قصة "مدينة النبض "

قصة "مدينة النبض "

0 reviews

 "مدينة النبض"

في زمنٍ بعيد، لم تكن العملة ذهبًا ولا فضة، ولا حتى أوراقًا تُطبع في البنوك. في مدينة تدعى أوراليس، كانت العملة شيئًا أعجب من كل خيال… نبض القلب.
كل إنسان يولد وله رصيد محدد من النبضات، تقاس بجهاز صغير مغروس في معصمه منذ لحظة ولادته. كل خطوة، كل وجبة، كل كلمة، بل كل حلم يستهلك نبضًا. لم يكن أحد يعيش بلا مقابل، ولم يكن أحد يجرؤ على الإسراف في مشاعره، لأن الحب نفسه يستهلك نبضًا أكثر مما يحتمل الإنسان.

في هذه المدينة، عاش شاب يُدعى آيدن. كان هادئًا، رزينًا، يحسب كل نبضة كما يحسب التاجر دراهمه. لم يعرف يومًا معنى العاطفة العميقة، فقد تربى على قاعدة صارمة:

> "من يُسرف في مشاعره، يُفلس سريعًا… ومن يُفلس، يفنى".

 

لكن كل شيء تغيّر حين التقى بها… ليارا.

كانت مختلفة عن كل الوجوه التي اعتاد أن يراها. ضحكتها لم تكن محسوبة، نظراتها لم تكن حذرة، بل كانت وكأنها تسخر من نظام المدينة كله. كانت تؤمن أن الحب يمنح حياة لا يسلبها. حين ابتسمت له لأول مرة، شعر بأن جهاز نبضه يتسارع بشكل مخيف، حتى كاد يظن أن شاشته ستنطفئ.

حاول أن يبتعد عنها. حاول أن يقنع نفسه أن اقترابه منها يعني نهايته، لكن قلبه كان يتمرد مع كل لحظة، كأنه يكتشف لأول مرة أن هناك حياة خارج الأرقام.

وذات ليلة، التقاها سرًا قرب جدار المدينة الشاهق. قالت له بصوتٍ خافت:

"آيدن، هل تعلم أن هناك عالمًا خلف هذه الأسوار لا يعرف معنى تجارة النبض؟"
ارتجف وقال: "مستحيل… هذه مجرد أساطير يرويها الشيوخ."
ابتسمت: "أنا رأيته… هناك من يعيشون بلا قيود، بلا أجهزة، حيث لا يُحاسب أحد على دقات قلبه."


كلماتها اخترقت داخله مثل شرارة. لأول مرة، تخيل أن بإمكانه أن يحب دون خوف من الموت.

لكن المدينة لم تكن ترحم.
قوانين أوراليس كانت واضحة: من يتحدث عن العوالم الأخرى، يُتهم بالخيانة، ويُصادر رصيده من النبض حتى آخر قطرة.
وفي أحد الأيام، بينما كان آيدن يسير في الساحة الكبرى، رأى الجنود يقتادون ليارا مُقيدة بالسلاسل. أعلن القائد أن تهمتها "نشر الوهم ومحاولة الهروب من المدينة".

لم يتمالك نفسه، فاندفع نحوهم وهو يصرخ: "اتركوها! إنها لا تستحق الموت!"
لكن كلمات الحب هذه كلفته أكثر مما توقع… جهازه على معصمه أطلق صفيرًا حادًا، معلنًا أن نبضه ينفد بسرعة.

وقف أمام القائد، وعيناه لا تفارقان ليارا، وقال:

"خذوا نبضي كله، لكن دعوها تعيش."


ساد صمت ثقيل في الساحة، فالمدينة لم تعرف من قبل رجلاً يُقدم قلبه ثمنًا لحب.
الجهاز بدأ يعد تنازليًا… نبضة تلو الأخرى تتسرب من داخله. شعر ببرودة تسري في جسده، لكن عينيه ظلتا عالقتين بليارا، التي كانت تبكي لأول مرة بلا خوف من نفاد رصيدها.

وقبل أن تنطفئ شاشته، حدث ما لم يكن في الحسبان.
جهاز ليارا بدأ يضيء بشدة، كأنه يستقبل ما يفيض منه. النبضات التي ضحى بها آيدن لم تختفِ، بل انتقلت إليها، كأن الحب كسر قوانين المدينة الصارمة.

صرخ القائد غاضبًا: "هذا غير ممكن! القوانين لا تسمح بذلك!"
لكن الشعب الذي شاهد المشهد، أدرك الحقيقة: أن النبض ليس مجرد عملة، بل هو حياة تتضاعف حين تُمنح، لا حين تُختزن.

في تلك اللحظة، سقط جدار الخوف. الناس بدأوا يخلعون أجهزتهم واحدًا تلو الآخر، يكتشفون أن دقات قلوبهم حرة منذ البداية، لكنهم حُبسوا في وهم التجارة.

أما آيدن، فقد أغمض عينيه بين ذراعي ليارا. لم يمت… بل شعر لأول مرة أن قلبه ينبض بلا قيود.

ومنذ ذلك اليوم، صار اسمهما رمزًا لثورة في أوراليس. لم تعد المدينة تُقاس بالنبضات، بل بالحب الذي يزرعه الناس في بعضهم.

وهكذا، وُلد عالم جديد… من قلب قصة حب كسرت قانون المستحيل.
 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

5

followings

4

followings

1

similar articles