نصل الظل : الفصل الثاني: شرارة من الماضي

نصل الظل : الفصل الثاني: شرارة من الماضي

1 المراجعات

 

نسيم الصباح البارد كان ينساب بين أزقة قرية مالا، تلك القرية المتواضعة التي تنام في أحضان الجبال شمال مدينة نيكسار. الطيور بدأت زقزقتها المعتادة، وكأنها تؤذن لبداية يوم جديد… يوم لا يشبه ما قبله.

رغم البؤس الذي يلف أكواخها الطينية، ورغم الطرقات المتشققة والملابس الرثة، كانت مالا تنبض بالحب. أهلها طيبون، قلوبهم أنقى من الماء، يتقاسمون الخبز والملح دون سؤال، وكأن الحياة علمتهم كيف يكون الإنسان إنسانًا، حتى في أحلك الظروف.

وفي أحد أطراف القرية، يقف كوخ خشبي صغير، تعانق جدرانه أشعة الشمس الذهبية المتسلّلة من بين الغيوم. هنا، تبدأ الحكاية…

داخل هذا الكوخ، وبين أنفاس الصباح الأولى، تحرك جسد صغير فوق الحصير. فتحت عينان حمراوان ناريتان بهدوء، تلمعان في الظل كجمرتين، ثم نهض الفتى ذو الشعر الفضي بثبات، كمن تعوّد على النظام والانضباط منذ ولادته.

إنه كينغ فالديكار، الطفل ذو الثمانية أعوام… لكن من يراه لا يمكنه أن يصدق أن هذا الصغير يحمل في داخله نضج رجل، وهدوء حكيم، وعقل عبقري.

دون أن يُصدر صوتًا، مشى كينغ بخطوات خفيفة نحو برميل الماء، غمس كفيه، وبلّل وجهه. الماء كان باردًا، لكن عيناه ظلّتا ثابتتين…

رفع رأسه نحو السماء الصافية، تنفّس بعمق، وهمس بصوت يكاد يُسمع:

> “أمي ما زالت نائمة… سأعد الفطور بدلاً منها.”

 

دخل المطبخ، وهو يحاول ألّا يصدر أي ضجيج، لكن ما إن خطا أول خطوة داخله… حتى رآها.

أمه "هينا"، كانت واقفة هناك، ترتب الأواني بابتسامتها الدافئة المعتادة، والشال الخفيف يغطي رأسها كضوء الفجر.

قال كينغ بدهشة: — “أمي! ظننتكِ نائمة.”

رفعت رأسها، وابتسمت له كأنها تعرف أنه قادم، وقالت بصوت ناعم: — “ولدي… لما لا تنام مثل باقي إخوتك؟ ستُرهق نفسك هكذا.”

اقترب منها وقال بثقة رجلٍ صغير: — “أريد أن أكون قويًا، وليس كسولًا. الرجال يبدأون يومهم قبل الجميع، أليس كذلك؟”

ضحكت بخفة، ومسحت بيدها على شعره الفضي، وقالت: — “ما أروعك… حسنًا، ساعدني إذًا، أيها الفارس الصغير.”

في تلك اللحظة…

باب الغرفة يُفتح بعنف!

أريانا، الأخت الكبرى، ذات الشعر الذهبي والعينين البنيتين، تندفع للخارج كإعصار: — “هاهااا! أخيرًا استيقظت قبلك يا كينغ المغرور! اليوم يومي!!”

لكنّها تتوقف فجأة عند باب المطبخ، وعيناها تتسعان بصدمة.

— “مستحييييل!! متى استيقظت؟!”

رد كينغ بدون أن يلتفت حتى: — “قبلكِ… كعادتك.”

احتقن وجهها وقالت بعناد: — “سأهزمك يومًا ما، تذكّر كلامي!”

ضحك كينغ، وأدار وجهه إليها وهو يقول بثقة: — “في أحلامك الوردية فقط.”

وفي الخلف… سُمع صوت تدحرج خفيف، كان سيف، الصغير ذو الخمس سنوات، يركض نحوهما بفمٍ مفتوح ونظرة حالمة:

— “كينغ! من سيفوز؟ أنت، صح؟ أكيد أنت!”

صرخت أريانا وهي تضحك: — “سيف! أيها الخائن الصغير!”

ثم ضربته بخفة على رأسه، فمال إلى الخلف وهو يضحك ضحكة بريئة.

الضحك يملأ المكان…

و"هينا" تضحك معهم، تمسك قلبها من فرط الدفء الذي يفيض من لحظتهم.

ثم يُفتح باب الكوخ من جديد، ويظهر الأب – ويليام، بلحيته الكثّة ونظراته المرهقة، يمسح عينيه ويقول بنبرة نصف نائمة: — “ما الذي يحدث هنا؟! زلزال؟!”

تضحك هينا وترد: — “ليس زلزالًا… بل كينغ وأريانا، معركتهم المعتادة.”

هزّ ويليام رأسه وقال وهو يقترب: — “أنتم الثلاثة… أنتم كارثة تمشي على قدمين.”

صرخت أريانا وهي تشير نحو كينغ: — “أنا أتحداه! هنا والآن!”

نظر كينغ إليها بابتسامة جانبية وقال: — “لست متفرغًا لفاشلة.”

قال سيف بسذاجة: — “أريانا، كينغ سيفوز كالعادة، صح؟”

زمجرت أريانا مجددًا، وأمسكته من أذنه: — “خاين من يومك!”

ضحك الجميع… كأن شيئًا في هذا الصباح لم يكن عاديًا، كأن الهواء نفسه يضحك معهم.

قالت هينا أخيرًا وهي تضع الخبز الساخن على الطاولة: — “هيّا أيها الأبطال، لنجهز المائدة.”

اجتمعوا كلهم، أطفالًا وكبارًا، حول الطاولة الصغيرة. لم تكن هناك أطباق فاخرة ولا أطعمة كثيرة، لكن كانت القلوب مشبعة بالحب، والضحكات أطيب من كل النِعَم.

وبعد الفطور، ارتدى كينغ وأريانا ملابس المدرسة، حقيبتهما المهترئة على أكتافهما، وانطلقا نحو الطريق الترابي المؤدي إلى المدرسة.

وقف سيف عند الباب، يلوّح لهما بيده الصغيرة، وصوته يعلو خلفهما: — “احكولي كل شيء لما ترجعوا!”

لو عاد الزمن للوراء… لكانوا توقفوا لحظة، ونظروا إلى سيف نظرة أطول.

لكنهم لم يعلموا أن هذا الصباح قد

يكون آخر صباح بريء في حياتهم.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

3

متابعهم

1

متابعهم

2

مقالات مشابة