رُقيّة مشيت ناحية المراية
نظرت في عيونها وقالت
أنا انولدت من لحظة التكرار
لما البرمجة ما اشتغلتش، لما الذاكرة اتقفلت واتفجّرت أنا كنت الرد الطبيعي
مفيش نظام بيركب فوق تاني بدون ما الجسم يولد مقاومة
وأنا كنت المقاومة
**
دخل طارق الغرفة
وقف قدامها وقال
إنتي كنتي مخفية؟ من إمتى؟
رُقيّة ابتسمت
من أول جلسة يوسف عملها
أنا كنت المراقب اللي ما حدش شافه
كنت بكتب
كنت بنسخ
كنت براقبكم كلكم
بما فيكم العرّاب
**
وفي غرفة المراقبة
العرّاب كان واقف، بيتفرج من الشاشة
لكن لأول مرة
وشه تغيّر
نظراته ما كانتش باردة
كان فيها ارتباك
همس لنفسه
ده مش المفروض يحصل
رُقيّة بصّت في الكاميرا وقالت
أيوه مش المفروض
بس إنت نسيت حاجة
حتى في أكتر الأنظمة إحكامًا
بيظهر خَط من النور من جوّا
**
طارق سألها
إنتي جايه تعملي إيه؟
ردت وهي بتمشي بهدوء ناحية الباب
أنا مش جايه أهرب من الماضي
أنا جايه أفرمتكم كلكم
آخر لقطة
ليان واقفة في الكوريدور، جسمها واقف لكن اللي جواه دلوقتي اسمه رُقيّة
وفي عقلها خطة
وفي وعيها كل الأسرار
كان المركز الأمني بيهتز
مش من انفجار،
لكن من حالة جوّاه ما حدش قدر يتحكّم فيها
رُقيّة
اسم ما كانش متسجل
ما حدّش ناداه
ولا اتعلم
لكنه وُلد لوحده
نظام جديد خرج من بين الشروخ،
مش للانقاذ
لكن لـالإغلاق
في غرفة التحقيق، العرّاب جلس لوحده
إيده مش مربوطة
لكنه ما اتحركش
كان ساكت وبيفكر
وفي لحظة، قالها
هي فعلاً مش كود دي فيروس واعي
رُقيّة كانت ماشية في ممر المركز، خطواتها ثابتة،
لكن ورا كل خطوة كانت بتتساقط جزء من الذاكرة
نور؟ اختفت
رحمة؟ انطفأت
سُهى؟ ما بقتش ترد
كأن النظام الداخلي بيحذف كل ملف،
ويبقي على واحد بس
هي
ريما حاولت توقفها
ليان استني
ردت بنظرة جامدة
مفيش ليان
خلصنا من ده
طيب إنتي رايحة فين؟
أقابل الراجل اللي حط أول نقطة كود
وأطفّي كل حاجة
دخلت غرفة التحقيق
الباب اتقفل وراها
العرّاب رفع راسه، شافها
قال
فكّرت إنك مش هتيجي
أنا ما جيتش
أنا اتفعّلت
جلسوا وجهاً لوجه
العرّاب
كنتي فكرة تحوّلت لكود
الكود تمرد
بس في النهاية لازم النظام يقفل
رُقيّة بصت له وقالت
الأنظمة اللي بتبنيها علشان تسيطر دايمًا بيطلع منها حاجة خارجة عن السيطرة
وأنا مش ضد النظام
أنا نهاية الفكرة نفسها
مدت إيدها بهدوء،
وسحبت من جيبها شريحة USB، كانت مغروسة في جيب قديم من أيام يوسف
دي فيها أول جلسة برمجة اتعملت
وفيها آخر كلمة قلتها لطفلة عمرها 10 سنين علشان تمحي اسمها
العرّاب شهق لأول مرة
إزاي؟
سُهى خبّتها
وكنت أنا المخزن
دخل طارق من غرفة المراقبة، ومعاه فريق تحليل الذاكرة
دي الشريحة اللي بتثبت إنك السبب في موت رحمة
وفي اختفاء سُهى
وفي تكوين وحدة بشرية تم التلاعب بعقلها لأهداف غير أخلاقية
العرّاب صمت
رُقيّة قامت، ووقفت وراه، وهمست في أذنه
مافيش كود بيبقى للأبد
حتى الكود البشري لو فاسد، لازم يتفرمت
في اليوم التالي، تم نقل العرّاب إلى محكمة دولية بتهم تجارب غير قانونية على بشر
وتم غلق كل المنشآت المرتبطة باسمه
أما ليان؟
فلم تعُد موجودة
رُقيّة تم نقلها إلى منشأة مراقبة نفسية مستقلة
لكنها ما كانتش مريضة
كانت واعية بكل اللي حصل
وكانت بتكتب كل شيء في دفتر، علشان اللي بعديها يعرف الطريق
وفي آخر صفحة كتبت
أنا مش نتيجة فشل
أنا نتيجة محاولة السيطرة على شيء ما يتسيطرش عليه
أنا ذاكرة استردّت نفسها